مفهوم الصدقة وعلاقتها برمضان

الصدقة لها مفهومان: مفهوم عام واسع شامل لكل خير: (تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة) ، فهذا من مفهوم الصدقة العامة الشاملة، وللصدقة نوع آخر أخص من سابقه، وهي الصدقة الجارية، التي لها أجر بالغ في إزالة الشح والبخل عن الإنسان، وهذا الأثر التربوي هو الذي نحتاج إليه؛ فإن كثيراً من الناس لا يشعر بأنه بخيل، بل يظن نفسه كريماً، لكنه إذا راجع نفسه لن يذكره الشيطان بما أنفق من ماله إلا ما كان في سبيل الله ليستكثره، ومن هنا لا يستشعر أنه بخيل في التعامل مع ربه الكريم الذي أنعم عليه بأنواع النعم، ولطف به بأنواع الألطاف، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
والصدقة إذا أطلقت في الكتاب والسنة فيقصد بها الزكاة المفروضة والنافلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: {فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} وقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] يعني: الزكاة، فهي تشمل هذا وهذا والحمد لله.
وأصل الصدقة مأخوذة من الصدق، ولهذا يلزم المتصدق أن يكون صادقاً، فإن كان كذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) ، والفلو: هو المهر، فكما أنك تربي فرسك فيكبر على عينك -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للعبد حتى تصير كأمثال الجبال! وهناك كثير من العباد يفاجئون بمثل هذه الحسنات التي ما كانوا يتوقعونها، يتصدق بصدقة وهو مخلص فيها ثم نسيها، فيفاجأ هذا الرجل بجبال من الحسنات من أين هذه الجبال؟! إنها من الصدقة التي وضعها يوماً ما في يد مسكينٍ أو فقيرٍ أو معول ونسيها: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75] ، في كتابٍ عند الله تبارك وتعالى.

العلاقة بين الصوم والإنفاق
ونحن نستقبل موسم التقوى نؤكد على هذه الصلة الوطيدة بين الصيام والإنفاق والجود، ولقد كان المثل الأعلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكشف لنا عن حقيقة هذا التلازم وهذا الترابط الوثيق بين رمضان والصيام وبين الإنفاق والصدقة، ففيما روى ابن عباس رضي الله عنهما، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس) ، فهل هناك تعبير أبلغ من هذا؟ هو أجود الناس، أي: بلغ الرتبة العليا في الكرم والجود والسخاء.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم (كان أجود الناس) هذه المرتبة العليا، فهل بعد ذلك من شيء؟ لا.
قال: (وكان أجود ما يكون في رمضان) أي: يزداد جوداً إلى جود، وكرماً إلى كرم، وعطاءً إلى عطاء، وسخاءً إلى سخاء.
(فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) تعبير بليغ.
(الريح المرسلة) أي: المطلقة.
فهل تتقسط؟ وهل تأتي شيئاً فشيئاً؟ إنها تأتي مندفعة قوية هادرة، وكذلك كان هذا الوصف لجود المصطفى صلى الله عليه وسلم، وللأسف الشديد كذلك نذكر المال الذي ينفق على عكس مراد الله، وعلى عكس هذه الصورة المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنفاق للصد عن الدين ولإغراق المسلمين في الغفلة والهوى والشهوة، كما أسلفت في ذلك، وينبغي أن ننتبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وأخبرنا الحق جلا وعلا فقال: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] ، والكسب الخبيث الذي نرى صوره -كما قلت- معلنة محرم مقطوع بحرمته ليس فيه خلاف، وليس هناك تشدد بالقول بحرمته؛ لأن الآيات بذلك نطقت، والأحاديث بذلك شهدت، ومع ذلك نرى صوره كل عام تتكرر وتزداد، ولعلنا نستحضر أمراً وإن كان الفارق موجوداً، لكننا نقوله حتى نتعظ ونعتبر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ، هذه صورة لأهل الكفر.
وللأسف أن بعض أهل الإسلام يوافقونهم في ذات العمل: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تكون العاقبة مشابهة {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] ، نسأل الله عز وجل السلامة.
ونتأمل كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن مسعود في البخاري قال: (لما نزل فضل الصدقة كنا نحامل) أي: ليس عندنا مال.
ومن ليس عنده مال فليس عليه زكاة، ولا تطلب منه الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ، يعني: بعد أن تستغني تصدق بما يزيد.
لكن الصحابة المحبين للخير الراغبين في الأجر يقولون: (كنا نحامل) أي: يعمل أحدهم حاملاً، فيحمل حتى يأخذ أجراً.
لماذا يأخذ هذا الأجر؟ هل ليوسع على أهله وليدخر قرشه الأبيض ليومه الأسود؟ كلا.
إنما يريد أن يحصل على شيء من المال لكي ينفق فيكتب من المتصدقين ويكون من المنفقين، فإذا كان هذا فما حال الذين عندهم فائض ثم لا ينفقون ولا يكتبون في هذا الباب؟ وحديث أبي سعيد الخدري يدل على ذلك: (من كان له فضل ماء فليعد به على من لا ماء له، من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، من كان له فضل طعام فليعد به على من لا طعام له، قال: حتى ظننا أن لا حق لأحد منا فيما فضل من ماله) .
فهذه فرصة عظيمة، وينبغي أن لا نجعل إنفاقنا في شيء مما حرم الله، وأن نسارع إلى تلك الميادين، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته

