بل أحياء ولكن لاتشعرون ....
صعدت درج السلم ووقفت امام باب احدى الشقق . وقرأت اللافتة " نقيب / حسين صلاح الدين " وقفت قليلا قبل ان اقرع جرس الباب وعادت بي الذاكرة لشهر مضي
..
..
كان الظلام دامسا
لا يفك ستره إلا ضوء القمر .
كان القمر بدرا فقد كنا في منتصف رمضان .... بالتحديد يوم 11 اكتوبر 1973
وكنا ننتظر انا وحسين في مخبأ ميداني بالقرب من الضفة الشرقية لقناة السويس .
كنا على وشك تنفيذ عملية قتالية تم تكليفنا بها
كان حسين متحمسا بشكل غير مسبوق وكان يتمنى ان يمر الوقت بسرعة لنبدأ التحرك مع باقي المجموعة
- كم اشتقت لأولادي
- نأمل ان نستطيع القيام بأجازات قصيرة بعد اسبوعين أو ثلاثة ان شاء الله
- بنتي الصغيرة ليلى لا استطيع ان انسى ابتسامتها الرقيقة وهي تودعني قبل سفري من أجازتي الاخيرة . لقد اشتريت لها عقدا به صدفات بحرية وبعض حبات الخرز الملون . كانت قد طلبته مني .أحضرته لها من السويس في طريقي وانا قادم من الاجازة أنظر كم هو جميل . وسيكون أجمل حين تضعه حول عنقها الصغير. ابتسامتها الرقيقة تنسيني الدنيا وما فيها
.
- ان شاء الله تعطيها العقد قريبا .هيا يا حسين . الوقت حان . لننطلق على بركة الله
..
واثناء المعركة كان حسين يقاتل ببسالة قلما تجدها . فعلا كان كالأسد المغوار . وكان له الفضل بعد الله في نجاح العملية
واثناء العودة تمكن احد افراد العدو من النيل منه
وكان حسين بين يدي في احد الخنادق
كان جسده مغطى بالدماء . لم نكن نكاد نعرفه من شدة اصابته . كانت رأسه على ذراعي وهو بالكاد ينطق الشهادتين بأنفاس متقطعة وانا احاول ان اساعده في شرب قليلا من الماء . وفجأة اذا بحسين يبتسم ابتسامة مشرقة وعيناه تلمعان وأنفاسه تتسارع ونظره متجه الى خارج الخندق . نظرت الى حيث كان ينظر . كان الغبار والدخان كثيفا . ورائحة البارود تختلط برائحة دماءه الطاهرة . لكننى رأيتها . رأيتها بوضوح . كان طيفا رقيقا . لكنه كان واضحا . كان طيفا لفتاة صغيرة في الخامسة تقريبا. وجهها كالقمر . عيناها تفيض نورا وبشرا وبراءة . تلبس فستانا ازرق . وحذاء اسود وجوربا أبيض . وشعرها يتدلى على كتفيها في ضفيرتين . اقتربت من حسين . وعانقته و طبعت على وجهه قبلة رقيقة . وكان حسين يبتسم بفرحة وشوق .الى ان لفظ انفاسه الاخيرة واسلم روحه الطاهرة الى باريها . وهنا انصرفت الفتاة مسرعة وهي سعيدة . كانت تركض بخطوات طفولية كأنها تلعب في حديقة . ثم التفتت ناحيتي ولوحت لي بيدها الصغيرة وأكملت طريقها .لم يكن الوقت يسمح بأن افكر فيما رأيته . هل كان حلما ؟ هل كان ملكا ؟ هل كنت اتخيل من تأثير الموقف ؟
ايا كان هذا الطيف .فلا وقت لدي . اغمضت عيني حسين وحملته عائدا به الي مقر الكتيبة
وحين عدت الى الكتيبة علمت انه لم ينجو من افراد العملية غيري وثلاثة من الجنود بعد تدمير الاهداف التي كنا مكلفين بها .
وأفقت على صوت الباب يفتح وزوجة حسين أو أرملته بالمعنى الأصح تدعوني للدخول
وبعد تبادل عبارات الترحيب ثم العزاء جاء محمد الابن الاكبر لحسين وسلم على .كان في العاشرة تقريبا
ثم جاءت ليلى .
يا إلاهي إنها هي .
نعم هي . لا يمكن ان أنسى وجهها . وترتدي نفس الملابس . الفستان الازرق والحذاء الاسود والجوارب البيضاء .
وسلمت على وطبعت قبلة حانية على وجهي قائلة " إزيك يا عمو . وحشتني " وكأنها تعرفني من قبل
لم اكن اقوى على الكلام كنت مذهولا من هول المفاجأة .
ليس من انها هي نفس الطيف الذي رأيته وحسب
بل للعقد الذي كانت ترتديه حول عنقها . لقد كان هو ايضا نفسه الذي رأيته مع حسين
..
منقول بتصرف عن قصة قصيرة ليوسف السباعي