الشمس تشرق من الشرق.. البحر لونه أزرق.. الأفيال لا تطير.. النزاعات الأهلية تنتهي بتقسيم الدولة أو بمصالحة وطنية.. تلك حقائق الحياة التي لا تنتظر أحداً لاكتشافها من جديد، مش هنخترع يعني!

في وقت يطلب فيه كل المستمعين أغنية "هما شعب وإحنا شعب"، نعود إلى تقديم ما لا يطلبه المستمعون، مع تجارب دول العالم في المصالحة الوطنية.

خصصت مقالاً سابقاً لتجربة الجزائر، التي يحلو لكثيرين من الطرفين الاستشهاد بها دون معرفة تفاصيلها، واليوم نواصل الجولة.

لبنان: القتلة أصبحوا شركاء الحكومة

رغم التوتر العام في لبنان لأسباب تاريخية تخص نشأة الدولة متعددة الأعراق والطوائف أصلاً، إلا أن الحرب الأهلية قد حدثت على خلفية الانقسام السياسي والشعبي إلى فريقين رئيسيين، أحدهما يدعم النضال المسلح للاجئين الفلسطينيين، وهو فريق "الحركة الوطنية اللبنانية" الذي يضم أحزاباً يسارية وقومية، في مقابل فريق آخر يريد طرد الفلسطينيين أو على الأقل منع عملهم المسلح، وهو فريق "الجبهة اللبنانية"، الذي اعتبر الفلسطينيين سبباً لجلب الدمار للبنان، وانتهاك سيادة الدولة كما سبق أن حدث في الأردن وانتهى بأحداث أيلول الأسود، ويتكون هذا الفريق في مجمله من أحزاب يمينية، أهمها حزب الكتائب الممثل الأكبر لطائفة المسيحيين المارون.

بعد سنوات من الشحن الإعلامي والاشتباكات المتقطعة، بدأت الحرب على إثر محاولة فاشلة لاغتيال الزعيم الماروني بيار الجميل في أبريل 1975، اتهم حزب الكتائب الفلسطينيين بتنفيذ العملية، وقتل مسلحو الحزب 27 فلسطينياً في هجوم على حافلة في عين الرمانة، وهو ما أدى لموجة كبيرة من ردود الأفعال العنيفة المتبادلة، وخلال أيام كانت قد أقيمت حواجز في الشوارع تقتل الناس على الهوية لمجرد اختلاف الطائفة أو الانتماء السياسي، وانقسمت بيروت لشرقية وغربية.

دار القتال على أسس طائفية وسياسية وإقليمية متعددة ومعقدة اختلفت عما بدأت به الحرب، حتى إنها شهدت معارك ضارية بين أبناء نفس المعسكر، مثل حرب حزب الكتائب ضد فصائل مسيحية مارونية أخرى من أجل "توحيد البندقية"، أو مثل معارك حرب الحزب التقدمي الاشتراكي ضد حركة المرابطين القومية!

بعد 16 عاماً من الحرب، وسقوط 150 ألف قتيل، وتدمير كامل للبلد، وانقسام الجيش اللبناني وتوزعه على الجبهات المختلفة، اضطر الجميع إنهم "يتنيلوا يتفاوضوا"!

انتهت الحرب عام 1990 باتفاق الطائف الذي تم في السعودية، ونص على حلول وسط نهائية، تشمل ترتيبات داخلية وإقليمية، شملت تسليم الأسلحة، وإعادة توحيد الجيش، وتقاسم السلطة بنظام الرئاسات الثلاث، حسب التعداد السكاني القديم في عهد الاحتلال الفرنسي، وبذلك أصبح للمسيحيين رئاسة الجمهورية، وللسنة رئاسة الحكومة، وللشيعة رئاسة البرلمان، ويحمل كل منهم لقب "السيد الرئيس".

أما المنظمات الفلسطينية فقد خرجت من لبنان إلى تونس، بعد الحصار الإسرائيلي لبيروت، بينما بقيت المخيمات شبه مستقلة، يديرها أهلها ولا يدخلها الجيش اللبناني، وسلاح الفلسطينيين بداخلها.

عُقدت انتخابات برلمانية موزعة طائفياً، وكان أول قانون صادر عن البرلمان الجديد في 1991 هو العفو الشامل عن كل الجرائم التي وقعت منذ عام 1975.

