الموضوع: قدامك سكة سفر (عمر طاهر)

قدامك سكة سفر في 17أكتوبر 1981، تولي سيادة الرئيس حكم مصر، كنت طفلا متوحدا يعيش في جنوب البلاد طلبت منه المعلمة في حصة الخط أن يكتب علي السبورة جملة من اختياره فكتب (قدامك سكة سفر) وهو ما حدث بالفعل، أنهيت دراستي في ظل أربعة وزراء للتعليم، وشهدت زلزالا مدمرا حصد أرواح العشرات، وهللت مع الجماهير لوصولنا إلي كأس العالم علي يد الجوهري، قبلها كانت خريطة الغناء تغيرت مع ظهور حميد الشاعري واحتل الصدارة عمرو دياب الذي أكل دماغنا بالعالمية حتي تأكدنا أنه حصل عليها في برنامج الحلم الذي رسخ لوجود سيد أبو حفيظة في حياتنا، لكن قبلهما كانت العالمية بجد من نصيب الكابتن مجدي عبد الغني، أول لاعب مصري يحترف في البرتغال، في الوقت نفسه الذي كان فيه الكابتن حسن شحاتة يقود فريق المنيا للصعود إلي الدرجة الأولي قبل أن يكون شحاتة سببا في ميلاد عشرات قصص الحب في جنبات استاد القاهرة في 2006، وبالرغم من كل هذا الحب ارتفعت خلال الأعوام الثمانية والعشرين نسبة الطلاق والعنوسة كما ارتفعت الأسعار بانتظام، ويمكن معرفة ذلك من سعر تذكرة العودة إلي بلدتي في القطار التي سافرت إليها بعشرين جنيها وأسافر إليها الآن بخمسة وستين هذا في حال عثوري علي تذكرة في الشباك أصلا، وفي إحدي رحلاتي مررت بالقطار المحترق، كنت أستقل القطار الذي يسبقه، أما السفينة الغارقة فقد استمعت إلي مكالمة الاستغاثة الأخيرة من قبطانها بفضل الثورة التكنولوجية الهائلة التي ظهرت بعد سنوات من بداية سنوات حكم الرئيس بدخول مصر عصر الفضائيات ثم عصر الإنترنت ثم عصر الفيس بوك واليوتيوب، قبلها ظهر الموبايل وقد استهلكت خلال الأعوام الثمانية والعشرين ثماني معدات بدأت بالمعدة ذات الإيريال وانتهيت عند معدة أهم ما فيها إذاعة إف إم التي أعادت العلاقة بين المصريين والراديو من جديد، غيرت رقم هاتفي أربع مرات لأسباب لها علاقة بأن المناخ العام أصبح يسيطر عليه حالة من التطفل المجاني.
ثمانية وعشرون عاما، تم تكريم يوسف شاهين في كان وحصل نجيب محفوظ وزويل علي نوبل وتولي بطرس غالي قيادة الأمم المتحدة والبرادعي قيادة هيئة الطاقة الذرية واستقرت هيفاء وهبي في مصر بعد زواجها من رجل أعمال شاب وزارتنا السيدة فيروز مرة واحدة، ويبدو أنها أقسمت ألا تكررها فاستبدل بها منظمو الحفلات شاكيرا وستينج وبيونسية وبوتشللي وانريكو اجلاسيس وعروض والت ديزني علي الجليد، تعرضنا لخسائر بشرية موجعة بفقداننا لكثيرين: محفوظ والنقاش وعوض وأبو غزالة وصلاح أبو سيف وثابت البطل والشيخ الغزالي والشيخ الشعراوي، مات جمال حمدان محترقا وجاهين مكتئبا وأحمد بهاء الدين عاجزا عن الحركة وسعاد حسني غريبة عن وطنها وسعاد نصر بجرعة بنج زائدة ومحمد عبد الوهاب إثر سقوطه علي الأرض بقوة بعد أن تعثر في إحدي سجاجيد بيته، ورفعت المحجوب وفرج فودة علي يد الإرهابيين وسليمان خاطر في زنزانته وأحمد زكي قبل أن ينهي تصوير حليم ويحيي الطاهر عبدالله في حادث سيارة وعاطف الطيب في سن الأربعين، وفقد كل واحد منا شخصين علي الأقل من أفراد عائلته .
ظهرت بيننا مخلوقات جديدة مثل السلعوة وهجم الجراد علي البلاد مرتين وشهدنا خسوفين للشمس وأول تحليل للدي إن أيه في المحاكم علي يد ممثل شاب لتصبح قضايا إثبات النسب هي الموضة، وكان ذلك منطقيا لأن الموضة التي سبقتها كانت الزواج العرفي، خضنا حربا واحدة في الخليج حررنا فيها الكويت لكن الجيش تدخل قبلها للسيطرة علي شغب جنود الأمن المركزي في بداية الثمانينيات ثم عاد وتدخل منذ عام للمساعدة في حل أزمة رغيف العيش، استقر العراقيون بيننا وكانوا أفضل من سكن مصر من الأخوة العرب ولم يعيبهم شيء سوي أنهم تسببوا في ارتفاع أسعار العقارات، فرحنا بدخول المترو لكن معظمنا يشعر بإحباط يومي في ميدان لبنان ويتمني أن يصل المترو إلي أكتوبر وضواحيها التي تتسع يوما بعد يوم في الوقت الذي تتآكل فيه الرقعة الزراعية بمعدل سيقودنا سريعا إلي اليوم الذي لن يكون فيه فلاحون إلا في القرية الذكية.
