الموضوع: روستو ونيكوتين (من كتابات محمد عفيفي)

روستو و نيكوتين



تصادف بالأمس أن كان لساني متدلياً من فمي و أنا أمر أمام المرآة ، فأصارحك القول بأنني ما كدت أراه حتى رثيت لنفسي رثاء شديداً دفعني أن أطالبك بمشاركتي إياه - الرثاء طبعاً لا لساني .

الأصل في اللسان كما أعرف أن يكون من حيث اللون ضارباً إلى اللون البمبي أو الوردي، و لذلك يطلب مني الطبيب أن اخرج لساني ، تلك العملية التي تثير عندي لذة نفسية بسبب ما فيها من الاستخفاف المقنع بالدكتور ، كما تتيح له فرصة التعرف على نوع صحتي من لون لساني توطئة لكتابة الدواء . حقا أنه في الغالب يكتب الدواء الغلط ، ولكن هذا لا ينفي أنه قد اكتشف من لون لساني أنني - أن شاء الله العدو - مريض و في الحاجة إلى الدواء .



المهم أنني و ما كدت أن أرى لساني حتى أدركت بدون دكتور أنني مريض ، أو أنه هو - لساني - المريض على الأقل ، إذا رأيته ضارباً إلى اللون البيج الغامق ، تتخلله خطوط بعضها أبيض و بعضها أصفر ، و بين تلك الخطوط مساحات بنية اللون بعضها ضارب إلى السواد ، كأنني لا أنظر إلى لسان و انما إلى لوحة من الفن التشكيلي رسمها فنان متشائم ليعبر بها عن نقمة الوجود .



انني -اذن - مريض ، و بما أنني لا أشعر بأية أعراض مرضية كارتفاع في درجة الحرارة أو وجع في البطن أو دوار أو أي شئ ، فلابد انه مرض خبيث مستتر في ثنايا خلاياي ، يستجمع قوته شيئاً فشيئاً و ينتظر - الفرصة المناسبة لكي يضرب ضربته القاضية التي تطيح بي ، تماماً كالمائدة التي يأكل النمل أرجلها من الداخل و هي واقفة ، بحيث لا يلزمها إلا دفعة بسيطة لكي تتهاوى على الأرض كتلة من ذرات الخشب .



نعم - قلت لنفسي - أنني انتحر انتحاراً بطيئاً ، بأرطال السمن البلدي التي تتسرب إلى جوفي مع الطعام المتواصل ، ذلك السمن الذي قال لي الطبيب - دون أن أخرج له لساني - أنه يفعل بالكبد ما يفعله النمل بأرجل المائدة ، اذ يكلفه بأن يبذل خمسة أضعاف الجهد الذي كان يبذله لو أكلت الطعام بغير سمن ، أي أنني في سبيل لذةالمضغ أقتل نفسي ببطء ، بالسمن و التقلية و التوابل و الخيار المخلل ، دعك من الدهن الذي يحيط باللحم الضاني خصوصاً عندما يكون روستو .



و يبدو أنني أخاف من أن يعجز الطعام وحده عن قتلي في الوقت المناسب ، ولذلك أعينه بالنيكوتين و القطران ( لاحظ المساحات السوداء في لساني ) - هاتين المادتان اللتين تفعلان برئتي ما يفعله هباب بوابير الجاز بسقف المطبخ ، ذلك الهباب الذي يتكاثر في الشعب حتى يملأها و يسدها و ليس من فرشاة تصل إليها لكي تسلكها ، دعك من أنه - الهباب - يتسرب إلى الدم عن طريق الأوكسوجين ، كما انه يتسرب إلى المعدة عن طريق اللسان ،بحيث لا احتاج إلى أكثر من سنوات قليلة لكي يحشي جسمي كله بالهباب ، و بحيث انك لو قلبتني (كفرده الشراب) لوجدتني من الداخل عبدا أسود .



فلماذا أفعل هذا بنفسي ؟ - لماذا - باقول لك لماذا - أريد أن أقتل نفسي .هه ؟ لماذا لا آكل الخضار نيئاً أو مسلوقاً ، و اللحم مشوياً لا روستو ، و أقلع عن التدخين لكي أعيش مائةعام ؟؟ .

