خالد بن الوليد

لم يعرف التاريخ جنديًّا أخلص منه لدينه، ولا أقدم منه إلى غايته، ولا يعرف نفسًا أطهر من نفسه، ولا سيفًا أمضى من سيفه. الجندي الذي مشى في كل وادٍ، وصعد كلَّ جبلٍ، خاض البحار، وعبر الأنهار، وجاب الأرض كلَّها حتى نصب للإسلام على كلِّ رابيةٍ رايةً،
........................*

الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فإن خالدًا - رضيَ الله عنه وأرضاه - لم يتخلَّف عن غزوةٍ منذ أسلم، وكان في طليعة جيوش المسلمين الجرَّارة، ومن أبرزهم حضورًا في المعارك الحاسمة، حتى شغله الجهاد عن كثرة قراءة القرآن. ونعم الشاغلُ الجهادُ في سبيل الله تعالى؛ قال قيس بن أبي حازم: "سمعت خالدًا يقول: منعني الجهادُ كثيرًا منَ القراءة"[23].
ومع شجاعته وإقدامه، ورغم كثرة المعارك التي حضرها، والجراح التي أصابت جسده؛ حتى ما فيه موضعُ شِبْرٍ إلاَّ وفيه جرحٌ؛ فإن الله تعالى كتب له السَّلامة في حروبه، وقدَّر له أن يموت على فراشه.

يقول - رضيَ الله عنه -: "لقد حضرتُ مائة زحفٍ أو زهاءَها، وما في جسدي موضعُ شِبْرٍ إلاَّ وفيه ضربة أو طعنةٌ أو رميةٌ، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العَيْر؛ فلا نامت أعين الجبناء"[24].
لقد قويَ إيمانُه، حتى بلغ من قوَّته أنه أُشرب حبَّ الجهاد في سبيل الله تعالى وخدمة دينه، كان همُّه الأكبر الجهاد في سبيل الله، تعلق به قلبُه دون كلِّ محبوب، ولا أدلّ على ذلك من قوله: "ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها محبٌ، أحبَّ إليَّ من ليلةٍ شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سريةِّ أُصَبِّح فيها العدو"[25].
فلله درُّ خالدٍ - رضيَ الله عنه وأرضاه - وهذا الشعور يملك عليه قلبَه، وتمتلئ به نفسُه، حتى يكون همُّه الأكبر الجهادَ في سبيل الله تعالى، وخدمة دينه.
وما تحطَّمت عروشُ كسرى وقيصر، وفتحت بلدانُ الشرق والغرب إلاَّ على أيدي رجالٍ كان هذا همُّهم، وذاك شعورهم. ولما تغيَّر ذلك الهمُّ في خَلَفِهم، وانحصر في الدنيا وحطامها؛ ذلُّوا وانهزموا، وهانوا واستُبيحوا، فهل من خالدٍ وأمثال خالدٍ يعود فيهم يومًا؟!
عن أبي وائل قال: لما حضرتْ خالدًا الوفاة قال: "لقد طلبتُ القتلَ مظانَّه، فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترسٌ، والسماء تُهِلني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار". ثم قال: "إذا مِتُّ فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدَّةً في سبيل الله"[26].

فلما توفِّيَ خرج عمرُ على جنازته وقال: "ما على آل الوليد أن يَسْفَحْنَ على
خالد من دموعهنَّ، ما لم يكن نَقْعًا أو لِقَلْقَلَةٍ"[27].
ورضي الله عن خالد؛ لم يخلِّف تركةً وهو الذي فتح الفتوح، وهدم العروش، وغنم الغنائم، وحمل مثاقيل الذهب والفضة؛ لأنه قاتل لله تعالى لا للدرهم والدينار، ولا للعرش والسُّلطة التي يتقاتل الناس عليها، ويبذلون في سبيلها كلَّ شيء.
قال نافع: "لمَّا مات خالدٌ؛ لم يَدَعْ إلا فرسَه وسلاحه وغلامه؛ فقال عمر: رحم الله أبا سليمان، كان على غير ما ظنناه به"[28].
وقال عمر لما مات خالد: "قد ثُلِمَ الإسلام ثَلْمَةً لا تُرْتَقُ"[29].
وقال: "كان والله سدَّادًا لنحور العدو، ميمون النَّقيبَة"[30].
ولقد كان - رضيَ الله عنه - جديرًا بمقولة أبي بكر - رضيَ الله عنه -: "عجز النساء أن يَلِدْنَ مثل خالد"[31]، وصدق الصدِّيق - رضيَ الله عنه وأرضاه.