وسط الجدال الصاخب الذي راح يجتاح كل وسائل الإعلام والنشر المصرية خلال الأسبوعين الأخيرين، بشأن ما يجري في قطاع غزة ومناطق الحدود المصرية المتاخمة لها، يبدو واضحاً أن القضية الأكثر إلحاحاً علي مختلف أطياف السياسيين والمثقفين المصريين، هي «الأمن القومي المصري»، الذي اتفق الجميع علي ضرورة حمايته بينما اختلفوا بعد ذلك في طريقة تلك الحماية.



ووسط ذلك الاختلاف حول طريقة الحماية، بدا أيضاً واضحاً أن «القضية الفلسطينية» عادت لكي تمثل لكل أطياف النخبة المصرية «قضية مصرية»، وليست قضية غريبة خارجية علي أصحابها إدارتها بأنفسهم والوصول بشأنها إلي الحل الذي يرضيهم ويحقق لهم ما يطمحون إليه من أهداف وحقوق.


هذه العودة للقضية الفلسطينية لكي تكون شأناً مصرياً خالصاً هو بالضبط ما كان قطاع كبير من النخبة المصرية المعارضة يتبناه طوال الوقت ويستند إليه في رفضه السياسات الخارجية للنظام المصري منذ زيارة الرئيس السادات إسرائيل عام ١٩٧٧ وتوقيعه معاهدة السلام معها عام ١٩٧٩ .


إذن، فقد كان من مميزات أحداث غزة ورفح علي كل ما فيها من سوءات وكوارث حقيقية أنها أعادت الاعتراف العام الصريح أو الضمني بمصرية القضية الفلسطينية أو بتعريب السياسة الخارجية المصرية بين مختلف قطاعات النخبة المصرية الحاكمة والمعارضة، علي حد سواء.


إلا أن هذه العودة «الحميدة» للقضية الفلسطينية إلي مكانها الطبيعي من الاهتمام المصري، وما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية المصرية، لم تتوافق في الحقيقة مع المقولات الأساسية حول الأزمة التي روجتها بعض قطاعات النخبة المكونة للحكومة والقريبة منها والمؤيدة للتحالف المصري مع الولايات المتحدة الأمريكية والأقرب لرؤيتها الليبرالية المحافظة، بهدف واضح وهو استغلال تلك العودة للاهتمام المصري بالقضية الفلسطينية من أجل تحقيق انفصال أوسع وأعمق بينها وبين الشؤون المصرية، خاصة المتعلقة بالأمن القومي والسياسة الخارجية، بحيث تكون مجرد عودة مؤقتة عارضة وليست دائمة متواصلة.


ومن أجل تحقيق ذلك الهدف المركزي، جري الترويج لمقولتين رئيسيتين وجهتا لعامة المصريين بغرض «تخويفهم» من أي إعادة للارتباط المصري الحقيقي بالقضية الفلسطينية وحشدهم في مواجهة أي تمصير لها أو لأي تعريب جديد للسياسة الخارجية المصرية.


جاءت المقولة الأولي علي الصعيد السياسي، وهي الزعم بأن الفلسطينيين من أبناء غزة، باقتحامهم الحدود المصرية ودخولهم إلي المدن والمناطق المصرية المتاخمة لها، إنما هم ينوون إما الاستيلاء علي تلك المناطق وخاصة رفح المصرية أو التوطن فيها هروباً من جحيم غزة الذي يعانون فيه طوال الوقت، بل ذهب البعض ممن يروجون لتلك المقولة إلي الادعاء بأن ذلك يتم بالتنسيق مع أطراف إسرائيلية، لها كل المصلحة في تطبيق هذا السيناريو.


والحقيقة أن هذه المقولة تتناقض كلية مع سلوك الشعب الفلسطيني بجميع فئاته منذ تعرضه لنكبة عام ١٩٤٨ واحتلال بلاده، حيث ظل الفلسطينيون في جميع المناطق التي نزحوا إليها خارج بلادهم، وفي المخيمات التي يقيم فيها بعضهم داخل بلادهم نفسها يرفضون التوطين حتي فيها هي، كما هو الحال بلاجئي عام ١٩٤٨ المقيمين بمخيمات عديدة بداخل غزة نفسها ولم يتوطنوا فيها وظلوا يعيشون بمخيماتهم في انتظار عودتهم إلي بلدانهم وقراهم بداخل فلسطين عام ١٩٤٨ كذلك فإن هذا الزعم يتناقض كلية مع ما دفعه أبناء غزة منذ احتلالها عام ١٩٦٧ من مئات الآلاف من الشهداء والجرحي والمعتقلين، لكي يحافظوا علي حقوقهم في الاستقلال والعودة، وأنهم ظلوا يرفضون حتي اليوم - هم وإخوانهم في جميع المناطق الأخري بداخل فلسطين وخارجها - أي حل لقضية العودة، لا يتضمن إقرار حقهم فيها، بما في ذلك كل الإغراءات المالية التي لاتزال تقدم لهم علي سبيل التعويض من أجل التنازل عن هذا الحق. فكيف بعد كل ذلك يمكن تصديق تلك المقولة الفاسدة التي يروجها البعض، من أن أبناء غزة قد قدموا للأراضي المصرية لكي يتوطنوا فيها؟


أما المقولة الثانية، فهي أمنية وتركز علي أن التدفق الفلسطيني المؤقت في سيناء يتضمن مخاطر تسرب عناصر «إرهابية» فلسطينية إلي الأراضي المصرية، بهدف تنفيذ عمليات إرهابية فيها ضد أهداف مصرية وإسرائيلية وأجنبية.


والملفت بداية في هذه المقولة أنها تتبني بالضبط المصطلحات والمضامين نفسها، التي تطلقها الدوائر الإسرائيلية علي من يحملون السلاح في مواجهة احتلالها الأراضي الفلسطينية، من أنهم إرهابيون، وهو ما يشمل في الفهم الإسرائيلي جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، دون تمييز بين من ينتمي لـ«فتح» أو لـ«حماس» أو لـ«الجبهة الشعبية» أو لغيرها.


والأمر الملفت الثاني هو سعي أصحاب تلك المقولة من المصريين للقيام بنفس ما يقوم به الإسرائيليون، من استغلال كون حركة حماس المسيطرة علي غزة ذات توجه إسلامي، لكي يلصقوا بها تهمة الإرهاب، جرياً علي ما يشهده العالم منذ هجمات سبتمبر ٢٠٠١ دون توافر أي دليل واحد لديهم علي صحة ذلك.


ويبقي لكي يدرك أصحاب تلك المقولة زيفها وكذبها أن نعرف أن حركة حماس من الفصائل القليلة في المقاومة الفلسطينية التي لم يسبق لها منذ نشأتها، أن قامت بعملية عسكرية واحدة ضد أهداف إسرائيلية خارج الأراضي الفلسطينية، كما أنها لم تقم أبداً بضرب أي أهداف غير إسرائيلية بداخل تلك الأراضي. ويبقي أخيراً أن يعرف من يروجون لتلك المقولة أن إسرائيلياً واحداً لم يقتل في مصر منذ توقيع معاهدتها مع إسرائيل سوي بأيد مصرية دون أي تورط فلسطيني، كما أن كل المصريين الذين قتلوا علي الحدود مع غزة - عدا واحد فقط - قتلوا بأيد إسرائيلية وليست فلسطينية، فهل تقوم بعد كل ذلك لمقولتهم قائمة؟!