تنفعل وتغضب أكثرية الشعوب العربية والإسلامية بمسلميها ومسيحيها عند الحديث عن فصل الدين عن السياسة، ذلك لأن ثقافة هذه الشعوب تركز على العواطف والإنفعالات أكثر من العقل وهي ثقافة تنعكس في كل مكان يتواجد فيه العرب والمسلمون سواء في العمل الحزبي أو داخل أروقة أماكن العبادة المساجد أو الكنائس أو في مقار الجمعيات والمنظمات الأهلية، او حتى في النقاشات السياسية الخاصة والجانبية حيث يختلط الحابل بالنابل.
ولسنا بصدد إرجاع هذه الثقافة إلى المصدر الأساسي وهوالأديان سواء الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، فهذا شأن له متخصصون وباحثون، ولكن التاريخ والخبرة تؤكد أن ثقافة خلط الدين بالسياسة أدت إلى مجتمعات متخلفة وفقيرة وغير سعيدة وغير مستقرة مادياً ونفسياً بل وغير مستقرة أمنياً، وبها فساد أكثر من الدول التي طبقت نظم التعدد السياسي والحزبي وتداول السلطة والفصل بين الدين والدولة.
الذي لا يفهمة المواطن العربي بجملة “فصل الدين عن السياسة” هو القصد من هذا المعني، لأن المغرضين والإنتهازيين يروجون لفكرة خبيثة ألا وهي: “الفصل بين الدين والسياسة معناه إهمال الدين وشرع الله والحكم بقوانين وضعية من صنع البشر وهذا يخالف الشريعة والإيمان ونوع من الكفر بالله ودينه”
ولماذا يفهم المواطن العربي المفهوم العكسي وليس الأصلي من قول: فصل الدين عن السياسة؟
المقصود بفصل الدين عن السياسة هو عدم إستغلال الدين والأماكن الدينية ورجال الدين والرموز الدينية ووسائل الإعلام الدينية في الترويج لأفكار سياسية محددة أو لحزب سياسي بعينه ، والمقصود أيضاً هو عدم إستخدام دين معين في التشريع لأن ذلك يهدم فكرة الدولة العادلة التي تحكم مواطنيها بالعدل والمساواة وبذلك يتحقق مبدأ الندية والتنافس الذي يتيح لأفضل رجال السياسة تقلد قيادة الشعوب بغض النظر عن دينهم أو ميولهم الدينية.
الفكرة الأساسية هي عدم إستغلال المشاعر والعواطف الدينية للشعوب في التأثيرعلى قرارهم في إختيار قادتهم على أساس عاطفي ديني وليس على أساس عقلاني متزن، لذلك نجد أن قادة السياسة والمجتمع المدني في الدول العربية تستخدم الدين كسلاح سياسي في كل المعارك السياسية والإنتخابية.
وينجح الدين كسلاح سياسي في أوساط العرب والمسلمون، لأن شعوب هذه البلاد تعاني من تفاقم الأمية والجهل والتعصب وضحالة الثقافة وهذه هي البيئة الملائمة لللعب علي وتر الدين ، فيكفي لنشط سياسي أن يطلق على منافسه لقب “كافر” لكي يزيحه من أمامه فسلاح التكفير يستخدم بشكل دائم في المجتمعات الإسلامية للتخلص من المنافسين والمعارضين أو حتى السياسين المخالفين في الملة فالحرب ضارية وعنيفة حتى ضد الشيعة الذين هم أيضاً مسلمون.
يكفي أن يقوم شيخ كبير أو أسقف معروف بإتهام شخص بأنه عدو الإسلام أو المسيحية أو عدو الكنيسة لكي يستعدي الشعب ضده وبالرغم من أن معظم المؤسسات الدينية على سبيل المثل في مصر الأزهر والكنيسة القبطية هشة وكلها عيوب وبها مشاكل فساد إلا أن أعتى السياسيين حنكة وقوة ومعرفة حتى لو كان لديه مايكفي من الحكمة والعقل والوثائق سوف يهزم أمام أي شيخ أو قس بمجرد إتهامه بأنه كافر أو لا يحضر القداس.
لذلك لا عجب أن الدولة والمؤسسات الدينية في الأوطان مثل الأزهر والكنيسة تغضب عند الحديث عن “الإنتخابات الحرة” حتى في أوربا نفس الأمر بالنسبة للجاليات والجمعيات والمنظمات العربية لديها حساسية ضد آية إنتخابات شعبية حرة مباشرة فالفكرة قائمة دائما حول التعيين والمحسوبيات والعصبات والإختيار الإلهي.
نهاية الأمر والحصيلة النهائية هي أن يحكم العرب والمسلمون دولهم ومؤسساتهم وجمعياتهم ومنظماتهم في الداخل والخارج شخصية الدكتاتورالمتسلط وحوله شلة من المنتفعين والمنافقين والموت وحده هو الذي يحسم إنتقال السلطة من دكتاتور إلى وريث أي دكتاتور جديد.