الجواب على هذاالسؤال قديم و مبتذل ، ولكن يبدو أنه ليس من جواب سواه : ما فائدة الحياة مائة عام من الحرمان المستمر ؟ مافائدة مائة عام بغير النيكوتين و الروستو و ما قد يضاف اليهما - حسب بعض الأمزجة - من السبرتو ؟



أنه جواب غير منطقي و لكنه مقنع ، مقنع لي على الأقل ، اذ أنه لو كانت المسألة مسألة روستو فقط لهان الأمر ، و لكن أين الكبد و الكلاوي الغارقة في السمن السميك بسبب ما ساح فيه من " الحلويات "؟ أين الحمام المحشي بالأرز المشبع بالبصل و الفلفل ، و الذي تضغط عليه - الحمام - بيدك فيسيل السمن منه و يلوثمفرش المائدة ؟ أين صحن البامية الخضراء الذي تعلوه طبقة من السمن كأنه بحيرة صافية ، وكأن قرون البامية تحته أسماك راقدة في انتظار من يصيدها ؟ بل أين صحن العدس المزين برسوم التقلية و معه بصلة حامية تسيل لها الدموع ، أو صحن شوربة العدس الذي تلقي فيه بلقمة العيش المحمر - قبل أن تلتقطها - بمنظر تلك الدوائر التي تنتشر على سطحه ساعة القائك اللقمة سالفة الذكر ؟.

فاذا انتهيت من الغداء فكيف تريد مني أن أنام دون أن أدخن سيجارة أو اثنتين ، و أملأ جسمي بالنيكوتين الذي يحقق التوازن بينه و بين الطعام ؟ أم تراك تريد أن تحرمني من النوم بعد الغداء أيضاً، مخافة أن تتعطل عملية الهضم ؟


اذا كان هذا ما تفكر فيه فاسمحلي بأن أقولك هع ... ( كل أنت خضارك المسلوق و بطاطسك البوريه ، و اجلس ساعة بعد الغداء لكي تهضمه بدون أن تحبسه بسيجارة ، و دعني أناغارقاً في بحيرة باميتي الخضراء أتصيد قرونها لاهياً عن الزمن ، على نغمة خيارة مخلله أقرشها و بصلة حامية أدشها ، بأصابع بنية اللون منآثار النيكوتين والقطران . فاذا مت قبلك فأنتلاحقبي لا محالة ، اذ تقول روحك لروحي - بعد فوات الأوان طبعاً - ليتني أكلت و شربت و دخنت يوم كانت لي معدة يوجعها الرستو و رئة يهببها النيكوتين !.


----------------------------------------------
صورة المستقبل :

اصنع مزيجاً من اللون الأبيض و الأحمر و الأصفر و الأسود ثم اسكبه علىاللوحة كيفما اتفق تجد أمامك صورة لمستقبل الجنس البشري !.

----------------------------------------------
سن الحكمة :

يسألونك عن سن الحكمة ، قل هي تلك السن التي يدرك فيها الرجل أنه لم يكن حكيماً بقدر ما يظن ! .


رحمه الله كان كاتبا ساخرا رائعا

----------------------------------------------
ومن قمه سخريته كتب نعيه بنفسه قبل وفاته
وده المكتوب عن نعيه في ويكبيديا

" عزيزى القارئ : يؤسفنى أن أخطرك بشئ قد يحزنك بعض الشئ وذلك بأننى قد توفيت، وأنا طبعا لا أكتب هذه الكلمة بعد الوفاة (دى صعبة شوية) وإنما اكتبها قبل ذلك، وأوصيت بأن تنشر بعد وفاتى، وذلك لإعتقادى بأن الموت شئ خاص لا يستدعى ازعاج الآخرين بإرسال التلغرافات والتزاحم حول مسجد عمر مكرم حيث تقام عادة ليالى العزاء. وإذا أحزنتك هذه الكلمات، فلا مانع من أن تحزن بعض الشئ، ولكن أرجو ألا تحزن كثيرا. "
وهكذا.. يودع (محمد عفيفى) من أحبوه من القراء والأصدقاء.. ليرسم الابتسامة على شفاههم كما كانت عادته دائما في حياته.. فيجعلها أيضا رسالته بعد مماته.. ولقد تم تنفيذ الوصية.. فلا نعى.. ولا عزاء.. ولا حزن إلا حزن باسم على ذلك الذي عاش يرسم البسمة على الشفاة بأسلوب يعجز عنه أكبر الأدباء الساخرين