الموضوع: ست زكية

ست زكية

بقلمد. أيمن الجندى١٥/ ١٢/ ٢٠١٠

رقيقة، نحيلة، ريفية، متشحة بالسواد. قلبها أبيض كشمعة، كزهرة ياسمين، كقلب جوز الهند، كحليب ينبثق من ثدى أم تعرف الأمومة لأول مرة.
تأتى إلى بيتنا مع أفراح الشمس، تحمل فوق رأسها سلّة مليئة بخيرات الريف، تطرق الباب برقة، تجلس أمام المدخل فى وداعة، تفرش الجبن واللبن والبيض والزبد، تحمل البكارة والنضارة والطزاجة. البيض صغير جداً، وكرات الزبد مستديرة، واللبن قادم من ضرع بقرة وديعة متسعة العينين.
كانت « ست زكية» من معالم طفولتى الرئيسية، تحمل رائحة الشمس والندى وسنابل القمح والحياة الطيبة البسيطة، وكنت ألاحظ أنها لا تدق الجرس أبداً، وإنما تطرق الباب فى حياء، ترفض محاولات أمى المستميتة لإدخالها، لا تتقاضى ثمن بضاعتها إلا بعد محاولات عديدة، ودائما تتحفنا بهدية من خيرات الريف ثم تفر هاربة.. امرأة استثنائية تثير حيرة من حولها بكرمها رغم فقرها، وحيائها وتعففها الشديد.
ومرت الأيام بنا وبها. يتسرب الماء من أصابعنا، والدموع من أعيننا، ويفر العمر من أيدينا. تدور الأرض حول نفسها وتدور بنا، وتشغلنا الأحداث الجارية عن أشيائنا الثمينة.
لم أكن أتصور أنه سيأتى حين من الدهر أؤرخ لحياتى بست زكية. كنت أشاهدها وأنا ذاهب إلى المدرسة، إلى العمل، أو حين أزور أمى فى بيتها، شاردا فى أفكارى الخاصة، منهمكا فى حياتى اليومية. وفجأة ماتت أمى ذات ليلة حزينة. وبدا طبيعيا أن يختفى وجه ست زكية مع من ذهب من الوجوه الطيبة الحبيبة.
ومرت الأيام مرة أخرى تنحر فى شطآن سكينتنا، كنت أسير فى الشارع حين لاحظت امرأة عجوزاً ذات ثياب رثة تنقب فى القمامة. اعتصرنى الحزن على عجائز الوطن، فذهبت إليها كى أمنحها مالا، ربّت على كتفها النحيلة الواهنة، استدارت نحوى، رفعت رأسها، اتسعت عيناها فزعا حين رأتنى. عرفتنى وعرفتها: كانت هى «ست زكية».
انتفضت من المفاجأة. لم أتصور أن يتدهور بها الحال إلى التقاط القمامة. آه أيها الوطن!!. ماذا فعلت بنا وبها!!. انهمرت دموعى فى صمت، ورحت أهتز من الأسى، والحقيقة أننى كنت أبكى مصر كلها، وذكريات عمرى بأكمله: حياءها، تعففها، هداياها، كرمها، هروبها من وجه أمى كى لا تأخذ هداياها.
رحت أؤنبها لأنها لم تقصدنى، ولأنها اختفت، ولأن الوطن يضيق علينا، ويضيق بنا. طفقت تصغى فى صمت، وعيناها المنزعجتان تنظران نحوى فى أسى، وقد بدا واضحا أننى آخر إنسان كانت ترغب أن يراها فى هذا الموقف.
لم أكن أعرف بيتها، أو أستطيع الوصول له. وعدتنى - بعد إلحاح شديد ومناشدة بذكرى أمى - أن تحضر لتأخذ الراتب الذى خصصته لها. حضرت مرتين والحياء يجللها، بعدها اختفت تماما. ذابت فى زحام المدينة.
لم أستغرب. كنت أتوقع النهاية من معرفتى بها. هذه هى ست زكية كما عهدتها: تأكل من القمامة ولا تقبل الإحسان من أحد.


__________________________

بسم ألله الرحمن الرحيم
{ والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم }

ياتري حد بيشيل جزء من راتبة للمساكين و الغلابه الاقربون او الجيران او غيرهم