الموضوع: غريب .. حكايته مع الزمان

[justify][justify]غريب .. حكايته مع الزمان ..
================

لا أدري ما الذي ذكرني به بعد كل تلك السنوات .. ربما هو صديقي أمين العسال الذي سألني منذ أيام أن يقرأ جديداً لي فأخبرته أنني بصدد الكتابة عن أحد القابعين في قلبي .. دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. الذي لم يزورني منذ سنوات فما الذي سيأتي به والمسافة بين الفشن وملوي كثيره على من في مثل سنه حيث أنه الآن يفترض أنه قارب على الستين عاماً . تخيلته بعد تلك السنوات وعرفت انه لم يتغير .. ما زال كما هو ذلك المتمرد الصامد المخلص الوفي لعشقه حيث لا زال يعشقها ويردد " إستفتي قلبك ولو أفتوك " .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. طبيب بشري ممارس عام .. كان متزوجاً من الطبيبة الصيدلانية ياسمين .. اللافت للنظر سمنته المتعارضة مع رشاقة قوام زوجته وجمالها الملائكي ، ولكن مع طوله الملحوظ لم يكن هذا الأمر عيباً في مظهره بل كنا نراه جميعاً مثل أميراً من سلالة أمراء وسمنته هذه دليل على ذلك .. كان دائم التردد على مكتبتي ليشتري بعض من احتياجاته .. وكنت أرحب بقدومه واسعد به وبالحديث معه حيث كان ودودا وبشوشا ويستطيع من يراه للمرة الأولى أن يحكم بأن طيبة القلب هي السمة المميزة لهذا الرجل ، أصبحنا أصدقاء وصارت جلسته المفضلة معي .. نجلس أمام المكتبة نتحاور ونضحك ، ونشرب أكواب الشاي بكثرة ، وبالرغم من إصابته بمرض السكر إلا أنه كان وبعفوية شديدة يشرب الكثير من الشاي المُحلى بأربعة ملاعق سكر وأحياناً أكثر ، وعندما كنت أسأله أن هذا كثيراً كان وجهه يمتلئ بإبتسامة ساخرة ينفرد هو بها فقط .. أنا دكتور يا عبيط إنت .. ثم يضحك حتى تدمع عيناه ويتنهد ويقول راح كتير واللي جاي أقل ، ومش هاخسر قد اللي خسرته .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. عرفت من صديقي محمود انه لا زال يعشق ياسمين بالرغم من مرور أعوام كثيرة على طلاقهما ، وعندما سألت محمود باعتبار انه حتى ذاك الوقت كانت علاقتي بدكتور غريب لا زالت في بدايتها .. قال لي محمود أن ياسمين لم يكن أبداً من الطبيعي ان تستمر الحياة بينها وبين غريب طويلاً ، وعندما إستفسرت عن السبب قال لي أنها وقت أن كانت على ذمتة كانت دائمة التضجر من أي شئ ومن كل شئ فهى لا تعتني بشئ سوى بذاتها فقط ، ولا تحب أحداً سواها ، وعرفت أيضاً أنها تزوجت من الطبيب من أجل ثروته لا لأجل أي شئ آخر .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. بيني وبينه صديق مشترك هو محمود ذو الصوت الجميل والذي يعشق الغناء ويكتفي بممارسة هوايته المحببة في الغناء بيننا نحن أصدقاؤه فقط ، ولم يحاول أن يجد لنفسه فرصه أو مخرجا للنور .. نستمتع نحن بغناؤه الحلو في سهراتنا الصيفية ، وعندما أتى دكتور غريب إلى حينا كان الذي وطد علاقتي به هو محمود حيث قال لي .. ماتيجي نسهر عند دكتور غريب .. أنا ومحمد وايمن رايحين نسهر شويه عنده تعالى معانا ، ولأني بطبعي لا أحب أن أكون متطفلا فأبقيت هذا الأمر لما بعد ذلك ، ولكني لا أنسى أبداً أنني فوجئت بالطبيب هو الذي أتى ليدعوني للسهر معهم .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. مرت الشهور وصار صديقاً مقرباً لي رغم أنه يكبرني بسنوات .. يجلس معي مُعظم أوقات فراغه ويحكي لي بل يفتح قلبه ويطلعني على كافة أسراره .. لم يخجل من أن يصارحني أنه لا زال يعشق ياسمين .. لم يخجل من أن يقل لي أن شقيقته قالت أن ياسمين تخونه مع رجال آخرون .. كان وهو يحكي كمن يزيح عن كاهله أحمالاً ثقيلة أو كمن يتقيئ أوجاع روحه المتعبة .. يحكي لي ويسألني ماذا أفعل وأنا عرفت أنها تزوجت بآخر بعد طلاقي لها وبعد فترة العدة مباشرة .. ماذا أفعل وأنا عرفت أن شقتي التي إشتريتها بإسمها في بني سويف تزوجت هي بها الآن .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. يذهب بصفة دوريه إلى القاهرة لمتابعة علاج نفسي مع طبيب شهير هو دكتور يحي الرخاوي .. سألته ذات مره أن يجيبني دون أن يتضايق .. لماذا طبيب نفسي ، ولماذا الرخاوي .. لم أنسى أن أؤكد عليه وقتها إن كانت إجابته ستضايقه فقال لي الفضفضه بتاخد الكلام وترميه في الفضا ، ولما رآني تبدو من ملامحي إندهاشي لتعقيبه قال لي أنه يستأمنني على ما سيقوله لي وأنه يشعر براحه لمجرد البوح .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. الذي يعشق بقلب صافي الذي لا يرى سوى ما يريد أن يراه .. لم يروق لزوجته بساطته وطيبة قلبه فبدأت تختلق المشاكل معه طمعا في أن يطلقها فتفوز بمؤخر صداق كان مبلغاً كبيراً .. لم يشأ هو أن يطلقها لا لشئ إلا لكونه أحبها وبصدق ، ولأنها صيدلانية لم يكن صعبا عليها ان تضع له في مأكولاته ومشروباته أدوية وعقاقير من شأنها أن تُحدث إنهياراً في قواه العقلية وبمقدرته على التركيز .. بدأت حالته تتدهور فبدأ يرى أشياء غير موجودة فبينما يقسم هو عند عودته لمنزله أنه رأى رجلاً يلملم ملابسه ويخرج من غرفة النوم مهرولاً خائفاً مثل سارق بينما هو لا يقدر أن يفعل شئ كمن كمم فاهه أو شلت قدماه عن الحركة ولكن ياسمين كانت تقنعه بأن ما يراه ما هو إلا تهيآت .. مرت شهور وهي تفعل ذلك ، ولأنه طبيب كان سهلاً أن يشعر بشئ غريب ، وبدأ في رحلة العلاج النفسي ولكن بعد أن تطورت حالته لرؤى كثيرة فكان يرى أشخاص غير متواجدين على قيد الحياه .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. صارح شقيقته بما يراه وبما يحدث .. إجتمع مجلس عائلته وكان القرار .. لا بد من أن يطلق تلك الخائنة .. الجميع صاروا يعرفون ما تفعله بينما هو يردد إستفتي قلبك ولو أفتوك .. كانت النهاية الطبيعيه هي الطلاق بعد ان تنازلت هي عن المؤخر الذي كان مبلغاً كبيرا مكتفيه بجزء منه فقط وكان ذلك لأن الجميع كان قد علم بسوء سيرها .

