ماذا تبقى من شعار الثورة : الشعب يريد ؟!
جمال سلطان | 31-05-2011
الاستفتاءات الشعبية هي قدس أقداس أي بناء ديمقراطي في العالم كله ، هذه بديهية سياسية ، وعندما يراد طرح شيء ذي بال أو بالغ الخطورة ، يتم اللجوء إلى الاستفتاء ، لأنه صاحب السيادة البشرية ومرجعية كل سلطة ولأنه هو الذي سيتحمل مسؤولية اختياره ، وعندما تريد دولة أن تؤسس لدستور ، وهو المرجعية العليا للمشروعية في الدولة ، أو أن تعدل في نصوصه ، تلجأ إلى الاستفتاء من أجل "توثيق" قواعد الدولة بأعلى درجات المشروعية ، وبالتالي فعندما نقوم في مصر الثورة بإجراء استفتاء جماهيري ضخم
، مثل الذي حدث في 19 مارس ، ويصوت الشعب على مواده بحسم ووضوح ، فإن من الخطورة بمكان أن يأتي أحد ، أو أي حزب أو قوة سياسية مهما عظمت أو صغرت ، لتخرج لسانها للشعب كله وتقول بلسان الحال "بلوه واشربوا ميته" ، وأني أملك رؤية أخرى وبرنامج وطني آخر أفضل من الذي اختاره الشعب ، هذا عبث خطير ومروع .
وواضح جدا لكي ذي عين ، أن من يتحرشون بالاستفتاء الآن ، ويتحدثون عن إلغائه من خلال طرح برنامج جديد ، هم أنفسهم الذين حشدوا الناس في التصويت من أجل قول "لا" ، واستخدموا كل أدوات الصراع السياسي ، بما في ذلك الندوات والمؤتمرات وتجييش كافة وسائل الإعلام من صحف وفضائيات ومواقع الكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي وتوزيع البوسترات في الشوارع ، وفي النهاية صوت الشعب ضد ما أرادوا ، وبنسبة لا تقبل أي شك أو احتمال ، ثمانون في المائة تقريبا قالوا نعم ، وعشرون في المائة فقط رفضوا الاستفتاء ،
وألف باء الديمقراطية ، أن تحترم الأغلبية شجاعة الأقلية وجهدها الذي مكنها من حصد أصوات 20% من الناخبين ، ولكن من البديهي أن ألف باء الديمقراطية أن تنحني الأقلية لإرادة غالبية الشعب وتعلن احترامها للنتائج والتزامها بما تتمخض عنه ، وكان يفترض أن الأمر انتهى من ساعتها ، وأن الجميع بدأ يتفرغ من أجل الإعداد لمعركة الانتخابات ، البرلمانية والرئاسية ، ولكن ما حدث أن "الأقلية" السياسية تفرغت للتآمر على الاستفتاء ، واختراع الأفكار والمشروعات والآراء والبرامج التي تنتهي جميعها إلى إلغاء الاستفتاء ، لنصل إلى النتيجة العملية : الشعب يريد ولكننا نفعل ما نريد .
وكما قلت سابقا ، أي تلاعب بموجبات الاستفتاء الأخير ، سيعني ضياع حرمة الاستفتاء في مصر ، وبالتالي أيضا ضياع حرمة أية انتخابات ، ويمكن بسهولة ، إذا أتى أي استفتاء مقبل على غير هوى قوة شعبية كبيرة أو صغيرة ، أن تقول للجميع "بلوه واشربوا ميته" ، هذا لا يلزمني ، وأنا لدى اقتراحات أخرى تعبر عن المصلحة الوطنية بصورة أفضل ، ولن توجد قوة في مصر تستطيع أن ترفض هذا المنطق ، منطق "بلوه واشربوا ميته" ، لأننا قبلناه سابقا ، وجعلنا له سوابق ، وأصبح أمرا عاديا ، وليس جريمة ديمقراطية .
والذي يدهشك ، أن جماعة الـ 20% ، لا يعترضون على الاستفتاء لأي أسباب لها منطق قانوني حاسم أو وطني صريح ، ولكنها "افتكاسات" كما يقول العوام في سخريتهم من المواقف غير المعقولة أو التي لا تتأسس على منطق ، مثل دعوتهم لتأجيل الانتخابات بدون الالتزام بالموعد الذي قرره الاستفتاء الدستوري ، ثم يشرحون المبررات التي تجعلهم يلغون استفتاء دستوريا ،
فيقول لك أحدهم "أصل أنا مش جاهز للانتخابات" ، فيخرج الثاني يقول : نؤجلها شهرين ، فيخرج ثالث يقول : نؤجلها سنة ، ويخرج رابع يقول : نؤجلها مرحلة زمنية كافية لكي تستعد القوى الجديدة وترتب أمورها ، وهكذا ، والمحصلة أنه يعني تعليق المشروع الديمقراطي لأن "جنابه" مش جاهز ، وينبغي أن تنتظر مصر كلها "جنابه" حتى يكون جاهزا .
