من منا يعرف معني اسم الله المقيت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللّهم لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم ، اللّهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصّالحين .
أيّها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس الخامس والأربعين من دروس أسماء الله الحُسنى والاسم اليوم هو المُقيت ، فالمقيت اسمٌ من أسماء اللـه الحُسنى .
ورد في الحديث الشريف الذي عدّد الأسماء الحسنى . والقوت مايُمسك الرَّمق من الرزق ، وما يُقيت الإنسان ، وما يقيم أَوَده ، وما يجعله يقف على قدمَيه ، وما يُعينه على مُزاولة نشاطه ، هذا هو القوت ، فالقوت هو ما يُمسِك الرَّمق من الرِّزق ؛ فالخبز من القوت ، والحليب من لقوت لكن بعض أنواع الفاكِهة ليس من القوت هناك طعام أساسي وهناك طعام ثانوي فالطعام الأساسي هو القوت ، والله سبحانه وتعالى من أسمائه المُقيت .
بعضهم قال : القوت هو ما يُقَوِّم بَدَن الإنسان من الطعام ، ويجعله قائماً . قال ابن عباس رضي الله عنه : المقيت هو المُقْتَدِر ؛ كيف ؟ لأن هذا الإنسان يحتاج إلى طعام ، والذي خَلَقه خلق له الطعام ، وخلق له توافُقاً بين الطعام وبين جِسمه ، وخلق أجهزةً في جسمه تأخذ هذا الطعام وتَمْتَصّه ، وتستفيد منه . هناك عملية خلق ، وعملية توافق ، وعملية استِقبال . لِذلك المقيت هو المقتدر عِلماً وقوة ، فهذا الحليب الذي تُنتِجه البقرة آلِيَّته مُعقدة جداً ، خلِيّة الغُدّة لثديِيَّة يَمُرُّ فوقها أوعية شعرية فيها دم -وكأنها كائن عاقل - تختار من بين فَرْثٍ ودمٍ ؛ من بين الكريات الحمراء ومن بين البولة السائلة التي في الدم ، العناصر الأساسية من بروتينات ، وموادَّ دسِمة ومواد شَحمِيّة ، ومواد مُقَوّية ، ومعادن ، لِيَكْونَ الحليب منها .
فالذي صمّم هذه الكائنات على إنتاج هذا الحليب ، ثم توافق هذا الحليب مع جِسم الإنسان ، ثم وجود أجهزة في جسم الإنسان تستقبل هذا الحليب ، وتهضمه ، وتمتصه ، وتجعله طاقةً .
فالمقيت هو المقتَدر إذْ أنه خلق ووَفَّق ، وأفاد ، خلق الطعام ، ووفّق بينه وبين خصائص الجِسم ، وهَيَّأ له أجهزة تمتصه لِتستفيد منه .
فابن عباس يقول : المقيت هو المُقتَدِر .
أبو عُبيدة يقول : المُقيت هو الحفيظ ، ما الذي يحفظ لك هذا الجسم ؟ الطعام والشراب ، فَلو انعدم الطعام لأَدّى ذلك للمَوت . فَمِن أسماء الله المقيت ؛ وهو الذي يخلق القوت ، ويحفظ بِالقوت الإنسان ، وهو الذي يقتَدر بِعِلمه وقُدرته على خلق القوت المُناسب ، وملاءمته مع الجِسم ، وتهيِئَة أجهزة تمتصّه . فَصار المقيت : الحفيظ . والمقيت : المقتدر عِلماً وقُدرةً . والمقيت : هو الذي يخلق القوت .
وقيل : المقيت هو الذي يعطي أقوات الخلائق . فَلَو تصوّر الإنسان وسأل نفسه ؛ كم من دابة تُذبح يومِياً لِتوفير طعام البشرية ؟ فلو أخذ الإنسان خمسين غراماً من اللحم عِلماً أن عدد سكان العالم خمس مـليارات نسمة فَكم يكون التقدير ؟ والمحاصيل كم طُن ؟ بلادنا المتواضعة
وقيل : المقيت : هو الذي يعطي أقوات الخلائق . وقيل : المقيت: هو الذي خلق الخلق وساق لهم الأقوات . لو أن أحداً قَدّم لك سيارة ومنعك من شراء البنزين لم تستفد أنت شيئاً ! إذ أنه من لوازم تقديم هذه المركبة إعطاء قسائم للوقود من أجل أن تسير بها ، فالتعريف دقيق ؛ هو الذي خلق الخلق ، وساق لهم الأقوات . فما دام قد خلق ، فقد رزق .
والشيء الدقيق قوله تعالى :
فالمقيت هو الذي خلق الخلق ، وساق لهم الأقوات . وهذه الغَنَمة التي خُلِقت خِصيصاً لنا كل شيء فيها ننتفع به ؛ بدْءاً من صوفها ، إلى جِلدِها ، إلى لحمها ، إلى شحمها ، إلى دُهنِها ، إلى عظمها ، إلى أحشائها ، إلى قرنيها ، إلى رأسها ؛ فكل شيء في هذه الدابة ينتفع الإنسان منه، وهي مُصمّمة للإنسان خِصيصاً ، ومُصممة كي تتوالد بِسرعة كبيرة ، وتحوي أجهزة كأجهزة الإنسان تماماً ، من أجل أن تُعَلّمه ماذا في أحشائه .
