د. معتز بالله عبد الفتاح يكتب: الخروج من مأزق الثورة غير المكتملة

حين يقبض الجيش كمؤسسة على أمور الدولة بسبب (أو فى أعقاب) ثورة شعبية أو تمرد يهدد سلامة الدولة فنحن أمام احتمالات أربعة.
الاحتمال الأول: أن يقرر الجيش أن يحكم بنفسه (ومصر بعد 1952 مثال على ذلك).
الاحتمال الثانى: أن تكون قيادات المؤسسة العسكرية موالية للنظام السابق وتسعى للذود عنه من خلال استخدام القمع المباشر (مثلما فعل الجيش الصينى مع الثوار فى عام 1989). وهذان سيناريوهان قد تجاوزتهما الأحداث فى مصر.
الاحتمال الثالث: هو أن يكون الجيش راغبا فى وضع القواعد السيادية للدولة (مثل تحديد شروط السلم والحرب، والقيم العليا للدول مثل مدنيتها) ولكنه لا يرغب فى إدارة الشئون السياسية اليومية، أو ما شاع فى الأدبيات بمنطق أن الجيش «يُقعد القواعد» (Rule) والسلطة المدنية «تدير السياسة» (Govern).
وفى هذه الحالة تقوم القوات المسلحة بمهام إدارة شئون البلاد لحين تتمكن السلطة الحاكمة سابقا من إعادة تنظيم صفوفها بعد أن تكون تخلصت من بعض الأسماء القديمة والتى ارتبطت على نحو مباشر فى الفساد، أو باستنساخ قوى أخرى تترجم قرارات القوات المسلحة السيادية إلى إجراءات سياسية وحزبية.
وكان هذا هو دور الجيش فى رومانيا بعد مقتل تشاوشسكو حيث تحولت رومانيا من بعده إلى نمط من الديكتاتورية الأقل تسلطية تحت حكم أيين اليشكو. أى أننا أصبحنا أمام نظام غير ديمقراطى فى جوهره ولكنه يشهد مساحة كبيرة من حرية الرأى والتعبير التى لا تنال من جوهر تسلطية النظام.
وهذا فيه مزية من وجهة نظر الجيش وهو أن يظل الجيش قابضا على قواعد العمل العام، ولكن من خلف الكواليس.
والاحتمال الرابع: أن يتراجع الجيش تماما عن الحياة السياسية ويترك الأمر برمته للمدنيين كما هو الحال فى الدول الديمقراطية. ويبدو أن هذا هو السيناريو المعلن من قبل قيادات القوات المسلحة المصرية. ولكن هناك أكثر من مشكلة تواجه هذا البديل. أولاها: فترة الأشهر الستة، فستة شهور لن تكون كافية لإعداد كشوف انتخابات صحيحة، ولن تكون كافية لتثقيف المواطن المصرى بحيث يحسن استيعاب قواعد اللعبة الديمقراطية، ولن تكون كافية لأحزاب شباب الثورة أن تضرب بجذورها فى حياتنا السياسية. والخوف أن يعود رجال الأمن السابق للعب دور سياسى فى انتخابات قادمة سواء بشكل مباشر أو عبر مرشحين آخرين يقفزون من الصف الثانى والثالث لمقدمة المشهد. وقد أحسن الإخوان صنعا بأن أعلنوا، شرط أن يلتزموا، بأنهم لن يتنافسوا إلا فى حدود ثلث مقاعد البرلمان، حتى لا يزيدوا فى المشهد ألغاما فوق ألغام.
إذن ما الحل؟
الحل هو «التعدد فى إطار الوحدة» و«الوحدة فى إطار التعدد» القوات المسلحة لن تستطيع وحدها أن تدير عملية التحول الديمقراطى، لأنها ببساطة أعلنت، وأنا أصدقها، فى أنها لا ترغب فى أن تحكم البلاد بمعنى السيطرة على مؤسساتها السياسية والسيادية، رغما عن يقينى بأن لها رؤية بشأن القرارات السيادية الخاصة بالوضع المتميز للقوات المسلحة تسليحا وتمويلا وصلاحيات. وكى نساعد أنفسنا على التحول الديمقراطى الحقيقى فنحن بحاجة لتعدد فى الأحزاب، وتوحد فى القيادة.
أما تعدد الأحزاب والائتلافات وتنوع التوجهات، فهذا أمر غير مقلق فى ذاته لأن الشباب الثائر والقيادات الحزبية والسياسية هم فى الأصل يأتون من خلفيات متنوعة اتفقت على أهداف محددة دون أن ينفى ذلك عنهم اختلافهم فى الأصل. اختلافاتهم البينية اختفت لصالح التناقض الأكبر مع النظام، وستعود هذه الاختلافات البينية إن عاجلا أو آجالا.
لكن المهم ألا ينال تعدد وتنوع الثائرين من وحدة أجندتهم واتفاقهم على ما لا يقبلون.
بمعنى أن الحد الأدنى من المطالب لا بد أن يكون واضحا ومتفقا عليه، ثم يفاوض من يفاوض، ويأتلف من يأتلف، ويتحزب من يتحزب طالما أن الجميع متفق على ماهية الأسئلة الكبرى الموجودة على الأجندة، وما هى الإجابات الخطأ التى لا يريدونها (لأنه من الممكن وجود أكثر من إجابة صحيحة ومقبولة من أغلبية الثائرين).