وتعتقد الشعوب العربية أنها بريئة من هذا الوضع، ولكن الحقيقة هي شعوب متورطة في هذا النظام لأن ثقافتها تجعلها لا ترفض القيادات والسياسيين ورجال الدين الذين يلعبون علي العواطف والمشاعر الدينية بل ينسجمون معهم ويساعدونهم في مسك مقاليد القيادة والسلطة.
لقد أصبح بالنسبة للمسلم الحكم هو واجب ديني وأن المهمة الأساسية هي تحقيق الدولة الإسلامية بينما أصبحت الكنيسة هي الصوت السياسي للمسيحيين وحلت الكنائس والمساجد مكان الأحزاب وأصبح عضو مجلس الشعب يروج لنفسه داخل المسجد والكنيسة حتى هنا في النمسا مرشحي العرب من أصل عربي يستخدمون الكنائس والمساجد للدعاية الإنتخابية للمرشحين ويتم التركيز على وتر الدين أكثر من أي شئ آخر حتى أنني قرأت في إحدى الصفحات نداء “أنصر أمتك” لإنتخاب المرشح المسلم عمر الراوي، ولسنا ندري هنا مالمقصود بكلمة “أمتك”.
هل أمة المسلمين في النمسا هي “الحزب الإشتراكي” مثلاً؟ وفي نفس الوقت يقوم المرشح القبطي رجائي تادرس بالدعاية لنفسه داخل الكنيسة القبطية وأصبح المرشح المسلم يمثل المسلمون المرشح المسيحي يمثل الأقباط ، وأصبحت نظمنا الدكتاتورية بفضل هذه النماذج التسلطية صالحة للتصدير في المجتمعات الديموقراطية ، وبفضلها يصبح العرب أضحوكة المجتمع والصحافة وهدف سهل للتيارات اليمينية والنازية.
حتى الناشط السياسي حاليا في مصر د.محمد البرادعي الرئيس السابق للهيئة الدولية للطاقة الذرية يلعب على هذا الوتر فهو يذهب لزيارة البابا والكاتدرائية لإستمالة أصوات الأقباط ثم يذهب للمساجد للدعاية لنفسه ويصرح بأنه يريد دولة عصرية وحديثة قائمة على الديموقراطية ثم يناقض نفسه وينادي بحزب للأخوان المسلمين.
تعلق الشعوب العربية آمال التغيير إلى الأفضل على أمور كثيرة جداً وعلى شخصيات بعينها لا تختلف كثيراً في فكرها عن من يحكمها حالياً بينما تتجاهل السبب الأساسي في تعاستها ، ألا وهو ثقافة الخلط الخاطئ بين الدين والسياسة وبين العقل والمشاعر الدينية وهم مغيبون لا يعلمون أن هذه المشاعر التي تتحكم فيهم بالذات هي السلاح الذي يستخدمه الكل ضد مصلحة الشعوب نفسها.
لينظر العرب إلى الشعوب الغربية والمتقدمة وكيف لا يستطيع أن يأتي سياسي أو أسقف أو قائد ديني يضحك عليهم ويستغل مشاعرهم الدينية لأنها شعوب واعية مثقفة تفهم مصالحها ونحن لا ندعي أن النظم الغربية هي نظم نموذجية أو مثل أعلى لنا ولكن نؤكد أنها تعيش في حالة أكثر إستقراراً وأكثر غنى وأماناً وفيه يشعر المواطن بكرامته ، إنها شعوب أدركت تماماً أن وقت اللعب على وتر الدين قد ولي ولن يعود.
العربي المسلم والمسيحي يهربا من الشرق إلى الغرب بسبب الإضطهاد والتعصب الديني وعندما تستقر أحواله في الغرب وينعم بحياة كريمة يكتشف أن غول التعصب مازال يعيش في داخله بل ويمارسه ضد شريكه في الوطن هنا في الغربة ، ولا يريد أن يصدق أن عدوه ليس هو الآخر المسيحي أو السني أو الشيعي بل عدوه يعيش داخل قلبه إنه التعصب والتشدد والهوس الديني.
لذلك ليس من العجب أن المجتمعات العربية في الغربة هي صورة مصغرة من المجتمعات الفاسدة في الموطن الأصلي لأن نفس الشخص هو الذي صنعها ، هو هو لم يتغير ولن يتغير، تحول العربي في أوربا إلى مجتمعات موازية منعزلة ومجموعات مصغرة من النظم الديكتاتورية التي لاتحترم كرامة الإنسان ولا تحترم تعدد الأراء وإختلاف الملة أو الدين ولا تؤمن بالنظم الديموقراطية الحرة ، إنها مجتمعات مليئة بالأحقاد والكراهية والصدامات والتجريح، والرسائل المجهولة البذيئة المليئة بالأكاذيب والوقاحات، مجتمعات لاتفهم لغة الحوار وليس لديها ثقافة المجتمع المتمدن، تفهم فقط لغة المحاكم والغرامات والفضائح على صفحات الصحف.