فضل الصدقة والبذل والإحسان

ينبغي للمسلم أن يبذل وينفق ويحسن من مال الله الذي أعطاه، فهو يرى بنفسه كثرة المصائب والمحن على المسلمين، وأن في كل مكان مأساة، فلماذا إذاً نبخل؟!
لماذا يضيق بعض الناس ويتبرّم من كثرة الهيئات الخيرية، والمؤسسات الدعوية التي تطالبه بالبذل والعطاء؟! إنها ظاهرة صحية، ودليل على صحوة الأمة وقيامها بواجباتها تجاه المسلمين في كل مكان.
إن الجميع يشهد بالخير لهذه البلاد بهيئاتها ومؤسساتها الخيرية، ويذكرها بالفضل والإحسان لمد يد العون للمسلمين في كل مكان، وفّق الله القائمين عليها لما يحبه ويرضاه، وأعانهم على ما فيه خير للإسلام ونصرة لهذا الدين.
انظري إلى نفسك أيتها الأخت! عند شراء اللباس وأدوات الزينة، وملابس الأطفال وألعابهم، كم ننفق على أنفسنا وشهواتها، وكم ننفق لنصرة ديننا وعقيدتنا؟! {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] لنغير ما بأنفسنا، ولنقوِ الصلة بيننا وبين ربنا لنحي قلوبنا بكثرة ذكر الله؛ لتكون لينة رقيقة رحيمة شفيقة، لنبذل أموالنا وأنفسنا من أجل ديننا وعقيدتنا.
ذكر أحد الإخوة أنه قبض على مزارع في أحد المزارع هنا، هندوسي لا يقرأ ولا يكتب، وكان يدور على المزارعين الهندوس في المزارع القريبة منه ويجمع التبرعات، أتدري لماذا؟! إنه يجمع الأموال من أجل بناء المعبد الهندوسي مكان المسجد البابري، بعد أن تنادى الهندوس لجمع التبرعات لبناء هذا المعبد، وقبل ذلك تجمّع آلاف الهندوس وهم يحملون فئوسهم ومعاولهم لهدم المسجد، وهُدم حجراً حجراً، وقتلوا آلاف المسلمين الذين تحركوا لحماية مسجدهم، لكنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، ثم تنادوا لجمع التبرعات لبناء المعبد الوثني على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي بأسره.
إنه رجل وثني عامي جاهل كبير في السن، جاء يبحث عن لقمة العيش ليسد بها جوعته، وهو في غربة بعيد عن الأهل والزوج والولد، ومع ذلك ما شغله ذلك كله عن أن يتحرك لنصرة وثنيته، وحمْل الهمِّ لحجر لا يضر ولا ينفع يعبد من دون الله.
فأين أنتم يا أهل التوحيد! يا من تسجدون وتركعون لله وحده؟! أين أنتم من نصرة دينكم؟ وأين الهمُّ لإخوانكم المستضعفين المضطهدين في كل مكان؟ أين أنتم يا من تنعمون بمال الله؟! إن من يبخل اليوم بماله يبخل غداً بنفسه، وبئس القوم نحن إذ لم نقدم أموالنا وأنفسنا من أجل ديننا وعقيدتنا.
صور مشرقة لنفوس مسلمة: إن ثمة صوراً نسمعها تتردد هنا وهناك، تحكي جانباً مشرقاً لنفوس مسلمة، نجد فيها ذلك الإنسان الذي نفتش عنه، أذكر منها: ذلك الغلام الصغير يوم أن جاء لمناسبة عائلية يحمل بين يديه علبة حليب فارغة، وقد كتب عليها (تبرعوا لإخوانكم المسلمين) أخذ يدور بها على الرجال فرداً فرداً، فلما انتهى نقلها إلى النساء، فلما سألته: من أين لك هذه الفكرة؟ ذكر أن أستاذه تكلم اليوم عن أطفال الصومال الجائعين، وما يجب لهم علينا كمسلمين!! فهل نعجب من هذا الطفل الصغير، أم من أستاذه الكبير؟! وسمعت عن ذلك العامل المصري الذي جاء يبحث عن لقمة العيش، لما سمع منادي الصدقة وحال إخوانه، لم يجد ما يتصدق به إلا ساعة كانت تلف معصمه، مدها لإمام المسجد وهو يقول: والله الذي لا إله غيره! لا أملك سواها، فلما علم به تاجر غيور اشتراها بألف ريال.

