حرب رمضان 1393 هـ



مما ينبغى على الأمم الراغبة فى الحياة أن تستحضر، فى كل جيل، بل مع ميلاد كل طفل جديد، مشاهد عزتها، وصور انتصاراتها، قديما وحديثا. وقد كان هذا هو أحد أهداف هذه السلسلة من المقالات المختصرة (أيام من رمضان).

ونتحدث فى هذه المقالة والمقالة التى تليها عن حرب رمضان 1393= أكتوبر 1973 بين المصريين والسوريين، من جانب، وبين العدو الصهيونى من جانب آخر.

إن المعلومات العسكرية والسياسية عما سبق حرب رمضان، وعن الحرب نفسها، وعما وقع بعدها إلى أن أبرمت معاهدة ما يسمى بالسلام بين مصر والعدو الصهيونى، مدونة فى آلاف الكتب باللغات كافة، بحيث يقف المرء بأدنى مراجعة على هذه التفاصيل، صحيحة موثقة، من الجانب العربى، أو مكذوبة مزورة من الجانب الصهيونى.

وليس فى طاقة هذه المقالات أن تؤرخ للمعركة ولا أن تأتى بجديد فى الشأن العسكرى أو الشأن السياسى. لكن غاية ما ترجوه هو أن تذكر بالمعانى العظيمة التى أحيتها هذه الحرب فى النفوس، وبالطاقات الجبارة التى فجرتها فى مئات الآلاف من الأفراد العاديين الذين حركتهم الحرب إلى الاهتمام بقضايا وطنهم وأمتهم.

لقد حقق الجيشان المصرى والسورى الأهداف الاستراتيجية التى كانت مرجوة من وراء المباغتة العسكرية الهائلة، التى فوجئ بها العدو الصهيونى على الجبهتين المصرية والسورية، فى لحظة واحدة، فى الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم السبت العاشر من رمضان 1393هـ السادس من أكتوبر 1973م.

كان هذا اليوم يوم عيد يهودى يسمى (عيد الغفران) ولذلك سمى الصهاينة هذه الحرب حرب الغفران. وكانت الاستعدادات المصرية لهذا اليوم، وللمواجهة العسكرية بوجه عام، قد بدأت بعد أيام قليلة من الهزيمة المروعة للجيوش: المصرى والسورى والأردنى، سنة 1967.
لقد احتلت إسرائيل فى يونيو سنة 1967 سيناء كلها، وكامل الضفة الغربية لنهر الأردن، أى كامل فلسطين التاريخية، ومرتفعات الجولان السورية، واستقرت بها استقرار من لا يظن ـــ ولو للحظة واحدة ــ أنه سيتركها ذات يوم.

وفى أثناء مناقشات عسكرية بين قادة الحرب الصهاينة علق موشيه دايان على مناقشة احتمال قيام المصريين بالهجوم على القوات الصهيونية عبر قناة السويس، ساخرا: «لكى تستطيع مصر عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف فإنه يلزم تدعيمها بسلاحى المهندسين الروسى والأمريكى معا» وكان يؤيده فى ذلك الجنرال بارليف الذى سميت باسمه التحصينات القوية على الضفة الشرقية من قناة السويس.

يقول المقاتل البطل الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية فى أثناء حرب رمضان: «إن هذه الشهادة من قادة العدو هى شهادة نعتز بها، لأنها تظهر عظمة التخطيط وروعة الأداء اللذين تم بهما إنجاز هذا العبور العظيم».

لقد حرمت الخطة العسكرية المصرية العدو الصهيونى من استخدام تفوقه فى الأسلحة والعتاد، وحرمته من فرصة إشعال سطح القناة بنيران شديدة الالتهاب يستحيل إطفاؤها بالطرق التقليدية، وأذهبت كل أثر للساتر الترابى الهائل وتحصيناته القوية (خط بارليف).

ولكن الأهم من ذلك كله أن خطة العبور قد نفذت بمنتهى النجاح، بل بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، وعبرت القوات المصرية نهارا، واستمر العبور متواصلا إلى أن أصبحت القوات المقاتلة كلها شرق القناة. وكانت النتيجة هى الهزيمة غير المسبوقة، بل الهزيمة الأولى، للجيش الصهيونى، وقعت نتيجة هذا التخطيط المحكم لمهاجمة العدو.

إن المعارك التى دارت فى الميدان لم تكن أقل أثرا ولا أعظم خطرا من المعارك التى دارت داخل مدينة السويس، عندما أراد العدو احتلالها، نتيجة العملية التى سميت بعملية (الثغرة) التى تمت بدخول قوات العدو فى نقطة غير مغطاة بقوات مصرية بين مواقع الجيشين الثانى والثالث فى منطقة الدفرسوار. وكانت الثغرة مقدمة لمحاولة العدو الصهيونى احتلال مدينة السويس. لقد قال الجنرال أهارون ياريف قبيل ذلك بقليل: «إن الوضع ليس سهلا ولا بسيطا، والحرب من شأنها أن تطول. إن الجيش الإسرائيلى فى وضع صعب، وقد اضطر إلى الانسحاب من خطوط وقف القتال (أى الأماكن التى احتلها بعد حرب 1967) إلا أن ذلك لا ينبغى أن يجعلنا نخاف بالنسبة لشعب إسرائيل أو مستقبله».


