يقول الله - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)
هكذا رب العالمين - سبحانه وتعالى - يلفت أنظارنا ويوجه تفكيرنا إلى تلك الأمم، بقياداتها وملوكها وزعمائها وسائر أفرادها، تلك الأمم التي طغت وبغت وتجبرت، فانتقم الله - عز وجل - منها، وصبَّ عليها سوط عذابه، وجعلها عبرة للمعتبرين.
فعاد التي أنشأت أعظم مدينة عرفت على وجه الأرض في وقتها، (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، سلط الله عليها وعلى مدينتها وعلى قوتها جميعاً، سلط الله عليهم: (رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) فأبادهم ولم يُبق لهم باقية.
وثمود الذين جابوا الصخر، أي قطَّعوا الصخر وحفروه ونحتوه ونقبوه وصنعوا بداخله مدن هي من عجائب الدنيا، ولا تزال آثارها ماثلة، تفننوا وتحضروا وكانت لهم قوة، ولكن ملأوهم وكبراؤهم وزعماؤهم، واتبعهم الضعفاء والأتباع جميعاً فلم ينكروا باطلهم أو يغيروا منكرهم، أو يردوهم عن طغيانهم، فدمدم الله عليهم، وأهلكهم بزلزلة أو صيحة، أو ما شاء من أنواع عذابه وعقابه.
وكذلك فرعون ذي الأوتاد صاحب الجنود، صاحب الجيوش، صاحب القوات، كل ذلك لم يغنه ولم يرد عنه؛ لأنه طغى وأفسد في الأرض، واستعبد الناس وادعى الألوهية والربوبية: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) هكذا ربنا - سبحانه وتعالى - يبين لنا لنعتبر ونتعظ، ثم يقول: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يرصد ويكتب ويحاسب كل أحد كل أمة على ما تفعل وتقول وما يصدر منها ثم يعاقبها، وقد بين المفسرون أن التعقيب بهذه الآية يعطينا رسالة لهذه الأمة ولسائر الأمم إلى يوم القيامة، أن من طغى وتجبر فإن سوط العذاب سوف ينزل به ويسلط عليه، كما سلط وأنزل على تلك الأمم.
عباد الله:
إن معاني هذه الآيات الكريمة المشتملة على النهايات الأليمة والمروعة للطغاة السابقين، وما أنزل الله بهم من سوط عذابه، فانتهت به قصص حياتهم، وختمت به تواريخهم وتناقلته الأجيال والأمم من سوء خواتمهم.
أقول: إن تلك المعاني لتتجسد وتبدوا للمتأمل شيئاً محسوساً ملموساً وهو يشاهد ويسمع الأخبار، فهذا لوران باغبو الذي حكم ساحل العاج تلك الفترة الطويلة ثم رضي بالانتخابات ظاناً أنها ستكون في صالحه، فلما خالفت هواه رفضها ثم عاند وكابر وتحدى العالم كله، ثم ماذا؟ ثم ظهر أمام الكاميرات وهم يلقون القبض عليه ذليلاً حقيراً في ثيابه الداخلية، إنها نهاية الطغاة والظالمين مهما طال زمان طغيانهم.
وهاهو حسني مبارك الذي حكم مصر، حكمها بالأمن والمخابرات والسجون وتكميم الأفواه والعمالة البالغة، وجعل من نفسه طاغوتاً فرعون آخر من فراعنة مصر، وأكبر عميل لإسرائيل وللكفار كلهم، وظن أن أولئك ينفعونه، أسخط الله لإرضاء اليهود والنصارى وقهر شعبه للحفاظ على مصالح أعدائه، وركن إلى الذين ظلموا، فوكله الله إلى نفسه وإليهم، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وهاهو يتجرع سوء فعاله هو وعائلته، في السجن أو على وشكه والمرض والعار وسوء الخاتمة إلا أن يشاء الله - تعالى -، بعد أن كان ملء سمع وبصر الدنيا: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
نعم إن في ذلك لذكرى لأولي الأبصار ولكن أين الأبصار أين القلوب؟.
إن بريق السلطة والجاه قد خطف الأبصار فأعماها، وران على القلوب فغشاها، فجعل العديد من ذوي السلطان من ملوك ورؤساء صم لا يسمعون عميٌ لا يبصرون، غلف القلوب لا يفقهون، كما قال - تعالى -: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).
وقد زين لهم هواهم وبطاناتهم السيئة الغاشة الخائنة التي تظهر النصح لهم، وتبطن جعلهم مراكب يعملون من خلالها إلى مصالحهم، ويحافظون بها على مراكزهم، ويتسترون بها على فضائحهم.