أكّد ابن القيم أن للصدقة أثرٌ عجيبٌ في قبول الدعاء، وبل وفعل المعروف أياً كان: [فصنائع المعروف تقي مصارع السوء] .
كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144] .
والصدقة مكفرة للخطايا، وهي توسع صدر العبد، وعدها ابن القيم في زاد المعاد من أسباب شرح الصدر، وكذلك وصف صلى الله عليه وسلم رجلين كريماً وبخيلاً، برجلين عليهما جبتان، فلا يزال الكريم ينفق فتتسع الجبة ولا يزال البخيل يمسك فتضيق عنه، فيقول أبو هريرة: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع} يعني الجبة من ضيقها، ولذلك نفوس البخلاء من أضيق النفوس؛ لأنهم ما بذلوا، ونفوس الكرماء من أشجع النفوس ويقولون: في الغالب تجتمع للكريم الشجاعة، وللشجاع الكرم، وغالباً يجتمع في البخيل الجبن وفي الجبان البخل، فتجد الشجاع دائماً كريماً؛ لأنه يجود بنفسه صباح مساء، يقول بعضهم:
شهر رمضان شهر الجود والإنفاق، شهر النفوس السخية والأكف الندية، شهر يسعد فيه المنكوبون ويرتاح فيه المتعبون، فليكن للمسلم فيه السهم الراجح، والقدح المعلى، فلا يترددن في كفكفت دموع المعوزين واليتامى والأرامل من أهل بلده ومجتمعه، ولا يشحنَّ عن سد مسغبتهم وتجفيف فاقتهم، وحذاري من الشح والبخل فإنهما معرة مكشوفة السوءة! لا تخفى على الناس فتوقها، ناهيكم عن كون النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ ربه منهما، بل إن الجود والكرم كانا لزيما رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، في حين أنه يتضاعف في رمضان حتى يكون كالريح المرسلة، وفي الصحيحين: {أنه صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئاً فقال: لا} .

ما نقص مال من صدقة
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الشح الذي يحمل بني آدم على منع الصدقة، برغم أنهم لو تصدقوا لكان خيراً لهم، ولذلك أقسم النبي عليه الصلاة والسلام -مع أنه قلما يقسم في الأحاديث- فقال كما رواه الترمذي وغيره: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة ... ) ، فإذا كان معك مائة ريال، فتصدقت منها بعشرة ريال، فلا تظن أنه بقي معك تسعون ريالا؛ لأن مالك لم ينقص بل ازداد، ولكن العبد يريد أن يرى كل شيءٍ بعينه، وينسى أن صحته أغلى من ذلك، بدليل أنه لو أصابك مرض لأنفقت أموالك في العلاج.
فكونك صحيحاً هذا مال وكون ولدك صحيحاً مال وكونك في عافية هذا مال تصفو أملاكك كما هي هذا مال بيتك كما هو هذا مال وقس على ذلك، ولكن الناس لا يحسون إلا بالنعمة الظاهرة؛ ولذلك قلما يحمد الله تبارك وتعالى من ينظر هذه النظرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقسم على هذا ويقول: ما نقص مالٌ من صدقة) ، والله عز وجل أقسم كذلك، ومن المعلوم أن العباد في شك من الأشياء المقسم عليها؛ ولذلك فإن الخطاب الشاذ في الشيء يحتاج إلى نوع تأكيد، قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] ما هو؟ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:22-23] .
لأن كثيراً من العباد لا يتصورون أن رزقهم في السماء، ولماذا جعل الرزق في السماء؟ حتى تطمئن أنه لن يستطيع مخلوقٌ أن يقطع رزقك: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] ، فإن كنت لا تصدق أن رزقك في السماء: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) أي: إن هذا الكلام حق، (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) .
أأنت تتكلم؟! فإن كنت لا تشك في أنك تتكلم الآن فإياك أن تشك أن رزقك في السماء.
وقد كان بعض السلف إذا تلا هذه الآية بكى، وقال: من أغضب الجليل حتى حلف على هذا، ونحن نصدقه بلا حلف.
وتأمل الأدب في قوله عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ) ، فقد في الأول: (الَّذِي خَلَقَنِي) ، (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي) ، ولم يقل: والذي أمرضني، أو وإذا أمرضني فهو يشفين وإنما نسب المرض لنفسه، كقول الخضر عليه السلام لما خرق السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] ، مع أنه قال في نهاية المطاف: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] ، فأنا مأمورٌ بهذا من قبل رب العالمين، لكن عندما جاء ذكر العيب نسبه إلى نفسه تأدُباً، ولما جاء ذكر الرحمة في قصة الجدار قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] ، فنسبها إلى الله تبارك وتعالى.

لا تحقرن من المعروف شيئاً

(لا تحقرن من المعروف شيئاً) ، تصدق وإن كان المال قليلاً وأخرج ما عندك، فالله تبارك وتعالى يربيها لك، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتصدق على من يقابله بالسكر، كان يحمل قطعة سكر في جيبه ويتصدق بها، فسُئِلَ عن ذلك فقال: قال الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، وأنا أحب السكر.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتصدق بحبات العنب، فَيُسأل: وما تغني حبة عنب، فإنها لا تشبع ولا تروي ظمأ ظامئ؟ فيقول: (إن فيها مثاقيل كثيرة، قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] ) والذرة لا ترى بالعين المجردة، فلو فعلت مثقال ذرة خيراً لوجدته، فما بالك بحبة عنب! فإن فيها مثاقيل كثيرة.
ويروى أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تعطر الدنانير والدراهم قبل أن تتصدق بها، فتسأل عن ذلك؟ فتقول: إنني أضعها في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تصل إلى يد المسكين.
لقد أدبنا الله تبارك وتعالى أدباً آخر، فقال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] ، فإذا كان لديك تمر، أو أي شيء تريد أن تتصدق به، فإياك أن تتصدق بالرديء منه، مثلاً: بعض الناس لديه قميص ثمنه تسعون جنيهاً، ثم وهو يكويه كانت المكواة حارة فخرقته، فجاءني وقال: خذ هذا وتصدق به على مسكين، مع أنه لو لم يحرق هذا القميص لما خطر على باله أن يتصدق به، إذاً {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] ، فإنك لو كنت في مكان ذلك المسكين وجاءك رجلٌ بمثل هذا الرديء لما أخذته إلا على إغماض، لأنه رديء، قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] .
فلا يجوز للمرء أن يعمد إلى الشيء الرديء ثم يتصدق به، إنما يتصدق بأجود ما عنده لماذا؟ لأنه يضع هذه الصدقة في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تصل إلى يد المسكين.