أزعم أن أى إجابة تؤدى إلى سيطرة الحزب الوطنى على السلطة مرة أخرى قبل أن يطهر نفسه تماما من المسئولين عن أخطائه الكارثية السابقة هى إجابة خطأ. وأى تسامح مع فاسد هى إجابة خطأ. وأى تغاضٍ عن «التعبيريين» من الإعلاميين بلا محاسبة مهنية وسياسية (وربما قضائية لهم) هى إجابة خطأ.
وأى تعديل للدستور لا يوفر انتخابات حرة نزيهة هى إجابة خطأ. وأى حجر على حق المصريين فى الترشح للمناصب العامة (محلية، تشريعية، رئاسية) بقيود وضمانات معقولة هى إجابة خطأ. وأى اعتقالات أخرى أو عدم إفراج عن المعتقلين إجابة خاطئة.
وهكذا. إذن الاتفاق على الخطوط الحمراء سيسمح بهامش معقول من المناورة والتعدد.
وهذا هو المقصود بالتعدد فى إطار الوحدة.
أما الوحدة فى إطار التعدد، أى وحدة القيادة، فتعنى أن ننطلق من الاتفاق على الحدود الدنيا إلى وجود قيادة مدنية تتحدث باسم المصريين جميعا فى هذه المرحلة الانتقالية حتى نصل إلى تثبيت قواعد العمل السياسى التى ستفضى بنا إلى انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة.
مصر الآن بحاجة لتحالف من الأسماء المقبولة شعبيا للتأكيد على مدنية الدولة وديمقراطية مؤسساتها وقطع الطريق على الأسماء القديمة من احتلال الساحة مرة أخرى.
هذا التحالف عليه أن يقوم بوظيفة رباعية:
ـــــ وظيفة سياسية: تسعى فى النهاية لانتخاب رئيس توافقى (من الأفضل أن يكون غير حزبى)، ويكون شخصا لم تلوثه النزاعات الحزبية والانتهازية.
ــــ وظيفة تثقيفية: بمعنى تقوية مناعة الإنسان المصرى ضد القابلية للاستبداد والفساد و«الاستحمار» وفقا لمصطلح المفكر الإيرانى على شريعتى، وهذا ما يعنى أن تتم ترجمة هذه الوظيفة فى شكل قيادة تلتزم بقيم النهضة والديمقراطية والمؤسسية واحترام القانون.
ــــ وظيفة تأسيسية: تعيد بناء قواعد العمل العام على قيم العدل والعلم والمواطنة. ولا بد أن يكون واضحا لبعض المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية بأن جوهر هذه الشريعة هو العدل. وهو المعنى الذى أكده ابن القيم عندما أراد أن يعرف الشرع، فبدأ بالعدل وانتهى بالشرع قائلا: «إن العدل هو الأساس الذى قام عليه ملكوت السماوات والأرض فأينما ظهر العدل وأسفر عن وجهه فثم شرع الله ودينه وإن لم ينزل به وحى أو ينطق به رسول».
إذن إقامة العدل ستخدم عدة قضايا متشابكة منها إعادة الاعتبار للشرع لاسيما تفسيراته المستنيرة، ومنها تطبيق قواعد الحكم الرشيد التى استقرت عليها دراسات الإدارة والسياسة والقانون.
أما العلم فهو الساحة التى تراجعت مصر فيها كثيرا، ولا عجب أن نهضة جميع مجتمعات العالم المعاصر ارتبطت صراحة ومباشرة بقدرتها على الأخذ بأسباب العلم والنهوض بأحوال العلماء. والمواطنة هى المساواة أمام القانون رغما عن الاختلاف فى النوع والديانة.
ــــ وظيفة نهضوية: تقتضى من القيادة الجديدة أن تستفيد من خيرة علماء مصر فى الداخل والخارج، بأن تؤكد على أنها جاءت لتعيد مصر لأبنائها وتعيد أبناءها لها، وهو ما يقتضى رسم السياسات التى تعظم من المزية النسبية للمصريين فى الداخل والخارج.
وقد كتبت فى هذا المكان من قبل مقالا بعنوان: «كيف نجح الناجحون اقتصاديا» مستقرئا فيه الجوانب الإجرائية فى عملية التنمية الاقتصادية وفقا لعدد من الدراسات الأكاديمية.
إذن ما العمل؟
لا بد من أن يتنادى عقلاء مصر وأشخاصها الوطنيون فيما يشبه المؤتمر الوطنى العام من أجل الاتفاق على خطوط عريضة تساعد المجلس الأعلى للقوات المسلحة على إنفاذ ما تعهد به من التزامات. ومن الممكن أن تكون نقطة البداية الآن هى أن يتنادى الأفاضل الثلاثة الذين تتردد أسماؤهم بشأن الترشح لمنصب رئيس الجمهورية (الدكتور أحمد زويل، السيد عمرو موسى، الدكتور محمد البرادعى) للاجتماع من أجل الخروج ببيان موحد يعلنون فيه الحد الأدنى من الإجراءات التى تترجم مطالب الثوار.
ولهم قطعا أن يدعوا غيرهم للاجتماع للاستنارة بآرائهم، ولنترك للشعب المفاضلة بينهم وبين غيرهم حين تلوح الانتخابات فى الأفق. ولكن المهم أن يعلموا أن أفضل عمليات التحول الديمقراطى هى التى كانت فيها جبهة وطنية مدنية متماسكة تستطيع أن تتعاون مع القوات المسلحة فى إنجاز مهام المرحلة الانتقالية.
وبعد أن ندمر قواعد الاستبداد، ونرسى قواعد الديمقراطية، فليتنافس فى خدمة الوطن المتنافسون.