العقل الوثوقى


فى أحد المحاولات لتقريب وجهات النظر بين التيارات السياسية و الفكرية المطروحة على الساحة المصرية منذ انطلاق ثورة 25 يناير التى ما زالت مستمرة الى الان .. وجدت تحليل رائع فى كتاب للكاتب السعودى عبدالله المطيري يتحدث فيه عن العقل الدوغمائى أو الوثوقى ... فهذا المصطلح العلمي للعقل الذي سنتحدث عنه هو العقل "الدوغمائي" .. أو العقل الوثوقي ..
وتعريفة هو : العقل الذي يثق في معرفته ثقة تمنعه من اكتشاف نواقص هذه المعرفة أو التغيرات التي تجري عليها وحولها مع مرور الزمن.

و هدفنا هنا محاولة الكشف عن طريقة العمل ( الايدلوجية ) التي يتعامل بها هذا العقل مما يعطينا الفرصة والقدرة على تطبيق هذه المعلومات على العقل الدوغمائي مهما تنوعت مضامينه وتوجهاته .. لكى نستطيع أن نفهم سر الإختلافات الحاجة الموجودة الان بين التيارات الفكرية المختلفة بعضها البعض .
فالعقل الوثوقى موجود في كل الثقافات والمجتمعات ، وإن حدث اختلاف فهو في الدرجة لا في النوع .. هذا يجعل من الاستفادة من الدراسات التي تعرضت لهذا الموضوع أمرا أساسيا و في غاية النفع .. و من أهم من درس العقلية الدوغمائية المفكر الأمريكي"ميلتون روكيش" .. و هاشم صالح في مقدمته لكتاب محمد أركون "الفكر الإسلامي... قراءة علمية".

يرى روكيش أن العقل الدوغمائي بتنوعاته يقوم على .. موقف حاد من مجموعتين من الأفكار والمبادئ .. فهو من جهة يؤمن إيمانا مطلقا بمجموعة من المبادئ ويتشكل منها .. ثم هو في نفس الوقت يأخذ موقفا حادا من الأفكار المخالفة لما يؤمن به .. و يمكننا أن نحدد درجة دوغمائية أو وثوقية أو تحجر عقل ما بناء على مواقفه وتصرفاته
فدائما ما نكتشف العقل الوثوقى او الدوغمائى من خلال حدة و شدة فصله بين المعتقدات التي يقتنع بها والمعتقدات التي يرفضها .. ونتذكر هنا نظرية الفسطاطين التي يطرحها العقل المتطرف الإرهابي مثلا حيث لا يستطيع أن يتصور أن في العالم سوى فريقين فريقه هو وفريق خصمه. لاحظ هنا مستوى الحدة والفصل وانعدام منطقة الوسط .
ويقول هاشم صالح:" العقلية الدوغمائية ترتكز أساسا على ثنائية ضدية حادة هي : نظام من الإيمان أو العقائد .. ونظام من اللاإيمان و اللاعقائد".

و أعيد التذكير هنا أن العقل الدوغمائي ليس بالضرورة عقلا دينيا ولكنه لا يتعامل مع الأفكار إلا من منظور الإيمان والاعتقاد .. فهذه الفكرة هي ذاتها التي تطرحها الإدارة الأمريكية الليبرالية تحت شعار "إن لم تكن معي فأنت ضدي" ..
ومن أجل أن يحافظ العقل الدوغمائي على هذا الفصل الحاد فإنه يؤكد باستمرار على الخلافات بينه وبين المخالفين له، أغلب خطابه يوجه لتحقيق هذا الهدف مما يضمن له عمليا تجييش أتباعه وشحنهم معه باستمرار ..
أيضا يهاجم هذا العقل أية محاولة للتقريب والحوار بين الطرفين .. وأتذكر هنا فتاوى تكفير كل من يشارك في حوار الأديان. فهنا نجد تفسيرا علميا لهذا التكفير، فهذا الحوار بين الأديان كفيل بكشف نقاط تقاطع واشتراك بين المتحاورين ستؤدي إلى إحداث نوع من التقارب بينهما وهذا ما يخشاه ويخافه العقل الدوغمائي المتحجّر.

أيضا يلجأ العقل المتحجّر إلى تجاهل وإنكار الوقائع التي تكشف زيف ادعاءاته. ولذا لا نستغرب أن نجد داعية ما يصور العالم الإسلامي على أنه العالم المتحضر والعالم الغربي يقبع في الظلام والتخلف متجاهلا كل الوقائع والأحداث التي تكشف زيف دعواه .. كما كان يفعل رئيس إحدى الدول الأفريقية البائسة والتي يموت الناس فيها من الجوع، حين كان يرسل طائرات إعانات لبريطانيا ودول أوروبا الغنية فقط انسياقا خلف جنونه الذي يعميه عن رؤية الحقيقة .