ثم يدعو آخر بأن نبدأ بانتخابات رئاسة الجمهورية قبل انتخابات البرلمان ، ومستحيل أن تجد أي منطق لهذه اللعبة يتفق عليه شخصان ، والأمر الذي تستشعره أن بعض الطامعين يخشى أن يفشل في توفير المقاعد البرلمانية اللازمة لترشيحه ، ثم يدعو آخرون لإنجاز الدستور الجديد الآن وليس وفق ما قرره الاستفتاء بعد انتخابات البرلمان واختيار لجنة منتخبة من أعضاء البرلمان ، يمكن أن تكون غالبيتها من خارجه ، ثم تسأل أسئلة بديهية ، لا تجد عليها أي إجابة ،
مثل من الذي يختار أعضاء هذه اللجنة ، ومن الذي يفوض من اختار ، ثم ما هي الضرورة لهذه "الافتكاسات" ، يقول لك أنه بسبب الخوف من اختيار اللجنة الدستورية بعد الانتخابات فيأتي تشكيلها على هوى التيار المهيمن على البرلمان وبالتالي يصوغ نصوص الدستور على مقاسه ، وهي وساوس فارغة ، ولا تنتهي ، لأن هذا المنطق يعني أن نلغي البرلمان نفسه فيما بعد ، لأنه حتى لو أنجزت الدستور الآن ،
فمن البديهي والمشروع ـ ديمقراطيا ـ أن تستطيع أي قوة تملك ائتلافا قويا في البرلمان المقبل يصل إلى الثلثين أن تدعو إلى تعديلات دستورية جديدة وتطرحها للاستفتاء من جديد ، فما الحل وقتها ، نلغي البرلمان ؟!
أشعر بالأسى الشديد ، والإشفاق ، على شخصيات قانونية وسياسية وأكاديمية ، يورثها العناد التورط في مواقف مشينة للغاية ديمقراطيا ، ويضطرهم "العناد" إلى خيانة كل الحرية وحق الشعب في الاختيار والديمقراطية التي طالما بشروا الناس بها ، وأكثر ما يحزنني أن ينسى ـ ولا أقول : يخون ـ بعض أبناء الثورة شعارها الأساس ورايتها الأعلى : "الشعب يريد
مساخر لا تشرف أحدا
يبدو لي أن الغرب بدأ يشعر بالضجر، من "شكاوى" التيارات التي تدعي المدنية، و"هلعها" من الإسلاميين باعتبارهم القوة الوحيدة الأقرب إلى سدة الحكم.
مندوب الاتحاد الأوروبي في القاهرة "مارك فرانكو" ـ منذ أيام وفي القاهرة ـ طالب العلمانيين بالكف عن الشكوى من الإخوان.. وحثهم على أن يتخلوا عن كسلهم واتكاليتهم وعن مؤامراتهم لسرقة السلطة بعيدا عن صندوق الاقتراع .
أول أمس أكدت السفيرة الأمريكية في القاهرة "مارجريت سكوبي" أن واشنطن ستحترم نتائج الاحتكام إلى الصندوق، وأنها مستعدة لدعم أية حكومة مصرية "حتى لو كانت إسلامية".
كلام "فرانكو" و"سكوبي" جاء بالتزامن مع بيان المجلس العسكري يوم أمس الأول والذي حسم فيه موقفه من "جدل الدستور أولا" و"تأجيل الانتخات" والاقتراح ـ اللص "المجلس الرئاسي" وأكد على أنه لن ينحاز إلا إلى رغبة الشعب وأنه لن يسمح لأي من كان بالقفز على السلطة.
والحال أن "منظر" القوي السياسية المدنية قد بات "مسخرة" ومثيرا للشفقة، وكاد الليبرالي الكبير الدكتور وحيد عبد المجيد ان "يجن" مما يصنعه أقرانه "الليبراليون" حين وقفوا ضد الديمقراطية وضد الحرية وضد إرادة الشعب المصري، حملته على أن يدعو التاريخ إلى تسجيلها باعتبارها من "غرائب" الدنيا النادرة.
عندما قالت سكوبي إن بلادها ستنحاز إلى ما سيفرزه صندوق الاقتراع في مصر.. عقب عليها "مناضل" يساري غاضبا وقال يبدو أن أمريكا ستنحاز إلى "الديكتاتورية".. شوفتو ازاي!!.. الانتخابات في عرف المناضلين اليساريين باتت "ديكتاتورية".. وهذه واحدة من "مساخر" مجتمع "النخبة الكسولة" التي احترفت الآن قطع الطرق على أي خيار ديمقراطي للشعب وتقليبه وسرقته تحت تهديد بلطجته الإعلامية.
هذا المشهد "المسخرة".. لم يعد أهلا بالاحترام، لا يستحق إلا الازدراء ولا يشرف حتى العواصم الغربية التي طالما ساندت القوى العلمانية في مصر ما يقرب من مائة عام مضت.. الكل الآن بات مستاء من هذه التصرفات غير المسئولة والتي لا تضع في الاعتبار إلا مصالح "شلل" غير منظمة وعشوائية وليس لها برامج وتدخل في علاقات بزنس مع قوى مالية طفيلية انتفخت جيوبها وكروشها بالمال الحرام في عصر الرئيس السابق.
ومن المتوقع أن تظل اعمال البلطجة السياسية مستغلة "الفراغ السياسي" إلى أن تجرى الانتخابات في موعدها المقرر ـ سبتمبر القادم ـ ويكون لمصر ولأول مرة منذ عقود طويلة، برلمان منتخب وحكومة منتخبة ورئيس جمهورية جاء بالإرادة الحرة للمصريين.. هنالك ستطهر البلد من "قطاع الطرق" و"اللصوص السياسيين" أو على الأقل لن نرى في صدارة المشهد إلا ما يقر العيون ويثلج الصدور ويذهب غيظ قوم مخلصين