فقيل المقيت : هو الذي خلق الخلق وساق إليهم الأقوات ؛ الله عزّ وجل رب العالمين ، وأوْصَل إليهم الضروريات ، والكماليات ، ورزق قوت الأشباح ، وقوت الأرواح – الآن دخلنا بِمعنى أوسع –المقيت : ساق قوت الأشباح ، وقوت الأرواح . والأشباح جمع شبحٍ وهو الجسم لأنه فانٍ والأرواح : المقصود بِها النفس . كما أنه يوجد أقوات للأجساد ؛ هناك أقوات للنفوس ، والنفس قوتُها بالاتصال بالله عزّ وجل ، قوتُها بالسكينة التي يُنزِلها الله على قلوب المؤمنين ، وشعورها بأن الله راضٍ عنها ، وبِمعرفتها بربها وبِالعمل الصالح الذي تتألق به ؛ هذا هو قوت النفس .
و" على " تُفيد الإلزام الطوعي الذاتي والله عز وجل ألزم نفسه بِرِزق العِباد ؛ " ما من دابة إلا على الله رزقها " فهو المتكفّل بايصال الأقوات إلى الخلق .
وذكر الرازي : المقيت من شَهِد النجوى فأجاب ، وعلِم البَلْوى فَكَشف واستجاب . فالمقيت هو الذي يخلق القوت ، والمقيت هو الذي يحفظ الإنسان من الجوع ، والهلاك جوعاً ، والمقيت هو الذي صمّم قوتاً يُناسب الجسد ، وخلق في الجسد أجهزةً تستقبل القوت ، وجعل توافُقاً عجيباً بين بنية الإنسان ومُكوِّنات الغِداء . يُقال أحياناً : هذا الحليب متوافق مع السِّن الفلاني ؛ فهو مدروس مع البروتينات والشحوم والفيتامينات فصار هناك اقتِدار أساسه العِلم والقُدرة . وصار هناك حفظ وإطعام ثم هناك قوت القلوب . وقوت القلوب : معرفة علاّم الغيوب ، والاتصال بالله عز وجل .
وقوت القلوب الأمن الذي يملأ الله به قلب عبده المؤمن ، والمؤمن ممتلىء قلبه أمْناً ، وممتلئة نفسه سكينةً ورِضاً واطمِئناناً ؛ هذا هو قوت القلوب .
وكلكم يعلم أنه تمر على الإنسان فترات يذهب أين شاء ويأكل ما يشاء ويستمتِع بِطيبات الحياة الدنيا ، ومع كل هذا الاستِمتاع يشعر بِجوعٍ روحي، يريد أن يتصل بالله ، وأن يرضى الله عنه ، فإِشباع الجسد لا يُغْني الروح شيئاً ، فروحك ونفسك بِأمسّ الحاجة إلى قوتٍ خاصٍ بها . فلو أن شخْصاً صلى صلاة مُتقنة وانهمرت دموعه في الصلاة ، أو قرأ القرآن فَشَعر بِسعادَةٍ كبرى ؛ يشعر بِالرِيّ ، ويشعر بالاكتِفاء ، وأنَّ الله عز وجل قَبِله ، وأقبل عليه ، وتجلّى على قلبه ، وأنزل على قلبه السكينة ، وكأنه حَفِظَهُ ، وكأنه غَفَرَ له وهذا هو قوت القلوب .
مثلٌ آخر أقرب ؛ لو أنّ أباً في البيت ، كلُّ ألوان الطعام موجودة، وكل ألوان الألبسة موجودة ، لكنه لا ينظر إلى ابنه إطلاقاً ولا يُكلّمه فهل يكتفي هذا الابن بِالطعام الذي يأكله في البيت ، وبالشراب اللذيذ ، وباللباس الجيد ؟ لا يمكنه ذلك ، لأنَّ الابن بِحاجة إلى ابتسامة من أبيه ، وإلى كلمة عطف ، وبِحاجة إلى أن يضع الأب يده على كَتِف ابنه ، وإلى أن يضُمّه ؛ فالضَمّ ليس طعاماً ، وبِحاجة إلى أن يُقَبّله أبوه ، والتقبيل ليس طعاماً . ووضع يده على كتِفِه ليس طعاماً ، وكذلك على رأسه ، وأن يبتسِم في وجهه ليس طعاماً ، أليس الطِّفل الصغير بِحاجة ماسة إلى قوت من نوع آخر ، يُسمّيه المربون : أن يستَقِيَ الحنان من أمّه وأبيه ، وأن تضُمَّه أمه إلى صدرها ، وأن يضعه أبوه في حجره ، وأن يبتسم في وجهه ، وأن يُضاحكه ، وأن يُداعِبه ، وأن يُلاعِبه ، فهذه حاجة أساسية بِالإنسان . وكلما ارتقى الإنسان تصبح حاجته إلى هذا القوت المعنوي أشدّ من حاجته إلى القوت المادي . والإنسان عندما يقوى إيمانه لا يرى سعادةً أكبر من أن يشعر أن الله تعالى يُحِبُّه ، وأنه في عَين الله ورعايته وتوفيقِه ، ونحن بِحاجة إلى قوت القلوب .