حين تشاهد في التلفزيون اجتماعاً للسياسيين اللبنانيين لن يخطر ببالك أن بعضهم قتلة حرفياً، بل إن لبعضهم ثارات عائلية عند بعضهم!
حين تشاهد سمير جعجع يتبادل الحديث مع طوني فرنجية، لن يخطر ببالك أن سمير كان قائد القوة التي نفذت مذبحة إهدن، وقتل فيها والد ووالدة وشقيقة فرنجية مع 37 من رجاله!

في هذا الفيديو الذي يحكي عن مرحلة قتال حزب الله ضد الجيش السوري وحركة أمل -أيوه حصل والله!- يظهر عند 3:50 أحد مقاتلي أمل يقول بينما يعبئ رصاص سلاحه "هادول حزب الله؟ دول حزب الشيطان". كررت مشاهدة هذا الفيديو عبر سنوات، وفي كل مرة أفكر في مكان ذلك المقاتل الآن بعد أن أصبح حزب الله وحركة أمل حلفاء أعزاء!
هل قُتل واتفق السياسيون من بعده؟ هل عاش وترشح للانتخابات، وتحالف مع "حزب الشيطان" سابقا؟ هل اعتزل السياسة كلها؟

يوما ما قال لبناني لرفيقه وهما يجهزان الحاجز على مدخل شارعهما "لن نخون دم شهدائنا، ولن نصالحهم أبداً، هما شعب وإحنا شعب".

أيرلندا الشمالية: مجرمو "أحد الدم" في مجلس العموم البريطاني

للصراع في أيرلندا جذور تاريخية قديمة تشمل اختلافات سياسية ودينية، وفي المجمل كان الصراع بين الكاثوليك الذين يريدون الاستقلال عن التاج البريطاني، وبين البروتوستانت الذين يدينون بالولاء له.

تعود الأزمة في العصر الحديث إلى الخمسينيات، حيث اندلعت حركة واسعة تطالب باستقلال أيرلندا الشمالية كما استقلت أيرلندا الجنوبية، مما أدى لمصادمات أهلية عنيفة، ساندت فيها الشرطة البروتوستانت.

نفذت منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي موجة هائلة من عمليات الاغتيال والتفجير، حتى إنه في يوم واحد عام 1975 قام الجيش الجمهوري بتفجير 22 قنبلة في بلفاست عاصمة أيرلندا، وأطلق على هذا اليوم يوم أحد الدم.

بعد سقوط 20 - 30 ألف قتيل، بدأت أخيراً المفاوضات الجدية في عام 1997 بعد لقاء رئيس الوزراء البريطاني توني بلير برئيس الجناح السياسي للجيش الجمهوري، رغم أن العالم كله كان يعتبرها رسمياً منظمة إرهابية.

عام 1999 انتهى الصراع باتفاقية بلفاست، والتي نصّت على تمتع أيرلندا الشمالية بالحكم الذاتي في إطار تبعيتها لبريطانيا، ووجود برلمان ومجلس وزراء لها، ونزع سلاح الجيش الجمهوري، ومشاركته في الانتخابات، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية.

حكى لي صديقي كريم عنارة، الباحث بقسم العدالة الجنائية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أنه خلال زيارته لأيرلندا وجد أن الفنادق والمطاعم تُعلق صوراً لها حين فجرها الجيش الجمهوري! لا أحد يريد أن ينسى، فالذكرى تنفع المؤمنين وغيرهم.

يوماً ما قال أيرلندي لرفيقه وهم يجهزون التفجير القادم "لن نخون دم شهدائنا، ولن نصالحهم أبداً، هما شعب وإحنا شعب".

جنوب إفريقيا: الحقيقة قبل الحساب

منذ تأسيس الدولة قامت الأقلية البيضاء الحاكمة باتباع سياسة التفرقة العنصرية "الابارتايد"، فيُمنع السود من التواجد في أماكن معينة، وتصادر أملاكهم، ولا تحق لهم المشاركة السياسية، وكله بالقانون يا أستاذ!

أسس الأفارقة حركة المؤتمر الوطني الإفريقي التي انتهجت المقاومة السلمية منذ عام 1949 حتى 1961 حين وقعت مذبحة شارفيل، حيث فتحت الشرطة النار على المتظاهرين السود فسقط 70 قتيلاً و186 مصابًا، مما أدى لتشكيل المؤتمر الوطني جناحه المسلح، والذي نفذ الكثير من عمليات التفجير وإحراق الممتلكات.