لقد مدح الله سبحانه وتعالى صدقة السر فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] ، ولكن قد تكون صدقة العلانية أفضل من صدقة السر؛ وذلك إذا كان هناك حاجة إلى إعلان الصدقة، كالرجل الذي جاء بصرة وقدمها إلى النبي عليه السلام، فجعل الناس يقتدون بهذا الرجل ويقدمون صدقاتهم.
لكن الأصل أن الصدقة تكون سراً؛ لأن الصدقة إنما سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه إذا أخرجها سراً فإن هذا دليل على أنه لا يريد ثناءً من الناس؛ فإن هذا الثناء قد يجر إلى الرياء والسمعة.
وقال عليه السلام مادحاً صدقة السر: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء) ، وهذا الرجل قد تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وذلك كناية عن شدة إخفائه عند إخراج الصدقة.
إذاً: أفضل أنواع الصدقة هي صدقة السر.
لذلك على المسلم أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك صدقة السر، ولو بشيء يسير، فقد كان بعض السلف يتصدق كل يوم، فإذا لم يجد أحياناً تصدق ببصلة يقدمها إلى فقير.
إن أصحاب صدقة السر هم في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
السر والعلن في الصدقة
قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] أيضاً النفقة تكون متتابعة بالليل والنهار، سراً وعلانية، فصدقة السر لها ميزان، وصدقة العلانية لها أحوال تكون أفضل، كما إذا كان يشجع غيره ويدفعه للصدقة، وإلا فإن الأصل أن تكون خفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وصدقة السر تطفئ غضب الرب.
ولا شك أن الذي يقول قولاً معروفاً: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] .
لأن القول المعروف صدقة، والمغفرة أن تغفر للناس ما أخطئوا عليك صدقة؛ هذه صدقتان خير من نفقة وصدقة يتبعها أذى فتكون باطلة.
الرياء في الصدقة
ولقد بين الله عز وجل مثلاً لمن يرائي في الصدقة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة:264] هذا الصخر الصلب {عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] عليه طبقة من تراب {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} [البقرة:264] أصابه مطر شديد، ماذا سيحصل للتراب الذي على الصخر الأصم الصلب؟ هل سينبت؟! لا.
وإنما سيزول، والمطر يغسل هذا الصخر من التراب، فكأنه لا مكان للبذل أصلاً ولا لخروج شيء {فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة:264] أملس كما كان قبل أن يكون عليه تراب {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264] .
فإذاً: هذا معنى أن المن والأذى يحبط الصدقة.
فقلب المرائي مثل الصخر لا ينبت شيئاً ولا ينبت خيراً، كما أن هذه الصخرة التي عليها التراب لم تنبت شيئاً، ما كان عليه إلا قليل من الغبار، شبه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر هذا هو المن الذي أذهب أثر الصدقة وأزالها، بخلاف الذي ينفق ابتغاء وجه الله، يقول الله في شأنه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265] الذي ينفق أمواله إخلاصاً لله وتصديقاً بموعود الله وتثبيتاً من نفسه وهو صدقه في البذل والعطاء لا شك أنه في هذه الحالة يكون حاله كمثل جنة -بستان- بربوة، أي: على مكان مرتفع، فإن البستان إذا صار في مكان مرتفع، في طريق الهواء والرياح تسطع عليه الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، ويكون الثمر أنضج وأحسن وأطيب ولا شك في ذلك، بخلاف الثمار التي تنشأ دائماً في الظلال، ولذلك قال في الزيتونة: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: معتدلة في الوسط، الشمس تأتي عليها في جميع الأوقات {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35] فهذا أنفس الزيتون، وأنفس الأشجار ما تكون بهذه الصفة، فهذه الجنة التي بهذا المرتفع المتعرضة للشمس إذا أصابها الوابل والمطر الشديد آتت أكلها ضعفين؛ أعطت البركة أخرج ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} [البقرة:265] إذا ما أصباها وابل {فَطَلٌّ} وهو دون الوابل الرش الخفيف؛ هذا يكفي لإنباتها أيضاً، لكن إنباتاً دون الإنبات الأول، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للسابق بالخيرات والمقتصد المقتصد صاحب الطل، والسابق بالخيرات صاحب الوابل.
إذاً: هذا مثل المرائي ومثل الذي ينفق إخلاصاً لله سبحانه وتعالى.
ثم إن الله عز وجل ضرب مثلاً آخر في سورة البقرة التي فيها هذه الأمثال العظيمة حاثاً عباده على أن تكون صدقاتهم خالصة له عز وجل، قال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266] هذا الشخص تعلق قلبه بهذه الجنة من نواحي كثيرة: أولاً: أن فيها أعناب ونخيل، وهي من أنفس الثمار.
ثانياً: أن هذا البستان يجري من تحته الأنهار.
ثالثاً: أنه ليس فقط فيها أعناب ونخيل، وإنما فيها من كل الثمرات.
رابعاً: أن هذه الجنة التي فيها أشرف أنواع الثمار التي يؤخذ منها: القوت، والغذاء، والدواء، والشراب، والفاكهة، والحلو والحامض التي تؤكل رطباً ويابسةً، أي: النخيل والعنب؛ هذه صفاتها، وبالإضافة إلى كل الثمرات؛ فإن هذا الرجل قد كبر سنه، ولا شك أن الإنسان إذا كبر سنه لا يقدر على الكسب والتجارة ويحتاج إلى الأشياء التي لها مدخولات ثابتة كالمزارع والعقار، ولذلك أصابه الكبر، فهو يحتاج إليها حاجة شديدة الآن، وكذلك فإن هذا الرجل إذا كبر سنه اشتد حرصه فتعلق قلبه بها أكثر، فإن الإنسان يهرم ويشب معه حب المال والحرص.
