الموضوع: أم السعد ...

[justify]أن تستيقظ صباحاً وأنت تعلم أن هناك عدد من البشر تعرفهم ويؤثرون في حياتك ويشاركونك أحداث يومك بل ويتشاركون ربما بدون إستئذانك في صنع بعضها ، وأن هؤلاء هم المؤثرين في حياتك وفي أحداث وإحداثيات يومك ، وخطوط الطول والعرض بل والعمق ليومك بكامله ، ولكن أن تكتشف أن القليل من هؤلاء هم الجديرون بصفة بشر . هذا ما شعرت به اليوم وأنا أمام بيت أم السعد .

أم السعد كتلة الطيابة والحنية والحكمة .. بنك المحبة العامر .. بنك المشورة لكل ساكني الحي دون تفرقه أو تمييز .. تلك التي يجد لديها كل قاطني شارعنا كل ما يحتاجونه .. سواء كان إحتياجهم هذا مادي أم معنوي .. تُمثل تلك السيدة مصدر سعادة لنا جميعاً لذا فهي أم السعد .. منذ سكنا في هذا الشارع ونحن نعرفها .. لا بل هي التي أتت إلينا ، طرقت هي باب بيتنا وعرفتنا بنفسها .. أنا أم السعد جارتكم .. إنتوا نورتوا الشارع .. إنشاء الله نتونس بجيرتكم ونتشرف بيكم .

هذا ما تفعله مع كل قاطن جديد لشارعنا ، ربما يكون لهذا الوافد الجديد مطلبا ولا يعرف طريقاً لتحقيقه ، وحتماً هي تلبيه بأسرع ما يمكن وعن طيب خاطر تخدم الجميع .. لا تنتظر هي أي أجر من أي نوع ، وحتى إن وجه لها أحداً الشكر فلا يتعدى ردها كلمتين فقط .. الشكر لربنا .. ما أروع تلك السيدة سعداء الحظ نحن لأننا جيرانها .. حينما أتينا لهذا الحي لا أذكر العام بالتحديد ولكن أذكر الشهر .. أنه كان ديسمبر .. أذكر أنها أتت إلينا لتبارك لنا على البيت الجديد الذي اشتراه والدي .. وأذكر جيداً أنها أتت ومعها شجرة كريسماس مزدانة بأشكال من الكور الملونة والزينات وبابا نويل بزيه الأحمر المميز .. أضافت أيضاً بعد أن قالت .. أنا أم السعد جارتكم .. إنتوا نورتوا الشارع .. إن شاء الله نتونس بجيرتكم ونتشرف بيكم . بصوا بقى كنيسة العدرا في آخر الشارع .. أنا كلمت أبونا ميلاد هيجي يزوركم يوم السبت علشان تصلوا القداس معاه يوم الحد .

يا لروعة تلك السيدة .. أول معرفتنا بها كانت أن أتت هي إلينا ، ولكن بعد أن توطدت علاقاتي بالجيران ومر على تواجدنا بذلك الحي الهادئ أكثر من عشر سنوات لم يمر منها يوما إلا وأم السعد تلك المعجزة الربانية والهبة الرائعة من الله لنا جميعاً نراها متواجدة معنا في كل الأحوال في الأفراح والأحزان ، وأحلى تواجد لها دوما إذا حدثت مشكله بين أي من أفراد الشارع فتتدخل هي ليكون لكلمتها السمع والكل يخضع لما تقوله وما تأمر به .. أية إمرأة هذه .. يا لسعد إبنها هذا بها ، والذي لم نراه قط .

أذكر أن جارنا محمود حفني كان يحب فتاة تدعى هبه ، وإذ به يتقدم لخطبتها بعد أن أتم الخدمة العسكرية ولكن والدها رفض بحجة أن محمود أصغر أشقاؤه فكيف يتزوج وهو لازال في كنف والده ويعُامل مثل معاملة أي صبي جزار في محل الجزارة الشهير والمملوك لعم حفني .. حاول الكثيرون أن يتدخلوا ولكن لم تنجح محاولات أي منهم في إقناع الرجل وإزاحته عن رفضه .. ظل قلب محمود كسيرا وهبه محطمة الآمال ، ولكني إقترحت على محمود أن تتقدم أم السعد لمحاولة إقناع والد هبه ، وبالفعل ذهبت أم السعد ولم تخرج من بيت الرجل إلا وأصوات الزغاريد ترتفع ، وكانت أم السعد أولى المدعوات لحضور كتب كتاب محمود وهبه .

