مثل هذه الظواهر منتشرة بدرجات متفاونة .. الأمر المميز في الإنترنت ببساطة هو قدرتك على الخروج من قيود النظام الاجتماعي ، وتشكيل سلوكياتك وفق ما تريده أنت وليس وفق ما يفرضه عليك الآخرون . فالإنترنت تمثل ببساطة كما قال أحد الفلاسفة " طقم عدة " لتشكيل الشخصية . هل تذكرون قصة د. جيكل ومستر هايد . والتي تركز أن الفرد تتنازعه نوازع شريرة وخفية تعيش في أعماق شخصيته التي ربما تكون راقية ومحترمة ، وبلا شك أن الواقع الاجتماعي هو الذي يمنع هذه النوازع الكامنة من الظهور ، وبمجرد التحلل من هذا الواقع الاجتماعي تبدأ في اختبار وتنمية هذه النوازع ( إلا من رحم ربي ) وأحياناً يتحول الأمر إلى أن تصير حياتك الخفية على الإنترنت التي تعيشها وحدك ، والتي هي بلا سقف من حيث الكم والكيف ، هي حياتك الحقيقية التي ترغب في الدفاع عنها والعيش فيها ، وتدريجياً تبدأ في الانسحاب من العالم الحقيقي إلى هذا العالم الذي صنعته بنفسك ربما عن طريق التجربة أو الترفيه ، وتغوص في أعماق هذا البحر الهائج دون مساعدة لتجد نفسك في النهاية وقد صرت شخصية مختلفة تماما عن شخصيتك العامة والمعروفة .
لكن أكبر المشكلات تكمن في أمرين هما :
أن الإنترنت تسمحلك بتجربة ذاتية فعلية وهمية في كثير من الأحيان ( نعم ) ولكنها مخصصة لك أنت وحدك مما يعطيك قدراًمن الخصوصية ، وهذا بخلاف السينما والتليفزيون اللذان يكتسبان رونقهما الرائع من إثارة حالة التقمص الوجداني لدى المشاهد ، الذي يحاول إسقاط التجارب الدرامية التي يراها على نفسه فيصير الخيال هو المحرك لانفعالاته وأحاسيسه ، ولمكنه في النهاية يدرك أن هذه التجربة يشاركه فيها كل المشاهدين ، وبالتالي تكتسب الدراما تاثيراً جمعياً ، بينما يظل تأثير الإنترنت تأثيراً فردياً شخصياً خاصاً .
أن طبيعة التعرض الفردي للإنترنت تعني أنك تبتعد تماما عن المحيط الاجتماعي الذي قد يوفر عليك الوقوع في الأزمات ، أو يسعى إلى حلها إذا ما وقعت فيها ، لذا فإن دوامة السقوط في هذا البحر لا تنتهي ، ولا تستطيع أن تفيق منها ، وبالتالي تنتفي جميع أشكال المساعدة ويصير الفرد يدور حول محور واحد هو نفسه فقط .
بمرور الوقت تستطيع اكتساب مكانة اجتماعية جديدة ، ترتكز على صفات رغبت أنت في أن تضيفها على نفسك ، وهي صفات غير حقيقية في الأغلب ، وتصير النت هي المتنفس الوحيد لك للشعور بالمكانة الاجتماعية الوهمية المبنية على تصورك الذاتي الذي صنعته لنفسك ، وتصبح لديك الرغبة في تأكيد هذه المكانة والحفاظ عليها مهما كلفك ذلك ، وقد تجد نفسك معرضاً للقيام بتحديات ومغامرات وغير ذلك نتيجة لتأكيد هذه الصفات مما يعرضك للخطر كما هو حال هذا الرجل .
هذا بافتراض أنك حصلت على مكانة تريد الحفاظ عليها ، فما بالك لو حاولت ولم تنجح ، وقتها ستجد نفسك تحاول لفت الأنظار إليك بأية وسيلة مهما كانت ، يفعلها البعض بالخناق والألفاظ غير المهذبة ، ويفعلها البعض بكتابة كل ما هو غريب ، ويفعلها البعض بتلفيق صور وأفلام ، ويفعلها البعض بتصوير أفلام لنفسه ، ويفعلها البعض في حدها الأقصى بالانتحار كما هو واضح في هذه القصة .
خلاصة القول أن الانفصال عن الواقع الاجتماعي الحقيقي كلية أمر غير مستحب ، وينبغي أن تتحرك نشاطاتك الاجتماعية على الإنترنت في ظل وجود نسق قيمي ديني أخلاقي تؤمن به وتخضع له ، وإلا فإن سقف ما تصل إليه لن يكون محدوداً ابداً .
تقبلوا خالص مودتي
المفضلات