التأصيل الحضاري للتشريع الإسلامي: توثيق الحجة



فضيلة الشيخ د على جمعة مفتى الجمهورية





رسم المجتهدون العظام طريقاً واضحاً لتأصيل التشريع الإسلامي تأصيلاً حضارياً يعكس النسق المفتوح لدين الإسلام ويؤكد عالميته وشموليته لكل الأزمان والأماكن ليكون بحق دين الله الخاتم للعالمين، وكانت الخطوة الأولى لهذا الطريق هي تحديد الحجة وهي بإجماع جمهور العلماء القرآن والسنة معاً فلا يكفي أحدهما دون الآخر، ثم يأتي بعد ذلك السؤال الثاني وهو كيفية توثيق هذه الحجة، فإذا كان الكتاب والسنة المصدرين للتشريع الإسلامي، فكيف وصلا إلينا؟
أما الكتاب فقد وصل إلينا بالتواتر لم يختل فيه حرف واحد، بل قد حُفِظ حتى على مستوى الأداء الصوتي للحروف ومخارجها، وكذلك الكلمات وطريقة نطقها، ونشأت عدة علوم للحفاظ على هذا الكتاب الكريم كما هو، منها: علوم النحو والصرف، والقراءات، والتفسير، بل علوم اللغة كلها، حتى إن المعاجم العربية إنما وُضعت للحفاظ على هذه البيئة التي منها ذلك الكتاب العظيم.
ولم يحدث في العالم أن حفظ الأطفال كتاباً مقدساً أو غير مقدس كما فعل ذلك أطفال المسلمين في الكتاتيب والمنارات، ولم يحدث أبداً أن حفظ غير الناطقين بلغة ما نصاً مقدساً بطول القرآن، وهم لا يعرفون لغته، ولا يفهمونها، ولا يزال أحدهم مع صغر سنه وعجمة لسانه يقوم بقومه بالقرآن في الصلاة، ولا يخطئ منه حرفاً.. إنها معجزة ربانية واضحة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أما عن السنة فقد بذل المسلمون جهداً مبدعاً وغير مكرر في توثيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشأوا علوماً كثيرة، ولم يحدث مثل ذلك أبداً لأي نبي أو مفكر أو عالم أو شاعر أو أديب في تاريخ البشرية، فهو أمر فريد اختص به كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحسن بنا أن نفصل كيفية التوثيق في عهد الصحابة والتابعين دلالة على ما حدث بعد ذلك في العصور التالية وإلى يومنا هذا، حتى يعلم الناس بعض الذي حدث، ودقته، وكيف اتبع المسلمون المنهج العلمي بما لا مزيد بعده من الدقة.
كان للصحابة، رضوان الله عليهم، عناية شديدة في رواية الحديث ونقله، فقد وضعوا بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه، صلى الله عليه وسلم، وإن لم تدوَّن في عصرهم، ومن تلك الضوابط: الاحتياط في قبول الأحاديث بالتحري، وكان أول من احتاط في قبول الأخبار أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: «جاءت الجدة إلى أبى بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه» (رواه أحمد في مسنده والنسائي في سننه)، فكانت رؤية أبى بكر، رضي الله عنه، هي التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية مطلقاً.
ثاني تلك الضوابط: التوقف في قبول خبر الواحد والتثبت من نقله، وبذلك الضابط تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فعن أبى سعيد الخدري قال: «كنت جالساً في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلىَّ أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثاً فلم يرد علي، فرجعتُ. فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي، فرجعت وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك. فقال أُبَيُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: قلت أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به» [رواه مسلم في صحيحه].
فرأى عمر رضي الله عنه أن عليه أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صحابي آخر، وهذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حثٌّ على تكثير طرق الحديث لكي يترقى من درجة الظن إلى درجة قريبة من العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهَم وذلك نادر على ثقتين.
ومن ضوابط النقل عند الصحابة سمة تسمى «اللقيا والسماع» وقد اشتهر «البخاري» بأنه هو الذي اشترط هذا الشرط في صحيحه مما جعل صحيحه أعلى كتب السنة توثيقاً وضبطاً.
إلا أن الصحابة سبقوا «البخاري» في الاهتمام بهذا الشرط، ففي رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى عبد الله بن أنيس في مصر لطلب حديث واحد دليل على ذلك، حيث كان بإمكانه أن يرسل له رسالة أو يحصل على الحديث بأي شكل بغير لقاء، إلا أنهم اعتنوا باللقاء والسماع حتى يثبت النقل بطريقة أوثق.
ومن الضوابط كذلك: عرض السنة على القرآن الكريم، وعرض السنة على السنة، وعرض السنة على القياس، ومن ذلك ما روى عن أبى سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الوضوء مما مست النار ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ - وهي القطعة من اللبن المجفف المتحجر - قال: فقال ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟» (رواه الترمذي).
فكل هذه الضوابط وغيرها مما اعتنى به الصحابة في نقل السنة النبوية المشرفة إنما يشير إلى مدى اهتمام الصحابة، رضي الله عنهم، برواية الحديث والعناية به وصيانته وتوثيقه.