أيضا لدى العقل الوثوقي قدرة على تقبل التناقضات داخل منظومته الفكرية وحياته. من شواهد هذا الأمر أن تجد شخصا ما يحارب أمريكا ويعتبرها عدوّه الأول وتجد سيارته أمريكية وأثاث منزله أمريكياً بدون أن يشعر بالتناقض.

ومن معايير الحكم على عقل ما بأنه دوغمائي متحجر أنه لا يميّز بين العقائد والأفكار التي يرفضها. فهو يضعها في سلّة واحدة هي سلّة الخطأ والضلال. دون أن يكلّف نفسه بالبحث في نقاط التقاء وتقارب مع الأفكار المخالفة. نلاحظ هنا أن المتشددين عندنا يجمعون غير المسلمين كلهم في دائرة الكفار دون أن يميّزوا بينهم بينما لو راجعنا الخطاب القرآني مثلا لوجدناه يستخدم أوصافا متنوعة ومختلفة.كـ "أهل الكتاب، النصارى، اليهود، بني إسرائيل، الناس، بني آدم، المشركين". لاحظ هنا تنوع الأوصاف وغياب الحدّية في التصنيف. تجد القرآن يمدح النصارى أحيانا ويحدد أنهم أقرب للمسلمين من غيرهم فيما يشكل خطابا متنوعا يعطي فرصة للمرونة في التعامل عكس الخطاب السائد اليوم الذي يضع المخالفين كلّهم في سلّة واحدة.

ونجد أيضا داخل التيارات الليبرالية الموجودة الان على الساحة بعض الاصوات التى تردد معلومات مغلوطة عن التيارات الدينية المقابلة لها كأن يتهم البعض الإخوان المسلمين والجماعات السلفية بالإرهاب والجهل .. علما بانة لو بحث قليلا لتأكد من سماحة ونبل أفكار تلك الجماعات ولكنة يصدر الحكم على الجميع بقول أحد أتباع تلك الجماعه دون تمييز .. ناسيا أن كلنا انسان خطاء وربما يكون قد أخطأ .. ومن معايير انغلاق عقل ما .. وثوقيته المغرقة .. وتكاثر المسلمات في منظومته الفكرية. فإن كانت كل منظومة فكرية تقوم على عدد بسيط من المسلمات تؤسس للفكر ثم تترك الحرية للناس أن يجتهدوا فإننا نجد أن مسلمات العقل الدوغمائي تتوالد باستمرار لتقفل كل منفذ هواء للاجتهاد والتفكير.ولذا تجد عندنا أن مقولات لأشخاص ربما عاشوا في القرن الثامن الهجري تتحول إلى مسلمات لا يجوز النقاش حولها أو نقدها. كذلك تجد أن التفاسير والشروحات والفتاوى تتحول من كونها اجتهادات بشر تقبل الصواب والخطأ إلى كونها مسلمات وثوابت لا يجوز المساس بها ومن اقترب منها تعرّض لأصناف الهجوم من تكفير وتفسيق وتضليل وغيرها من أدوات الإقصاء .. ذلك رغم أن كل علماء المسلمين قد إتفقوا على أن إختلاف الائمة الأربعه فى بعض الامور الشرعية هو رحمه للمسلمين
و تزداد وثوقية عقل ما وانغلاقه كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها. مما يجعله لا يعيش واقعه ولا يفكر من خلاله وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصامات هائلة في اتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي، لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة وجذرية في تاريخه. العقل الوثوقي لا يفكر بمنطق تاريخي ولا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته.

واذكر هنا كيف أن الإمام الشافعى قد غير كثير من مفاهيمة عندما عاش فى مصر دون اى حرج فى ذلك .. فليس من العيب ان نخطئ ولكن العيب فى استمرارنا فى الخطأ
فيجب على الجميع إعادة النظر فى الخلافات الموجودة الان بينة وبين التيارات الفكرية المقابلة .. ومحاولة التحليل والحكم بمنظور جديد لتقريب وجهات النظر .. وإلا اصبحت عقولنا كالعقل الدوغمائى أو الوثوقى الذى يصعب علية ان يتغير ..



------------------------------------------



نقلاً عن موقع أخبار بلدنا ... أعتقد الموضوع ده ممكن يكون مفيد لمعظمنا و أنا عاجبنى المقال جداً.

للمزيد هنا