على الرغم من أننى لم أعتد أبداً ضرب الأمثال بحياتى الشخصية ، باعتبارها أمر يخصني وحدي ؛
إلا أن كثرة تعاملاتي مع شباب، حملوا فى أحلى سنوات عمرهم يأس الشيوخ وإحباط البائسين.وجدت انه ربما - وأقول ربما – يكون لمسار حياتى ،
الذى لم يكن أبداً سهلاً أو بسيطاً ، ما يعطيهم فكرة عن أهمية الكفاح ، وعن أن الحياة لا تعطى المتكاسلين أو المتخاذلين أو اليائسين ، سوى الفشل ،
الذى يغمرون أنفسهم فيه ، وكأنهم قد فقدوا الإيمان بخالقهم عزَّ وجلَّ ، وفى أنفسهم أيضاً ..للأسف.
فالإنسان لا يولد قط ناجحاً .... ربما يولد ثرياً ، أو منعماً ، أو فى كنف سلطة قوية ، ولكن كل هذا شئ ،
والنجاح شئ آخر تماماً ، فالنجاح أمر تصنعه أنت بنفسك ولنفسك ، ويعاونك فيه الخالق عزَّ وجلَّ ، لو أنك تستحقه ، وقديماً قال أحد العلماء عبارة جميلة ،
وهى " إن الصدفة لا تأتى إلا لمن يستحقها "، فحتى لو أعطيت أعظم صدفة فى الوجود لفاشل ، لما رأها ، أو حتى شعر بوجودها ،
من فرط انغماسه فى الحسرة على فشله ، وفى البكاء على حظه المسكوب فى الدنيا .
ومنذ بدأت رحلة حياتى العملية ، كنت أعانى بشدة ، ولكن شيئاً ما فى أعماقى كان يؤكد لى أننى سأصير يوماً ما شخص له شأن ما ،
وكثيراً ما كنت أجاهر بهذا الشعور لمن حولى ،
وكانوا فى معظمهم يسخرون من هذا ، ويتخذونه مادة لطيفة للفكاهة والسخرية ، ولكن هذا لم يفقدنى ثقتى وإيمانى أبداً ، لأن ذلك الشئ فى أعماقى ، كان وبكل بساطة .. التفاؤل.
بدأت رحلتى متفائلاً ، على الرغم من كل ما أعترضها من صعوبات رهيبة ، أوَّلها كان مشكلة الزواج ، وما يتطلبه من نفقات ، لم يكن بوسعى حتى التفكير فى عشرها ،
ولكن طاقة التفاؤل فى أعماقى جعلتنى أتقدَّم لطلب يد الفتاة التى أحببتها ، ولم يكن فى جيبى ، وقت أن جلست أمام والدها ، ثمن دبلتى خطوبة حتى .
وكان من الطبيعى أن يرفض والدها فى استنكار ، فهى ابنته الوحيدة ، ويتمنى لها بالطبع زوجاً ثرياً، ناجحاً ، صنع بالفعل مستقبله المشرق ،
وليس طبيب امتياز ، تخرَّج منذ شهرين اثنين ، ولا أحد يعلم بعد ، ما الذى يمكن أن ينتظره.
ولكن خطيبتى آنذاك ، وزوجتى فيما بعد ، وقفت إلى جانبى ، وأصرَّت على أن تتم الخطبة ، فما كان من والدها ، الذى لم يستطع التصدَّى لها ،
سوى أن يطالبنى بشبكة ، ومهر ضخم (بمقاييس ذلك الزمن) ، وبموعد محدود لإتمام كل شئ وكانت هى أيامها طالبة فى بدايات كلية الطب ، التى تخرًَّجت منها للتو .
وبحسبة بسيطة ، تعتمد على الأرقام والحسابات المنطقية العلمية فحسب ، كان ما يطلبه منى ليس عسيراً ، بل مستحيلاً بكا المقاييس ..
ولكن المدهش أننى وافقت .. والتزمت ، واستدنت ثمن دبلتين ، ولكن والدها رفض إتمام الخطبة رسمياً ، بدون الشبكة التى طلبها.
فى ذلك الحين كنت طبيباً يقضى فترة الامتياز ، وليس من دخل سوى راتبى الذى لم يكن يبلغ حتى خمسين جنيهاً شهرياً ، لذا فقد خرجت من عنده ،
وأنا أفكّر ، كيف يمكننى تدبير هذا المبلغ الهائل ، والالتزام بكل الالتزامات ، التى وافقت عليها منذ دقائق.
