السلفيون في أمريكا

فى أمريكا أناس يطالبون بإقامة حكم دينى أصولى، ويدعون إلى تمزيق الدستور الذى يعتبرونه وثيقة علمانية، واستبداله بوثيقة حكم جديدة ترتكز على الكتاب المقدس. وهؤلاء ينتمون إلى تيار إعادة البناء المسيحى، الذى يعلن أن هدفه «تغيير أمريكا، وشغل جميع المناصب بمسيحيين مؤمنين بالكتاب المقدس، والسيطرة على الإعلام الوطنى، وتدريس المعتقدات الأصولية كعلم فى المدارس العامة». وثمة مناقشات مستمرة بينهم حول ما إذا كان الحكم الدينى أفضل أم الديمقراطية. وهؤلاء ليسوا وحدهم ولكن «منظمة قساوسة من أجل الحياة»، يقولون صراحة إن الكنيسة تملى سياسات الأمة، إذ هى تعلن الحقيقة الربانية التى لابد لجميع السياسات العامة أن تتوافق معها. وحين رشح بات روبرتسون لانتخابات الرئاسة فى عام 1988، مؤيدا من «التحالف المسيحى» فإنه أعلن أنه: عندما تحكم الأغلبية المسيحية هذا البلد (أمريكا) فلن تكون هناك كنائس شيطانية، ولا توزيع حر للمجلات الإباحية، ولا ثمة حرية فى طلب الإجهاض ولا مزيد من الأحاديث عن حقوق المثليين (الشاذين جنسيا). وحينذاك سوف ينظر إلى التعددية باعتبارها أمرا غير أخلاقى وشريرا، ولن تسمح الدولة لأى أحد بممارستها.

هذا المعنى الأخير ردده فصيل آخر فى اليمين الأمريكى ـ راندل تيرى مؤسس منظمة «عملية إنقاذ» المعادية للإجهاض ـ فى قوله لأتباعه: أريدكم فقط أن تدعوا موجة اللاتسامح لتغمركم. أريد أن تسلموا أنفسكم لموجة من الكراهية. نعم أريد منكم ذلك، فالكراهية شىء طيب. وهدفنا إقامة أمة مسيحية. والكتاب المقدس يحملنا المسئولية. فالرب قد اختارنا كى نفتح هذا البلد. ونحن لا نريد مساواة أو تعددية.

ذهبت جماعة «جيش الرب» إلى مدى أبعد. فقد استهدفت عيادات الإجهاض وتورطت فى عمليات اختطاف وتفجير وقتل. ووفقا لتقارير عدة، فان الجماعة على صلة باستهداف تلك العيادات بمائتين وثمانين رسالة ملوثة بمادة الانتراكس السامة فى شهر أكتوبر التالى مباشرة لهجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، وحين أقامت الجماعة حفلا فى شهر يناير من ذلك العام بمناسبة العام الخامس لنشأتها. فان كثيرا من المتحدثين حثوا سامعيهم على تبنى العنف ضد تيارات الإجهاض واستحلوا دماء العاملين فى ذلك المجال.

فى تفسيرهم للكتاب المقدس فإنهم يؤمنون بان حواء خلقت من ضلع آدم، ومتأخرة عن خلقه لكى تشبع رغباته. وإنها كانت ضعيفة بطبيعتها ويمكن إغواؤها بسهولة، لذلك فان عقابها على الآثام التى وقعت بها يقتضى أن تعيش دائما حياة الخضوع. وهذه الخلفية هى التى تجعلهم يتمسكون بأربعة مبادئ هى: أن تخضع النساء للرجال ــ النساء أقل شأنا من الرجال ــ معاناة النساء فضيلة مسيحية ــ المسيحيات المؤمنات حقا ينبغى ان يصفحن عن إساءة معاملتهن.

الفقرات السابقة منقولة نصا من كتاب «أصول التطرف ــ اليمين المسيحى فى أمريكا» الذى حررته كيمبرلى بلاكر. وقد ترجم إلى العربية وصدر فى إطار المشروع القومى للترجمة فى مصر. والكتاب الذى طبع فى 420 صفحة يضم عدة دراسات أجراها عدد من المتخصصين الليبراليين ممن تصدوا لفكر المنظمات اليمينية التى تلعب دورا مهما فى الحياة السياسية الأمريكية، خصوصا فى محيط الحزب الجمهورى. وكان لهم دورهم المميز فى انتخاب الرئيس السابق جورج بوش.

أهم ما فى الكتاب أنه يسلط الضوء على عالم الأفكار الشاذة والمستهجنة الشائعة بين المتدينين الأمريكيين، والتى يعتنقها ملايين منهم، دون خوف أو هلع، ويراهن على أن الآلية الديمقراطية لا تسمح فقط بتداولها علنا، ولكنها تتيح إمكان تهذيبها واستيعابها بمضى الوقت من خلال حراك وقوة مؤسسات المجتمع المدنى. وقد عنَّ لى أن الفت الانتباه إليه بعدما لاحظت أن إعلامنا فى مصر وكثيرين من عناصر الطبقة السياسية لا يكفون عن الصراخ والعويل والهلع كلما سمعوا رأيا شاذا أو وقعوا على تصرف استهجنوه. علما بأن كل ما تعبر عنه دوائر اليمين الدينى فى مصر، لا يصل عشر معشار نظيره فى الولايات المتحدة ولا تسأل عن نظيره فى إسرائيل. ليس عندى أى دفاع عن الكلام الذى يردده الذين أقصدهم فى مصر. ولكنى معنى فقط بالدفاع عن ثبات المجتمع وتوازنه وحسن ترتيب أولوياته.
بقلم: فهمي هويدي