الفائدة الأولى: الصدقة بركة وزيادة في الدنيا والآخرة
ثم قال عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] وهذا عكس ما هو مشاهد الآن في الميزان الاقتصادي المادي، أن الربا زيادة والصدقة نقص، لكن عند الله الربا نقص والصدقة زيادة، كيف؟ يقول العلماء: إذا كان عندك -مثلاً- أربعمائة ريال في جيبك، وعرض عليك مشروع خيري، أو رأيت فقيراً، أو علمت بأسرة محتاجة، وأخرجت من هذا المبلغ خمسين ريالاً أو مائة ريال، لما تأتي تعد الباقي في الشنطة تجد أن الباقي ثلاثمائة ريال، الظاهر أنه نقص، لكن الله يقول: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] كيف يربيها؟ قالوا: أولاً: هذا المبلغ الذي أخذ منك يربيه الله في الآخرة حتى يصبح كالجبال الرواسي: (إن الله ليربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه) أنت تضعها ريالاً لكنها تأتي يوم القيامة مثل الجبال، هذه واحدة.
ثانياً: يصرف الله عن الإنسان من الآفات والمشاكل التي كان بالإمكان أن تلتهم هذه المائة وأضعافها الشيء الكثير -فمثلاً- يصرف الله عنه مرض زوجته بأسباب الصدقة، ويصرف الله عنه السقم من أولاده بأسباب الصدقة، ويصرف الله عنه الحوادث في سيارته بأسباب الصدقة، ويصرف الله عنه الفساد في زراعته وتكون مزارعه باستمرار محفوظة، ويصرف الله عنه الكساد في تجارته، وتكون تجارته مطلوبة، وبضاعته مرغوبة، وجلبه للزبائن محبوب، بأسباب أنه أنفق، لكن لو أنه ما أنفق في سبيل الله، وأعطى هذه المائة لشخص قرضاً بمائتين بعد ذلك، لكن الله يمحقه؛ أولاً: تمرض المرأة، وإذا مرضت تلك الليلة يذهب بها إلى المستشفى، وفي المستشفى لا يريدون علاجها؛ لأنهم يقولون: بلاش، فيذهبون المستوصف ويخسر خمسين ريالاً وأعطاه قبضة حبوب، وبعد ذلك يمرض الولد، وبعد ذلك يوقف السيارة وإذا هي مصدومة في جنبها لا يدري من صدمها، وبعد ذلك زراعته تخرب وبركة أمواله وبركة حياته في أكله حتى في طعامه لا يجد له بركة بأسباب الربا، فالله يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] يقول في الحديث: (ما نقص مال من صدقة بل تزيد، بل تزيد، بل تزيد) وفي بعض الآثار: [ما هلك مال في بر ولا بحر إلا بأسباب منع الزكاة].
أحد التجار يخبرني حكاية عن تاجر في مكة، يقول: كان له تجارة بينه وبين الهند، وبعد ذلك الباخرة آتية، وكانت البواخر يوم ذاك تسير (بطرب) بدائية عن طريق الشراع وليس بالبواخر الحديثة، وفي البحر اضطربت الباخرة وهاجت وتكسرت، وكادت أن تغرق، ولكن ربانها -أهل السفينة- خففوا من البضائع أملاً في نجاة أنفسهم، ولا يعلمون لمن البضائع طبعاً؛ لأنهم مؤتمنين عليها آتين بها من الهند، فقاموا يأخذون من الكراتين ويرمون البضاعة، حتى بقي شيء تنجو به السفينة، إلى أن وصلوا ميناء جدة، وفي ميناء جدة كان كل التجار واقفين وكل واحد منهم لديه كشفه يريد أن يستلم بضاعته، ووجدوا أن البضائع كلها مرمية إلا تاجر بضاعته ما ذهب منها ولا كرتون، لما جاءوا عليه وإذا به من أهل الزكاة ومن أهل الصلاة ومن أهل الخوف من الله، وأولئك بضاعتهم فيها حرام، وفيها منع زكاة، وفيها ربا، ذهبت [فلا هلك مال في بر ولا بحر إلا بأسباب منع الزكاة] .
فهنا يقول الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] أي: يزيدها؛ لأنه كما جاء في الحديث الصحيح: (ما من يوم تشرق فيه الشمس إلا وملك ينادي يقول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً) هذه دعوة الملك يدعو لك كل يوم: يا من أنفقت في سبيل الله! يا من أنفقت فيما يرضي الله! أن الله يخلف عليك، الفقير عندما تعطيه ريالاً، يقول: خلف الله عليك، بارك الله لك، جزاك الله كل خير، الله يوسع عليك، الله يمدك، الله يعطيك، سبحان الله! {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] تبارك وتعالى.
الفائدة الثانية: الصدقة من أسباب رفع البلايا
إن من أعظم ما يدفع الله تعالى به العذاب الصدقة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتقوا النار ولو بشق تمرة} وهي من أفضل الأعمال، فإنها تطفئ الخطايا، ويدفع الله تعالى بها البلايا، ولا شك أننا في بلد أنعم الله علينا فيه بنعم عظيمة، ولو تذكرنا حال الأمم والشعوب الأخرى لعجبنا، فنحن هنا لا نتضرع، وقليل من الناس من يتضرع إلى الله كل يوم أن يطعمه الله أو يسقيه، فنحن لا نسأل الله ذلك؛ لأن الطعام والشراب والأكل متوفر عندنا، وقد يوهمنا الشيطان أننا لا نحتاج إلى الله -تعالى الله عن ذلك- فلوفرته فهو مثل الهواء مع أنه حتى الهواء نحتاج أن ندعو الله أن يحفظه لنا، وفي كل شيء نحتاج أن ندعو الله.
فأقول: يجب مضاعفة النقود في التصدق لمنفعتها، بل لمنافعها العظمى التي منها أن يدفع الله تبارك وتعالى عنا العذاب ويرفعه.
الفائدة الرابعة: الصدقة برهان الإيمان
والصدقة دليل على صدق إيمان صاحبها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، في حديث أبي مالك الأشعري، في صحيح مسلم: {والصدقة برهان} لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تخلص الإنسان من الشح وحب المال وأخرج المال، دل على أنه يقدم مرضات الله تعالى ومحبوب الله تعالى على محبوب نفسه، ويتخلص من شح نفسه قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] والأحاديث الواردة في الصدقة كثيرة جداً؛ لكن ينبغي أن يحرص الإنسان على أن يستتر بصدقته.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الطبراني بسند حسن -كما يقول الدمياطي في المتجر الرابح- عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر} فليحرص الإنسان على الاستكثار من هذه الأشياء، وعلى أن تكون صدقته سراً.