دكتور غريب جارنا السمين الطيب .. تزوج من بعد ياسمين بأخرى تفتقد لأدنى قدر من الجمال لكنها كانت هادئة مطيعه وديعه ، وكان دائماً يردد .. راح كتير واللي جاي أقل ، ومش هاخسر قد اللي خسرته .. وكنت كلما نسهر عنده أراه وبنفس الإصرار يطلب من محمود قائلاً برجاء شديد .. يا محمود غنيلي حكايتي مع الزمان ، وكلما سألته كان يضع نظارته الطبية جانباً ويقول لي بحزم إسمع وإنت ساكت .. يغني لنا محمود أغنيات كثيرة ولا ينسى أبدا دكتور غريب ان يختتم محمود سهرتنا بنفس الغنوة .


دكتور غريب .. يا من كنت جارنا السمين الطيب .. أستسمحك أن تسامحني أنني تحدثت عنك فأنا أحبك ويعلم الله مكانتك في قلبي إشتقت إلى جلستك معي .. خطواتك .. حكاياتك .. أمنياتك .. ما ضاع منك وكسرك الحزن عليه أو حاول الحزن أن يكسرك .. سخريتك الغريبة .. مقدرتك على تجاوز كل الخلافات التي يصنعها كل التافهين .. كان إسمك " غريب " ، والكثيرين كانوا يرونك غريباً أما أنا فلم أكن أراك سوى مخلوقاً طاهراً بريئاً متسامحاً لا نستحق نحن أن نكون أصدقاء لك .

دكتور غريب أسألك لماذا لم تزورني منذ سنوات ؟ أتمنى أن أسعد بك وبالحديث معك .. ألم تعد جلستك المفضلة معي ؟ تعال لنتحاور ونضحك ، ونشرب أكواب الشاي بكثرة .. أشتاق لتعليقك الجميل .. أنا دكتور يا عبيط إنت .. هل ما زلت تكرر .. راح كتير واللي جاي أقل ، ومش هاخسر قد اللي خسرته .. أشعر أنك لن تلبي دعوتي ولن تأتي إليّ .. هل لأن المسافة بين الفشن وملوي كثيره على من في مثل سنك حيث أنك الآن يفترض أنك قد قاربت على الستين عاماً .. أنا أعرف أنك لن تستطيع أن تأتي إليّ لأنك غادرت الحياة مبكراً .


[/justify]
الفشن فـترة التسعينات
ملوى 27/10/2011


[/justify]