وهنا تظهر أهمية عامل الشرف والالتزام بالعمل ، وعدم ربطه بما يتقاضاه المرء منه ، بل بما أمرنا الله سبحانه وتعالى من الاتقان فيه،
فمع التزامى الشديد بالعمل فى المستشفى ، وتعاملى مع المرضى ، فوجئت بأحد الأطباء يطلب من التواجد فى عيادته ،
خلال الفترة التى سيغيب فيها خارج البلاد ، نظراً لما لاحظه من التزامى وحسن تعاملاتى.
فى نفس الوقت ، كنت أستغل ما حبانى به الله سبحانه وتعالى ، من موهبة فى الرسم ، ربما لا يعلم القرَّاء شيئاً عنها ، على عكس كل زملاء الدراسة ، فى كتابة ورسم لوحات الدعاية واللافتات الانتخابية ، ولافتات العيادات والمكاتب ، و.....وبعد ستة أشهر ، جمعت ثمن الشبكة وما حولها .... وتمت الخطبة .
ارتدت خطيبتى دبلتى فى إصبعها ، وصار من الضرورى أن التزم ببرنامج إعداد الزواج وادخار المهر والذى منه ،
والطبيب عاد إلى عيادته ، وفترة الامتياز شارفت على نهايتها ، والوقت يمضى فى سرعة ، ومدخول الإعلانات واللافتات يكفى بالكاد لنزهات ما قبل الزواج ، لذا فقد تقدَّمت بطلب لقضاء فترة التكليف الإجبارى فى محافظة قنا ، لما سمعته من أحد الزملاء الكبار ، عن ان العمل فيها مربح إلى حد كبير.
وفى عز الحر ، سافرت إلى قنا ، وبدأت فترة التكليف الإجبارى فيها.
كانت فترة عجيبة ، مرهقة للغاية ، وممتعة للغاية ، وحملت لى الكثير من المعارف والخبرات والقراءات ، واستمرت لعام وثمانية أشهر،
قبل أن يلتهمنى الإرهاق أو يكاد ، حتى أننى خسرت خلال تلك الفترة ثلاث وعشرين كيلو جراماً من وزنى ،
فقررَّت أن أنهى هذه الفترة ، بعد أن حصلت منها على ما يكفى لسداد المهر ، وشئ مما حوله.
قصة ما حدث بعد هذا طويلة ومرهقة ، ولقد سبق لى أن رويتها كاملة ، فى كتاب يحمل عنوان (رجل المستحيل ..أوراق لم تنشر)،
لذا فلا أجد ضرورة لإعادة روايتها هنا، ولكن يكفى أن يعرف القارئ إن تلك الرحلة شديدة الإرهاق، قد أنتهت فى مرحلتها الأولى،
بتوقيعى عقد كتابة سلسلة ملف المستقبل، وتحوَّلى من طبيب إلى كاتب محترف، وكان هذا فى أغسطس عام 1984.
لم يكن النشر نفسه هيناً أو بسيطاً، فقد وضعت شخصية رجل المستحيل ورسمتها، فى نهايات عام 1974، ثم كتبت أولى رواياتها ،
وكانت أيامها شخصية بوليسية، وليست مخابراتية، وبعدها تحوَّلت إلى ما هى عليه الآن، بعد لقائى بشخصية متميزَّة ، كان لها أثر كبير جداً فى حياتى.
وفى عام 1979، وكنت فى عامى الأخير فى كلية الطب ، حضرت إلى القاهرة ، وأنا أحمل أوَّل رواية من روايات رجل المستحيل المخابراتية،
ودرت بها على دور النشر، ولكنها قابلتنى كلها بالرفض، ما بين الرفض المهذب والمهين، وعدت بالرواية إلى بلدتى طنطا، أجر أذيال الخيبة،
ولكن العجيب أن هذا لم يصبنى أبداً باليأس ، بل ظل داخلى ذلك التفاؤل، الذى يصَّر على أن بكرة حتماً سيكون أحسن من النهاردة ، وأن الفشل مجرَّد جولة ، يستحيل أن أخسر عندها مباراة حياتى.
والواقع أن هذا الفشل كان أحد أفضل الأشياء التى حدثت لى ، فى حياتى كلها ، فقد سافرت بعدها إلى قنا ،
وقضيت تلك الفترة وسط جبالها ، بعيداً تقريباً عن المدينة ، وقرأت عبرها مئات الكتب والروايات ، وتطوَّرت أفكارى
ومفاهيمى ومعارفى ، مما كان له أكبر الأثر فى تطوَّر أسلوبى وكتاباتى أيضاً، وهكذا ظهرت الرواية الأولى لرجل المستحيل فى شكل جديد ،
لم يكن الأفضل بالطبع ، ولكنه كان أفضل كثيراً مما بدأت به.