ومن الخطأ أن يتصدق الإنسان بمائة ألف ريال أو بخمسمائة ألف ريال من أجل أن يكتب اسمه في الجريدة، أو يكتب اسمه في دفتر التبرعات، أو يذكر عنه أنه المحسن الفلاني، اللهم إلا أن يكون قصده أن يكون في ذلك حثاً وتشجيعاً للناس على الصدقة، وإثارة المنافسة بينهم في العمل الصالح فهذا جيد، أما إن كان القصد الرياء والقيل والقال؛ فهذا -والعياذ بالله! - خسارة الصحابة في الدنيا ووبال عليه في الآخرة.
الفائدة الخامسة: الإنفاق زيادة لا نقصان
يكفي أن تعلم أن هذا الإنفاق الذي ينفقه الإنسان لا ينقص من ماله بل تزيده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه} فأثبت عليه الصلاة والسلام أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وهذه الصدقة التي لا تنقص مالك هي تزيد في أعمالك وقربك من الله عز وجل.
الفائدة السادسة: الصدقة من أعظم أسباب دخول الجنة
وهي من أعظم أسباب دخول الجنة، واسمع بعض هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو كبشة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقصت صدقة من مال، ولا فتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله تعالى عليه باب فقر، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه -ثم قال-: وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعه نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو ينفق ماله في علمه، ويتصدق، ويصل رحمه، وينفق في سبيل الله؛ فهو أفضلهم، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل.
فهما في الأجر سواء.
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمه فهو يخبط فيه ولا يتقي الله عز وجل، ولا يصل به رحمه ولا يعطي منه المسكين، فهو أخبثهم منزلةً.
ورجل لم يؤته الله تعالى مالاً ولا علماً، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل.
فهما في الوزر سواء} .
والحديث رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذلك يدل على أن نية المؤمن الصادقة على الإنفاق في سبيل الله وغير ذلك من أبواب الخير، أنها تبلغه منازل العاملين، متى كانت نيةً صادقة من أعماق قلبه، وليست مجرد أمنية، ففرق بين النية والأمنية، لأن بعض الناس يقول: لو عندي، لكن لو أعطاه الله عز وجل لكفر: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:75-77] ففرق بين الأمنية وبين النية الصادقة المبيتة الجازمة، أنه لو أعطاك الله مالاً لفعلت مثل فلان، أو لو رزقك الله علماً لفعلت به مثل فلان.
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة: {أن رجلاً من بني إسرائيل سمع صوتاً في السحاب يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان.
فلما توسطت السحاب المزرعة أمطرت ما فيها، فذهب الرجل فإذا فلاح يحول الماء بمسحاته، فاستوعبت الشريجة ذلك الماء كله، فقال له الرجل: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: اسمي فلان -بالاسم الذي سمعه في السحابة- فقال: وماذا تصنع؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت صوتاً في السماء يقول: أسق حديقة فلان أسق حديقة فلان، فلما توسطت السحاب مزرعتك أمطرت.
فقال: أما إن قلت ذاك، فإنني إذا أخذت ثمرة هذه الحديقة تصدقت بثلثها، وجعلت ثلثها فيها، -أي رده في بذرها وإصلاحها- وأكلت أنا وأولادي ثلثها} .
فمن أجل ذلك وسع الله على هذا الرجل، وبارك له في رزقه وفيما أعطاه، حتى إن ملكاً موكلاً بالسحاب، يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان، يخصه دون غيره من الناس، ولذلك لا تعجب إذا رأيت الناس الذين أصيبوا بالكوارث والمصائب والنكبات، إنما أتوا من قبل أنفسهم.
يقول لي أحد الإخوة القضاة: إنه جاءه رجل يشتكي إليه أن صاعقةً نزلت على غنمه فأتلفت منها مئاتاً -أكثر من سبعمائة رأس- فهو يأتي للمحكمة حتى تسجل له ويعوض عنها، يقول: فقلت له ذات مرة: ما سبب هذه المصيبة التي نزلت بك؟ لعلك لا تخرج الزكاة؛ قال: فرأيت الرجل تأثر ثم خرج من عندي ولم يعد بعد ذلك، وكأن هذه الكلمة وقعت من الرجل موقعاً، وعرف أن ما أصابه بسبب ذنوبه، فلم يرد أن يأخذ تعويضاً أو مقابلاً لذلك، ولعله تاب إلى الله عز وجل، ولذلك ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على أن نتقي النار بالزكاة والصدقات والنفقات.
وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} وفي الحديث الآخر المتفق عليه -أيضاً-: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى النساء وعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار} فبين عليه الصلاة والسلام أن
الفائدة السابعة: النفقة سبب في دعاء الصالحين لك
الفائدة الثامنة: النفقة طهارة للنفس
الثانية عشرة: النفقة مضاعفة في أجرها وثوابها، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] .
الفائدة التاسعة: عدم الإنفاق مهلكة
الثالثة عشرة: ترك الإنفاق مهلكة في الدنيا والآخرة، فأنفقوا في سبيل الله، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] .

