بسم الله الرحمن الرحيم
‏ ‏
‏((هل أعلمه الأدب أم أتعلم منه قلة الأدب))‏


مقالة للدكتور ميسرة طاهر في جريدة عكاظ

عبارة عن قصة فيها فائدة جميلة
من العدد رقم2364 وذلك في يوم الجمعه تاريخ 7/12/2007م

في كل صباح يقف عند كشكه الصغير ليلقي عليه تحية ‏الصباح ويأخذ صحيفته المفضلة ويدفع ثمنها وينطلق ‏ولكنه لا يحظى إطلاقا برد من البائع على تلك التحية، ‏وفي كل صباح أيضا يقف بجواره شخص آخر يأخذ ‏صحيفته المفضلة ويدفع ثمنها ولكن صاحبنا لا يسمع ‏صوتا لذلك الرجل.

وتكررت اللقاءات أمام الكشك بين ‏الشخصين كل يأخذ صحيفته ويمضي في طريقه، وظن ‏صاحبنا أن الشخص الآخر أبكم لا يتكلم، إلى أن جاء اليوم ‏الذي وجد ذلك الأبكم يربت على كتفه وإذا به يتكلم ‏متسائلا: لماذا تلقي التحية على صاحب الكشك فلقد تابعتك ‏طوال الأسابيع الماضية وكنت في معظم الأيام ألتقي بك ‏وأنت تشتري صحيفتك اليومية، فقال الرجل وما ‏الغضاضة في أن ألقي عليه التحية؟

فقال: وهل سمعت منه ‏ردا طوال تلك الفترة؟ فقال صاحبنا: لا ، قال: إذا لم تلقي ‏التحية على رجل لا يردها؟ فسأله صاحبنا وما السبب في ‏أنه لا يرد التحية برأيك؟ فقال: أعتقد أنه وبلا شك رجل ‏قليل الأدب، وهو لا يستحق أساسا أن تُلقى عليه التحية، ‏فقال صاحبنا: إذن هو برأيك قليل الأدب؟ قال: نعم، قال ‏صاحبنا: هل تريدني أن أتعلم منه قلة الأدب أم أعلمه ‏الأدب؟

فسكت الرجل لهول الصدمة ورد بعد طول تأمل: ‏ولكنه قليل الأدب وعليه أن يرد التحية، فأعاد صاحبنا ‏سؤاله: هل تريدني أن أتعلم منه قلة الأدب أم أعلمه ‏الأدب، ثم عقب قائلا: يا سيدي أيا كان الدافع الذي يكمن ‏وراء عدم رده لتحيتنا فإن ما يجب أن نؤمن به أن خيوطنا ‏يجب أن تبقى بأيدينا لا أن نسلمها لغيرنا، ولو صرت مثله ‏لا ألقي التحية على من ألقاه لتمكن هو مني وعلمني ‏سلوكه الذي تسميه قلة أدب وسيكون صاحب السلوك ‏الخاطئ هو الأقوى وهو المسيطر وستنتشر بين الناس ‏أمثال هذه الأنماط من السلوك الخاطئ، ولكن حين أحافظ ‏على مبدئي في إلقاء التحية على من ألقاه أكون قد حافظت ‏على ما أؤمن به، وعاجلا أم آجلا سيتعلم سلوك حسن ‏الخلق.

ثم أردف قائلا: ألست معي بأن السلوك الخاطئ ‏يشبه أحيانا السم أو النار فإن ألقينا على السم سما زاد أذاه ‏وإن زدنا النار نارا أو حطبا زدناها اشتعالا، صدقني يا ‏أخي أن القوة تكمن في الحفاظ على استقلال كل منا، ‏ونحن حين نصبح متأثرين بسلوك أمثاله نكون قد سمحنا ‏لسمهم أو لخطئهم أو لقلة أدبهم كما سميتها أن تؤثر فينا ‏وسيعلموننا ما نكرهه فيهم وسيصبح سلوكهم نمطا مميزا ‏لسلوكنا وسيكونون هم المنتصرين في حلبة الصراع ‏اليومي بين الصواب والخطأ.

ولمعرفة الصواب تأمل ‏معي جواب النبي عليه الصلاة والسلام على ملك الجبال ‏حين سأله: يا محمد أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال: ‏لا إني أطمع أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، اللهم ‏اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

لم تنجح كل سبل الإساءة من ‏قومه عليه الصلاة والسلام أن تعدل سلوكه من الصواب ‏إلى الخطأ مع أنه بشر يتألم كما يتألم البشر ويحزن ‏ويتضايق إذا أهين كما يتضايق البشر ولكن ما يميزه عن ‏بقية البشر هذه المساحة الواسعة من التسامح التي تملكها ‏نفسه، وهذا الإصرار الهائل على الاحتفاظ بالصواب مهما ‏كان سلوك الناس المقابلين سيئا أو شنيعا أو مجحفا أو ‏جاهلا...

ويبقى السؤال قائما حين نقابل أناسا قليلي الأدب:


‏هل نتعلم منهم قلة أدبهم أم نعلمهم الأدب؟