سقط آلاف الضحايا من الطرفين، حتى أعلن رئيس الحكومة فريدريك دي كلارك عام 1990 البحث عن حل سياسي، وأفرج عن مانديلا، علماً بأنه كان من قادة الجناح العسكري، وكان بحكم القانون إرهابياً (وبالمناسبة لم يخرج مانديلا من القائمة الأمريكية للإرهاب إلا عام 1998)
حدثت عملية مفاوضات طويلة حتى عام 1994، جرى خلالها الكثير من وقائع القتل العرقي، وأيضاً تم اتهام مانديلا بالخيانة من بعض رفاقه السابقين.

تم التوصل لتسوية نهائية تتضمن المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية بين المواطنين، وتحولت حركة المؤتمر إلى حزب سياسي، وفاز مانديلا بانتخابات الرئاسة، وعيّن منافسه دي كلارك -رئيس الأعداء قتلة شعبه!- نائباً أول له، رغم أن من آخر قرارات دي كلارك قبل الانتخابات هو العفو عن 3500 ضابط شرطة!

أشرف مانديلا على تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة عام 1995، وترأسها كبير الأساقفة ديزموند توتو، وتركز عملها على تلقي طلبات المتورطين في الجرائم من الطرفين بالعفو، مقابل الاعتراف التفصيلي بالحقيقة.

عام 1998 أصدرت اللجنة تقريراً تاريخياً تضمن شهادات أكثر من 22 ألف مجرم وضحية وشاهد، تم إذاعة 2000 شهادة منها على التلفزيون الرسمي. أعلنت اللجنة تلقيها 7000 طلب بالعفو مقابل الحقيقية، أغلبها من العاملين من الأجهزة الأمنية وقبلت بالفعل فوراً 1000 طلب منها، وكان منهم متورطون في جرائم تعذيب أو اختطاف وقتل، بينما رفضت أو أجلت نظر باقي الطلبات.
في عام 2010 أصدرت المحكمة الدستورية حكماً ينص على حق الضحايا باستشارتهم قبل منح العفو.

يوما ما قال إفريقي لرفيقه وهم يجهزون الهجوم القادم "لن نخون دم شهدائنا، ولن نصالحهم أبداً، هما شعب وإحنا شعب"!

مصر: مش هنخترع!

يقولون: مصر ليست الجزائر، أو لبنان، أو أيرلندا، أو جنوب إفريقيا، أو حتى تيمور الشرقية!

يقولون: هذه التجارب ليست مثالية، وسلبياتها كذا وكذا.

ماشي، بالتأكيد هناك ألف اختلاف بين أي تجربتين، ويمكنني أن أعدد عيوب تجربة جنوب إفريقيا أو كوارث الوضع السياسي المتوتر في لبنان، لكن الإطار العام الواسع واحد: انقسام سياسي وأهلي طويل المدى، يتبعه مصالحة بها حلول سياسية وسط يتنازل بها الطرفان، وقدر من العدالة الانتقالية المتساوية.

يقولون : "هما شعب وإحنا شعب"، ماشي، لكن حتى لو افترضنا صحة العبارة الكريهة، فبالفعل يعيش في العديد من الدول شعوب متعددة بأديان ولغات مختلفة، والدنيا ماشية!

سين وجيم للتبسيط:

هل ما يحدث في مصر صراع أهلي؟

بالتأكيد، وبالنسبة لي الأهبل فقط -وليس الأعمى- هو من لا يدرك أن الشعب منقسم.
في المترو، والميكروباص، وفي عملك، وزياراتك العائلية، ستجد من يتشاجر حول مرسي والسيسي، ولا يقتصر الأمر على مجرد الشتائم، بل أصبح لدينا مئات من وقائع العنف الأهلي، تبدأ من إلقاء الطوب وتنتهي بحرق المنازل والقتل، ثم نجد سفيهاً هنا أو هناك يعتبر الموضوع مقتصراً على حرب الشعب كله ضد «الانقلاب»، أو حرب الشعب كله ضد «جماعة إرهابية»!

في أغسطس الماضي أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقريراً يوثق سقوط 165 قتيلاً مدنياً على يد مدنيين في الفترة من 27 يونيو حتى 31 يوليو.