الفائدة العاشرة: الإنفاق سبب لرحمة الله
الخامسة عشرة: هي طهارة للنفس وزكاء لها، كما قال سبحانه وتعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] يعني: النار، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] .
الفائدة الحادية عشرة: هي سبب لرحمة الله عز وجل للمتصدقين والمنفقين
قال جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] .

قال تعالى{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا} [الحديد:10] لقد جاءت الزكاة بمعناها الشرعي الخاص في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن الكريم، وحث الله تعالى على الصدقة والإنفاق، وتنوعت في ذلك الطرائق، وأهم تلك الطرق التي رصدتها في القرآن والسنة في الحث على الإنفاق تقرب من عشرين طريقة، أسردها على عجالة كما يلي:

الحادية عشرة: الإنفاق علامة من علامات التقوى، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:2-3] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:133-134] .
الثواب من الله على المتصدقين
ثالثاً: الأجر والثواب في الآخرة للمنفقين والمتصدقين المخلصين، فهي تجارة مضمونة، ولكن ليس فيها شائبة ربا، أو شبهة حرام: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] .
الصدقة دليل على البراءة من النفاق
رابعاً: الصدقة دليل على البراءة من النفاق، وبرهان على الإيمان وصدق اليقين في القلب، قال الله تعالى عن المنافقين: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} [النساء:39] .
وقال عن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] .
فهذا هو الحصار الاقتصادي الذي تواصى به المنافقون بالأمس في الضغط على المؤمنين، ومحاولة التضييق عليهم، وحرمانهم من الوظائف والأعمال والأموال والمرتبات، والتضييق عليهم في أرزاقهم وأموالهم حتى ينفضوا.
أنواع الصدقات
يظن بعض الناس أن الصدقة هي الصدقة المالية فقط، ولكن الحقيقة أن الصدقة أنواع كثيرة جداً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الصحابة لما جاءوه: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون من فضول أموالهم.
قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن لكم بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة.
قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
وقد وردت نصوص كثيرة في أنواع الصدقات.
فمما اختصرته لكم من هذه الروايات من أنواع الصدقات: الكلمة الطيبة، عون الرجل أخاه على الشيء، الشربة من الماء يسقيها، إماطة الأذى عن الطريق، الإنفاق على الأهل وهو يحتسبها، كل قرض صدقة، القرض يجري مجرى شطر الصدقة، المنفق على الخيل في سبيل الله، ما أطعم زوجته، ما أطعم ولده، تسليمه على من لقيه، التهليلة، التكبيرة، التحميدة، التسبيحة، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إتيان شهوته بالحلال، التبسم في وجه أخيه المسلم، إرشاد الرجل في أرض الضلال؛ إذا تاه رجل وضل الطريق، ما أطعم خادمه، ما أطعم نفسه، إفراغه من دلوه في دلو أخيه، الضيافة فوق ثلاثة أيام، إعانة ذي الحاجة الملهوف، الإمساك عن الشر، قول: أستغفر الله، هداية الأعمى، إسماع الأصم والأبكم حتى يفقه، أن تصب من دلوك في إناء جارك، ما أعطيته امرأتك، الزرع الذي يأكل منه الطير أو الإنسان أو الدابة، ما سرق منه فهو صدقة، وما أكله السبع فهو صدقة، إنظار المعسر بكل يومٍ له صدقة، تدل المستدل على حاجةٍ قد علمت مكانه، تسعى بشدة ساقيه إلى اللهفان المستغيث، ترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ما صنعت إلى أهلك، النخاعة في المسجد تدفنها، تعدل بين اثنين، تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه، كل خطوة تخطوها إلى الصلاة، التصدق على المصلي لكي تكون جماعة من يتصدق على هذا، إذا منحت منحة أعطيته إياها غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوطها؛ ما يحلم في الصباح وما يحلم في المساء؛ هذه بعض أنواع الصدقة.

