" سؤلي " قصة قصيرة . من مجموعتي القصصية الأولى
سؤلي ..
=========
كلما قلبه يدق كان يضع كفه عليه فأنظر إليه نظرة حائرة فيطمئنني بأنه بهذا الفعل يفتح مجالا لأن يسكن نبض القلب في سائر جسده ، ويضيف : قلبك صادق يبقى كُـلك صادق . ثم يبتسم فتسكنني طمأنينة ، ولكنه لم يجيبني عن أسئلتي الكثيرة . ماذا عن أحلامه التي ظلت تتبخر بينما هو قابع في صومعة الرضا والحمد قانعاً بأن كل ما عليه هو السعي إنما التوفيق فيأتي من عن الله .
وماذا عن حبيبته التي لم تجمعهما الأيام سوياً فقال أنها مشيئة الله ، ولا شك أن مشيئته لصالح كل البشر ، وبقيّ كراهباً كل صلواته وتلاواته وطقوسه ومزاميره هي الذكرى وبقي مخلصاً لنذر رهبنته هذا فلم يتزوج وكلما سألته ألا ترغب أن يكن لك أبناء فكانت إبتسامته الساحرة الراضية جداً تملأ كل قسمات وجهه وهو يقل لي : ما أنا عندي عيال يا عبيط إنت مش الخال والد برضُه ؟
وماذا عن تسامحه مع كل من يسيئون إليه فيقدم لهم غفراناً غير مشروطاً تاركاً دوماً جزء من حقه بل وربما حقه بالكامل معتبراً أن مكسبه الحقيقي هو محبة الناس مردداً جملته الشهيرة . الناس للحب والأشياء للإستهلاك.
وماذا عن خيانة الأصدقاء المزيفين وأحقاد أقرانه بالعمل وما يدبرونه ضده في الخفاء فيفسده الله علانية في إعلانات دائمة عن أن الله حافظه وقتها يبتسم لي ويقول أن الله يحفظ دوماً من يحبونه ، ويضيف أن كل الأشياء تعمل دوماً للخير فقط لمن يحبون الله ويلقون بأحمالهم عليه . أحسده أنا على قلبه هذا المصنوع من سبائك الطُهر والنقاء .
عرفته في إحدى الرحلات الكنسية . رأيته شعلة نشاط وحيوية وموقد دفئ فلم يشعر أحد بأننا في قلب الشتاء . يا لروعته ، ويا لروعة حديثه ولسانه هذا الذي يقطُر شهداً ، وروح الشكر التي دوماً يتحلى بها وتلازمه في كافة الظروف . قليلة هي المرات التي إختلفنا فيها ولكنه دوماً يأتي إليّ مبتسماً ويسألني عما يرضيني ونتقابل في المنتصف بل يقترب هو مني أكثر معتبراً أن ما يتنازل عنه لي فهو مكسباً له هو وليس لي ولأننا أصدقاء فما لديّ هو ملكاً له وليس بين الأصدقاء غالباً أو مغلوباً ، وهو هكذا مع الجميع .
ملائكي الطباع بل لو كُتب للملائكة أن يسكنون الأرض فلن يسلكوا بما هو أحلى من مسلكه . في بدء معرفتي به سألت عنه أب إعترافي فضحك الكاهن كثيراً وقال أن صديقك هذا له نفس إسمي قبل أن أصير كاهناً فابتسمت أنا وأيقنت أن هذا الإسم النادر يُطلق الآن على إثنين ممن أعرفهم ، وعرفت أنهما يسكنان في منزل واحد وأن والدة صديقي هي شقيقة الكاهن .
ملأت رائحة البخور بهو الكنيسة .. إحتبس صوت الكاهن ولكنه تمالك نفسه ، وإستكمل آداء صلواته ولم يكن سهلاً عليه هذا الفعل بالرغم من أنه ولا شك قد أداه كثيراً . كان الكاهن يصلي على الجسد الموضوع أمام الهيكل وعيناه تمتلئ بدموع غزيرة . صلبان ذهبية تزين الصندوق المطلي بلون داكن .. شعرت بأنني بحاجة أن أقوم لأرفع الغطاء وأكشف وجه هذا المسجى بداخله وأترجاه ألا يذهب بعيداً . غالبتني دموعي فتلاشت تفاصيل المشهد بأكمله من أمامي .. تناهي لمسامعي صوت الكاهن وهو يختتم الصلاة .
بقيت أسئلتي بلا أية أجوبة .. هرول الرجال يحملون الصندوق .. إعتصر قلبي حزناً فها هو أحد رفقاء الأيام يغادر الحياة غير آسفاً على ما فيها متحرراً من أي محبة لأي شئ دنيوي ، ودون أن يجيبني كيف بقيّ محتفظاً بآدميته ونقاوة قلبه وسط كل هذا المستنقع الذي نعيش فيه .
" سؤلي " يا أيها المتكئ الذي كنت لي براحاً في أكثر أوقات الضيق ضيقاً .. ممن أتزود بالطاقة والأمل الآن يا أيها الملائكي . هل أنت ملاكاً أتى بالخطأ لدنيانا أو لمقصد لا يعلمه سوى الله . ستبقى بقلبي لك مرتبة النبلاء والفرسان . هل لديك أجوبة يا صديقي أم أنت نفسك سؤالاً بلا جواب .
============
ملوي 02/01/2013