أما موشيه دايان فقد قال يوم 9 أكتوبر: «ليس لدينا فى الوقت الحالى إمكانية رد المصريين إلى ما وراء القناة، لقد دمرت المئات من مدرعاتنا فى المعركة، وفقدنا خمسين طائرة فى ثلاثة أيام ويجب أن ننسحب إلى خط دفاع جديد داخل سيناء.. إن ما يعنينا هو مستقبل دولة إسرائيل ولتذهب البحيرات المرة (كانت خط الدفاع الصهيونى الأول) أو سواها إلى الشيطان»!


لقد كانت بداية التسلل الإسرائيلى نحو السويس فى اليوم الحادى عشر من أيام حرب رمضان (21 رمضان 17 أكتوبر). وكان الهدف هو احتلال السويس بكل ما تمثله من قيمة ووزن وتاريخ واسم عالمى. واستعدت السويس للمقاومة التى كانت مقاومة شاملة شارك فيها الأهالى والعسكريون الموجودون فى السويس وأفراد الشرطة وعمال شركات البترول وهيئة القناة وأفراد الجهاز الحكومى ومتطوعو المقاومة الشعبية والدفاع المدنى وبوجه خاص أبطال منظمة سيناء.
وقاد المسجدُ المقاومةَ: فكان مسجد الشهداء، الذى يؤمه ويرأس مجلس إدارته الشيخ حافظ سلامة، هو مقر المقاومة، منه تنطلق، وفيه تحفظ إمداداتها، وبما يجرى فيه ترتفع الروح المعنوية للمقاومين جميعا.


عندما فكرت بعض القيادات التنفيذية المحلية فى التسليم لليهود إنقاذا للمدينة وسكانها بدأ الإباء من الشيخ حافظ سلامة، وشاركه فيه رجال المقاومة الشعبية، وضاعف من قدرتهم على التصميم عليه انضمام قادة القوات المسلحة وضباطها الذين كانوا فى السويس إلى هذا الرأى، وارتفع من مكبرات صوت المسجد نداءٌ بصوت الشيخ حافظ سلامة إلى أهل السويس يقول: «إن اليهود قد أنذروا المدينة بالاستسلام، وإن المدينة قد رفضت هذا الإنذار بإذن الله، وقررت مواصلة القتال إلى آخر قطرة من دمائنا، وعلى كل فرد من أفراد المقاومة أن يدافع عن موقعه إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، وما النصر إلا من عند الله».


لقد فقد اليهود فى مدينة السويس 67 دبابة ومصفحة، من الدبابات التى حاولوا أن يحتلوا بها مدينة السويس. هذا غير العربات المصفحة والعادية. وسحب اليهود كل ما استطاعوا سحبه من قتلى الجيش الصهيونى وجرحاه ومع ذلك فقد تركوا خلفهم 33 جثة لم يستطيعوا سحبها، وصرح الناطق العسكرى للجيش الصهيونى بأن قواته لم تدخل إلى مدينة السويس، ولم تسيطر عليها فى تكذيب صريح لتصريحاتهم السابقة.


لقد انتهت هذه الحرب العظيمة حرب رمضان 1393 ــ بمعاهدة تسمى بمعاهدة السلام بين مصر والعدو الصهيونى. ويحلو لبعض أصحاب الأقلام وذوى الألسنة أن يقولوا إنه ليس بيننا وبين الصهاينة عداوة بل صداقة. وهؤلاء يَغفلون عن أن أحدا لا يبرم معاهدة سلام مع أصدقائه، وإنما يسالم الناس أعداءهم، لمدة من الزمن، يسعى فيها كل طرف إلى استعادة قوته وترتيب عدته ليوم تقع فيه جولة جديدة من جولات العداء، وهذا واقع آت لا ريب فيه، وقد كذب الحاضر الصهيونى ظن بعض الطيبين أن حرب رمضان هى آخر الحروب، وأن حقن دماء الشباب العربى ممكن مع وجود العدو الصهيونى فى أرضنا، وثبت خطأ القياس على صلح الحديبية إذ كان عملا مداره كله على الوحى، وتبين، بعد الحرب على لبنان سنة 2006 والحرب على غزة سنة 2008/ 2009، أن ترك الجهاد مع استمرار الاحتلال لا يجوز

.
.{‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.}‬ (الأنفال: 15-16).
والحمد لله رب العالمين.