راحة غامره تلك التي تتبدل بإحساس الهم والغم الذي يسكن القلوب طالما تدخلت أم السعد .. أيضاً أتذكر وجدي إبراهيم هذا الذي إستيقظنا ذات صباح لنفاجئ بموت والدته المُسنه ، والجميع يعلمون ظروف وجدي ويعلمون إن الغسيل الكلوي وما سبقه من مراحل علاج زوجة عم إبراهيم - التي سبقها زوجها للقاء ربه - قد إستنزف هذا كل ما لهم من أموال حتى أنهم صاروا يبيتون على أرض لا يكسوها إلا حصير متهرئ حيث أن معاش المرحوم لكم يكن يكفي .. أتت أم السعد ودخلت المنزل المغلف بصراخ ملتاع مكتوم لفراق الأم التي تركت ثلاث بنات أكبرهن في الصف الثالث الثانوي وأصغرهن بالسادس الإبتدائي إضافة إلى وجدي الذي قطع تعليمه الفني ليعمل في ورشة نجاره في الصباح وبالمساء يتناوب العمل مع آخر كسائق على سيارة تاكسي .

أتت أم السعد ومعها بعض النسوة .. دخلت إلى منزل المرحوم إبراهيم .. إنتحت جانبا بوجدي واستحلفته بالمسيح والعذراء أن لا يردها ، وقدمت له مبلغاً من المال وقالت له شوف مين من الرجالة يروح معاك هاتوا أحسن حاجه للمرحومة .. تبدلت حالة الحزن القاتم تدريجياً واحتضنت هي وجدي وقال لها يا بخت ابنك بيكي .. كفكفت هي دموعه وخرج وجدي ليذهب مع احد الرجال .. وقت مر ببطئ شديد ولكن كانت هي قد إختارت من مِن النسوة تقوم بأعمال الغُسل وما إلى ذلك .. دق جرس الكنيسة .. وخرجت جنازة أم وجدي دون أن يعلم أحد أن ما كان في جيوب وجدي وقتها لم يكن يكفي كأيجار للكراسي التي إصطفت أمام المنزل ليجلس عليها هؤلاء الذين ساروا خلف الجنازة .

تذكرت تلك السيدة وأنا الآن في منزلها .. حاولت أن أحبس دمعه كانت تحاول أن تهزمني .. دخلت أمي إلى غرفه بهذا المنزل مع أخريات ليلقين نظرة وداع على جسدِ مسجى في سلام .. كانت أمي من القريبات جدا لها .. أتاحت تلك القرابة لأمي أن تبحث في المنزل ربما تستدل على عنوان لقريب لها أو تعرف أين إبنها هذا إلى أن وجدت أمي أسفل مخدة سرير أم السعد ورقه مكتوب فيها حكمة تقول .. إن كنت وحيدا وتشعر انك قد قُطعت من شجره .. فلتصنع بكل ما لديك أحباء .. عندئذ ستجد من يسيرون بك إلى مثواك الأخير ..حينئذ بدأت أمي وكل النسوة في الصراخ والبكاء .. خرج وجدي ليستقدم المنادي ليتجول في شارعنا والشوارع المحيطة ليعلن وفاة تلك السيدة التي كثيراً ما صنعت خيراً مُعلناً أن صلاة الجنازة بمسجد خاتم المرسلين .. أدركت وقتها أنها تركتنا وسوف نفتقدها بشده ، ولكني عرفت لماذا كان الكل يدعوها أم السعد
============
الإثنين 28/03/2011
[/justify]

باتمنى تعجبكم .. هاستنى رأيكم

ألفي بشرى
تم النقل بواسطتي
17ب