هل مؤيدو مرسي فئة من الشعب؟
قطعاً نعم، مرسي نال أصوات 25% من الشعب في الجولة الأولى، وهذه في تقديري هي قاعدة الإخوان الأساسية وتشمل مؤيديهم ومن يمكنهم حشدهم، ولا أظنها تضررت بشدة، بل بالعكس أراها تستعيد توازنها وتماسكها بفضل خطاب المظلومية.

هل مؤيدو السيسي فئة من الشعب؟
قطعاً نعم، إذا كان شفيق ممثل الدولة القديمة الأقل كفاءة وذكاءً -لم ننسَ الصف الصناعي والكراهة في الأركان!- قد نال 49% من أصوات الشعب في مقابل محمد مرسي الذي كان ممثل الثورة وقتها، فما بالنا بمستوى شعبية السيسي ممثل الدولة القديمة الأعلى كفاءة.

هل يمكن إبادة أي فئة من الاثنين؟
لن يمكن ذلك إلا بقتل ملايين المصريين، أي ببساطة: مستحيل.

هل يمكن لأحد الفئتين الحكم بهدوء وتجاهل الأخرى كأنها غير موجودة؟
مستحيل، وأمامنا تجربة مرسي مع معارضته، ثم تجربة النظام الحالي مع معارضته.

هل يفهم كلا الطرفين هذه الحقيقة؟
لا، ينظر أغلب مؤيدو مرسي للفريق المقابل على أنهم شعب «عبيد بيادة»، و«سرسجية»، و«علمانيين»، و«فلول».
وينظر أغلب مؤيدو السيسي للفريق المقابل بوصفهم «إرهابيين»، «خونة»، «مجانين».

ما الحل؟
المصالحة الوطنية أو تقسيم البلد إلى دولتين. لا خيارات أخرى.

ما الذي تفعله وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية؟
لا تعليق!

***

من يرفضون المصالحة الوطنية ينتظرون لحظة "تمكين" خارقة سيسحقون فيها الطرف الآخر تماماً، أو ينتظرون لحظة "تنوير" خارقة حينها سيهتدي الطرف الآخر ويتبعهم!
يؤسفني إخباركم أن هذا لن يحدث، لن تسحقوا عدوكم أبداً، ولن يقتنع بآرائكم أبداً!

المصالحة الوطنية لا تعني أن تتماهى الأطراف مع بعضها، ولا تعني أن ينسى الناس كل ما جرى فجأة، ويعيشوا في تبات ونبات، وبالمناسبة ما زالت الأطراف اللبنانية المختلفة تمجد معاركها وشهداءها في الحرب حتى الآن.

لا مصالحة بدون عدالة انتقالية متساوية، أي بوضوح وصراحة هناك مجرمون وقتلة من الجيش والشرطة ارتكبوا جرائم خلال الثورة 18 يوماً، ثم خلال حكم المجلس العسكري (محمد محمود، مجلس الوزراء، العباسية، ماسبيرو)، ثم خلال حكم مرسي (جيكا، الشافعي، الجندي... إلخ)، ثم بعد حكم مرسي (رابعة، النهضة، رمسيس... إلخ)، كما أن هناك جرائم ارتكبها إخوان أو إسلاميون (الاتحادية، مكتب الإرشاد، التعذيب في مسجد القائد إبراهيم أو المقطم... إلخ)، كما أن هناك جرائم ارتكبها أهالي أو ثوار؛ لأنه على حد علمي لا شيء يجعل ضرب مظاهرات الإخوان أو حرق مقراتهم مسموحاً به قانونياً.

إما حساب جميع المذنبين من منفذين ومحرضين من كل الأطراف، أو وضع قواعد لمن يُحاسب ومن ينال العفو، أو مع الأسف خروج آمن للجميع.
(ولا يعني هذا أني أساوي بين الطرفين بشكل مطلق، دائماً السلطة أكثر مسئولية، وجرائمها أكثر دموية.)
وبعد أن ينتهي كل شيء ستأتي أجيال من بعدنا تقرأ عن مذبحة رابعة، أكبر حادثة قتل جماعي في التاريخ المصري الحديث حسب وصف هيومان رايتس ووتش، وعن أحداث الاتحادية، ومذبحة رفح، وسواها، وتفكر في سبب كل ما حدث.

يوماً ما قال مقاتل لبناني/ جنوب إفريقي/ أيرلندي لرفيقه، "شكلنا كده مش هنخلص عليهم!".



[overline]هذا المقال للكاتب الشاب محمد أبو الغيط نشر في الشروق بتاريخ الخميس 19 ديسمبر 2013[/overline]