أقول: لقد زينت تلك البطانات لأولئك الحكام الظلم والتعسف والعناد والإصرار على البقاء بأي ثمن ولو كان بالكيد للشعوب والدس الرخيص لها، أو حتى بمواجهتها علناً بالقتل والتنكيل وأنواع العقوبات المادية والمعنوية من أجل البقاء على كراسي السلطة، ناسين ما حل بأشباههم ممن سار على تلك الطرق واستعمل تلك السياسات من العقوبات الماحقة، وسوط العذاب الذي جرد عليهم فأخزاهم وأرداهم وجعلهم عبرة للمعتبرين تلاحقهم اللعنات ويسطرهم التاريخ في أقبح صفحاته، حيناً بأيدي شعوبهم وحيناً بيد الله، قال - تعالى -: ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).
إني أقول لهؤلاء الحكام الذين لم يعد لهم قبول عند شعوبهم، ولم تعد لهم هَيبة تمنع من إهانتهم بأنواع الإهانات، ولا محبة لدى تلك الشعوب:
أقول لهم: إن البقاء المستفز الكريم لا طمع فيه، والرحيل هو المصير المحتوم.
فبالله عليكم لا تصارعوا الأقدار، ولا تحاولوا المستحيل، ولا تصدقوا الأوهام.
بالله عليكم لا تضاعفوا الأوزار، ولا تثقلوا موازين السيئات، ولا تعطوا فرصة للمجرمين باسمكم يجرمون، وباسمكم يفسدون.
بالله عليكم فكروا كيف تحسنون خواتمكم، فكروا كيف تحسنون المخرج، راجعوا حساباتكم، فلم يعد بإمكانكم تثبيت الحاضر، ففكروا كيف ترسمون المستقبل، مستقبل الدنيا بذكراها وتاريخها، ومستقبل الآخرة بجنتها ونارها وصراطها وميزانها، اسمعوا إلى قول شوقي أمير الشعراء:
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثاني
وبمقدار ما أخاطب الرؤساء والزعماء بالتفكير الجاد والسريع لإنهاء معاناة شعوبهم، وإيقاف التدهور الذي قد يفضي إلى الفوضى العارمة، والفتنة العمياء الحاكمة، فإنني أخاطب الشعوب والمتحدثين باسمها، سواء من ساحات التغيير أو من مقرات الأحزاب، أو من أي مكان فأقول لهم:
افتحوا أبواب الرجاء وسدوا أبواب اليأس والقنوط، اتركوا مجالاً للأمل، لا تغلقوا جميع الأبواب أمام هؤلاء الذين تطالبون برحيلهم، فمن أين يرحلون إذا سددتم جميع الأبواب.
إن اليائس القانط هو الذي ينتحر، يفضل الموت كيفما كان على الحياة، تظلم الدنيا في وجهه فلا يرى ولا يسمع، فيسارع للتخلص من الحياة كلها، إما بمفرده وإما أن يتحول كأحمر ثمود عاقر الناقة فيدمدمها على الجميع، كما قال - تعالى -: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا).
إن الذي عقر واحد، ولكن العقر نسب إلى الجميع، والعقوبة نزلت بالجميع؛ لأن الجميع لم يعملوا شيئاً لإيقاف ذلك الشقي عن جريمته.
وقال - تعالى -: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
إن شخصاً واحداً من عامة الناس قد يفجر السفينة بمن فيها، فكيف إذا كان الذي يخشى أن يفجرها هو الربان الذي بيده سكانها.
فأرجو أن يتعقل الجميع، وأن يتركوا العناد والإصرار والتمسك بالآمال الكاذبة في تحقيق طموحاتهم كاملة مئة في المئة، فذاك لن يحصل أبداً دفعة واحدة، ولكن أزيلوا عوائق التغيير والعقبات التي تعترض النهوض، وحجموا بؤر الفساد، واستعينوا بالله فواصلوا المسيرة حتى يكتب الله النصر الكامل والفتح المبين للبلاد والعباد، وغيروا ما بأنفسكم، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وبدل أن ترفضوا مبادرة إخوانكم في دول الخليج، اجعلوها مدخلاً للوصول إلى اتفاق مشرف يخرج الله به الناس من الفتنة، ويضع القاعدة التي يتم منها الانطلاق إلى الغد المشرق. وادخلوا الحوار بنوايا صادقة ونفوس متجردة، قال - تعالى -: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).