امتلأت البيوت بمجلدات سليم حسن، أحد أهم مميزات مشروع القراءة للجميع، والذي أفرز جيلا مليئا بالكُتَّاب الموهوبين، المفاجأة أن الموهبة لم تعد ميزة، فقد ارتبكت حياة الكثيرين من الموهوبين خلال الأعوام الثمانية والعشرين بعد شعور ما بالظلم يغلف حياتهم دفعهم إلي الهروب من البلاد في قوارب خشبية رخيصة طمعا في فرصة حقيقية في مكان آخر، مات منهم من مات وفشل من فشل ولم تستطع الدولة أن تنقذ أحدا من الفارين سوي عصام الحضري، الذي ندد نادي القرن بهروبه، خاصة أنه كان يحصل علي الملايين بعقده مع النادي كمحترف، والاحتراف هو أهم ملمح في الأعوام الثمانية والعشرين وهو يشبه هامش الديمقراطية الذي حصلنا عليه في عهد السيد الرئيس، فالاحتراف نتجت عنه أرقام فلكية وانتقالات مفاجئة للاعبين من ناد لآخر وظهور لاعبين من جنسيات أجنبية دون أن نري كرة قدم حقيقية حتي هذه اللحظة، أما هامش الديمقراطية فقد سمح لنا بحرية الانتقاد دون أن يغير هذا شيئا.
خلال الأعوام الثمانية والعشرين دخلنا في ألفية جديدة استقبلناها بحفل ساذج عند سفح الهرم، تغيرت بعدها خرائط كثيرة في مصر، في الفن أصبح هناك نجم للجيل كاد تهربه من التجنيد يفقده جماهيريته، لكن المفاجأة أن تهربه وطد نجاحه وزاد من عدد محبيه في إشارة مهمة لتضاؤل حجم تقدير الوطن في قلوب جيل جديد اعتبر الموضوع جريمة لفقها له عمرو دياب. انتهت موضة أفلام المخدرات وظهرت الكوميديا ويلفظ المسرح أنفاسه الأخيرة تحت وطأة المربع الذي يخيم علي حياتنا (الفقر والجهل والمرض والمسلسلات بنوعيها العربي والمكسيكي). انتهت ظاهرة أفلام المقاولات وظهر الفيديو كليب ثم راحت زهوته وظهرت كليبات المحمول، كان أشهرها لمواطن تضع الشرطة عصا في مؤخرته. انتهي عصر الشواربي وبدأ عصر سيتي ستارز وأشباهه لكن بقيت وكالة البلح صامدة بفضل دعم البسطاء لها. لم نحقق فكرة المدينة الفاضلة لكننا نجحنا في تحقيق فكرة مدينة الحرفيين، قبلها استمتعنا بفك كوبري أبو االعلا وتحويله إلي قطعة فنية أثرية لا نعرف أين هي الآن، ثم تعذبنا والشرطة تخلي سوق روض الفرج بالقوة لتنقله بمن فيه إلي العبور. تغيرت خريطة الترفيه ودخلت محطات البنزين في اللعبة، هناك يمكنك أن تبدأ اليوم بأصناف شتي من القهوة المستوردة، وانتهي عهد المعمورة والعجمي والمنتزه مع انطلاق ظاهرة «البورتو» في مارينا والعين السخنة. انتهي عصر المقاهي التي تقدم السحلب والطاولة مع انتشار كافيهات البلاي ستيشن والفرابتشينو. تغيرت خريطة السير، أصبح القصر العيني شارعا ذا اتجاه واحد وزُوِّد كوبري أكتوبر بملاحق ومنازل ومطالع عديدة إلي أن ظهر المحور والدائري، لكن المثير للجنون أن الزحام يزداد مع ظهور كل طريق جديد. اتسعت خريطة العلاج بظهور فكرة الاستثمار في المشاريع الصحية. تغيرت خريطة الدين عدة مرات، هناك من اتبع التيار المتطرف بكل مافيه من عنف وقسوة، وهناك من اتجه لعبادة الشيطان ثم اعتدلت الأمور قليلا بظهور مشايخ الفضائيات إلي أن عادت النبرة المتشددة من جديد علي يد بعضهم في الوقت نفسه الذي كان البهائيون فيه يحاربون من أجل تغيير خانة الديانة في البطاقة الشخصية حتي يحافظوا علي هويتهم بعيدا عن محاولات التنصير والأسلمة التي تشعل كل يوم حربا خفية في الأقاليم. تغيرت خريطة التعليم بإلغاء السنة السادسة ثم إلغاء شعبتي العلوم والرياضة، ثم بقرار الحصول علي الثانوية العامة علي سنتين قبل أن تظهر الجامعات الخاصة. تغيرت خريطة النظافة فلم نعرف التلوث إلا بعد استحداث منصب وزير البيئة. طال التلوث كل شيء في حياتنا بداية من الدم مرورا بالماء والغذاء والهواء نهاية بالذمم. تغيرت خريطة الرجولة بظهور فن البلطجة، وتغيرت خريطة النساء بثورة عمليات النفخ والزرع، وتغيرت خريطة العلاقة بين الطرفين بظهور الفياجرا.
تغيرت أشياء كثيرة خلال الفترة لكن سيادة الرئيس كان الشيء الوحيد المستقر في حياتي، أصبح سيادة الرئيس قطعة من تاريخي الشخصي لا يمكن تجاهلها، صحيح أنني لا أعيش الحياة التي أحلم بها لنفسي وللآخرين، لكنني في الوقت نفسه أسأل: هل كان ممكنا أن تصبح الأمور أسوأ؟، سؤال إجابته سؤال آخر هو: هل كان ممكنا أن تصبح الأمور أفضل ؟، الإجابة صعبة خاصة أن الطريق من السبورة حتي لحظة كتابة هذا المقال لم يكن به أي شيء واضح علي الإطلاق.






http://dostor.org/ar/index.php?optio...d=13&Itemid=51