وعندما عدت إلى بلدى ، بعد انتهاء فترة التكليف ، اتفقت مع زميل طفولتى الدكتور (محمد حجازى) وهو طبيب شرعى شديد التميَّز الآن،
على أن نفتتح سوياً عيادة طبية، لم نحظ فيها بأى نجاح، ولكننى كتبت فيها العدد الأوَّل من سلسلة ملف المستقبل،
وكان يحمل عنوان (أشعة ض)، ثم لم يلبث أن تطوَّر بعدها إلى أشعة الموت.
وفى تلك العيادة أيضاً، قرأت إعلان المؤسسة العربية الحديثة، الذى يطلب كُتَّاب خيال علمى للشباب، ومنها، وعلى الرغم من فشلها كعيادة طبية،
انطلقت إلى النجاح فى عالم الكتابة الروائية .
حتى هذا ، لم يكن بالأمر السهل ، ففى السنوات الأولى ، كنت أكتب فى غزارة شديدة ، حتى أننى كنت أفاجئ المؤسسة لقصة أسبوعياُ ،
مما جعلنى أسبق النشر بعدة سنوات ، ولكن المبيعات لم تكن توحى أبداً بالنجاح ، حتى أننى ذات يوم ، عرضت على الناشر ، الأستاذ (حمدى مصطفى) ،
ان نوقف السلسلة ، شفقة عليه من إنفاق نقوده فى أعمال فاشلة ، على الرغم من أننى كنت فى أعماقى مؤمناً بالنجاح ومتفائلاً ،
ولكن هو من كان يتحمل الخسارة فى ذلك الحين .
ثم فجأة ، ودون سبب واضح ، إلا أن الله سبحانه وتعالى يكافئ من يؤمنون به ويثقون فى أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاُ ،
حققت الروايات مبيعات هائلة ، وانتشرت فى الدول العربية ، من المحيط إلى الخليج .
وبعد ثلاث سنوات من المثابرة والاجتهاد والتفاؤل ، ذقنا أخيراً ثمرة النجاح ، ونعمنا بمذاقها الجميل .
ومن أجمل المذاقات فى الكون ، مذاق النجاح بعد كفاح طويل ، وصبر وانتظار، ومثابرة وجلد ، وتعب ومشقة، فكل العوامل السابقة ، هى التوابل الجميلة ،
التى تعطى النجاح مذاقه العظيم .
وهذا المذاق لا يروق للكثيرين ، لذا فمن أن بدأ ، حتى ظهرت معه عداوات عديدة ، وانتقادات قاسية ، ومحاولات تحطيم لا مبرر لها ،
وراح زملاء من الكتاب والصحفيين يهاجمون ما أكتبه ، ويصفونه بأنه نوع من الابتذال ، والأدب الرخيص ، وهو بعيد كل البعد عن هذا ،
ونسجوا حول شخصى البسيط روايات عديدة ، منها اننى مليونير ،
ولدى سكرتيرات ، ولدى فريق من الكتاب الشباب ، أعاملهم كالعبيد ، وأوقع على ما يكتبونه باسمى ، وأشياء أخرى عديدة تؤذى النفس ،
ولكننى قررَّت أن أشيح بوجهى عن كل ما يكتبونه أو يرددَّونه ، باعتبار أن الزمن ، والزمن وحده، كفيل بكشف كل الحقائق ،
وكل الوقائع ، ولثقتى فى أن الله سبحانه وتعالى يستجيب لدعوة المظلوم ، وينصره دوماً ، ولو بعد حين .
وفى عام 2008، جاء رد الاعتبار، بجائزة الدولة التشجيعية ، التى نلتها عن رواية (س-18) ، من سلسلة ملف المستقبل ،
والتى قلبت كل الموازين، فلم يعد هناك من يهاجم، أو يلقى الاتهامات، أو يسخر، أو يطلق تلك الشائعات السخيفة ،
وكأننى بالجائزة ، قد تحوَّلت إلى كاتب آخر ، بخلاف الكاتب القديم ، الذى لم يسلم من أقلامهم وألسنتهم أبداَ .
رحلة طويلة تجاوزت ربع القرن ،أتعشم أن تجدوا فيها ما يفيدكم ، وما يخبركم بما أردت قوله من البداية .
أن التفاؤل هو الأساس .. وهو النجاح .
والتشاؤم هو الفشل .. وهو الضياع.
هذا كله كان مجرد مثال بسيط، فى حياة متواضعة ، وبقى حديث عام ، عن التفاؤل والتشاؤم والامل ، وبكرة .. الذى هو حتماً .. أحلى م النهاردة ..بكثير.
المفضلات