صدقة المرأة المسلمة في رمضان
كذلك فإن من أوجه العبودية في رمضان: الصدقة، فإذا كان رسولك صلى الله عليه وسلم قد قال: (يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فإذا كان الأمر بالصدقة عاماً، فالأمر به أو فعله في رمضان آكد وأقوم وأكثر أجراً، ولا شك في مضاعفة الأجر في مواسم الطاعة العظيمة كشهر رمضان، فإن الحسنة تتضاعف في المكان الفاضل، والزمان الفاضل.
بعض مصارف ومجالات الصدقة

إعانة من أراد الزواج
رابعاً: من طرق الإنفاق، الشباب الراغبون في الزواج، فإنهم يحتاجون إلى إعفاف فروجهم، وغض أبصارهم، وبناء الأسرة السليمة التي تعبد الله تعالى وتوحده، وحبذا أن يكون ذلك بالقرض الحسن لتربيتهم على الاستغناء عن الناس، وعلى البحث عن الرزق الحلال، وعلى الاعتماد على الله عز وجل، ثم على أنفسهم، وفي ذلك فائدة تربوية عظيمة.
آداب الإنفاق

أولاً: لا منٌّ ولا أذى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:264-263] .
ثانياً: لا رياء ولا سمعة إن أظهرت الصدقة، وإنما تظهرها للقدوة الحسنة والسنة الحسنة، وإن أخفيتها، فالأصل هو الإخفاء، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
ثالثاً: أن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] .
رابعاً: لا تتصدق إلا بالطيب: {فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] .
خامساً: لا تعد ما أخرجته -من الزكاة، أو الصدقة- مغرماً، بل هو مغنمٌ لك، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً} [التوبة:98] قال ابن قتيبة: أي غُرماً وخسارة، وقال غيره: يعدونه من التزام ما ليس بلازم، يقول: لماذا أتعب في جمع المال، ثم أخرجه في غير مصلحة دنيوية مشاهدة؟ فهو لا يرجو لذلك ثواباً، ولا جزاءً عند الله تعالى.
سادساً: أن يخرج المال طيبةً به نفسه، ليس كارهاً له، ولهذا وصف الله تعالى المنافقين، فقال: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] وأثنى على المؤمنين أنهم إن وجدوا مالاً تصدقوا، وإن لم يجدوا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
سابعاً: أن تتصدق في وقت صحتك وعافيتك وشبابك وحاجتك وخوفك من الفقر، كما قال عليه الصلاة والسلام: {أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وترجو الغنى} وهذا المعنى موجود في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10

عقوبات ترك الإنفاق

إنها عقوبات كثيرة أهمها اثنتان: الأولى: الاستبدال، فإذا قصرتم، فعند الله تعالى خير منكم قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38] .
الثانية: يعاقب الله تعالى على ذلك، بهذا المال في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34-35] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في حديث طويل: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحب الذهب والفضة الذي لا يُؤَّدي منها حقها، إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الخلائق، فيرى سبيله إما إلى جنة، وإما إلى نار} ومثله -أيضاً- صاحب الإبل والبقر والغنم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء جميعاً.
إذاً مالُك إن ادخرته ومنعت زكاته، ومنعت الصدقة، فإنك تعاقب به كما قال الله تعالى عن الكفار: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] فيعذب الإنسان بماله، يعذب بالخوف على المال، ويعذب بالانكسار الاقتصادي، ويعذب بالصفقات التي تذهب سُداً، يعذب بالخوف على المال، يعذب بالقلق والتوتر، وقلَّ أن تجد إنساناً غنياً ثرياً لا يخاف الله، ولا يُؤدي حق المال فإنك لو نظرت إليه لوجدت معه ألواناً وألواناً من العلاجات، يأخذ هذا في الصباح، وهذا في الظهر، وهذا لينام، وهذا ليستيقظ، وهذا من أجل أن يواصل العمل، فأي خير في مال لم ينفع صاحبه إلا بمثل ذلك.

حجج ضعيفة لعدم الإنفاق


1- دعوى عدم وصول الأموال إلى مستحقيها
وبعض الإخوة يتعذرون ويقولون: إن هذه الأموال قد لا تصل إلى مستحقيها.
وأقول: عندي لك جوابان سريعان: فأما أولهم: فعلى لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل خرج بصدقته ليلة فوضعها في يد إنسان، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية! لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية وعلى سارق! لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية وعلى سارق وعلى غني! فقيل له: إنه في الصدقة المتقبلة، أما الغني، فلعله أن يعتبر فينفق، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما السارق فلعله أن يستغني فيستعف عن سرقته} .
وأمرٌ آخر: أن هناك طرقاً موثوقة تستطيع أن تطمئن بها إلى وصول المال إلى مستحقيه.
2- عدم الإنفاق خوفاً من المسئولية
الحجة الثالثة: البعض يحجمون عن الإنفاق خوفاً من المسئولية، ومن أن يحاسبوا من بعض الجهات، ومن بعض الدوائر: لماذا دعمت هؤلاء؟ ولماذا دعمت هؤلاء؟ ولماذا أنفقت هنا؟ ولماذا أنفقت هنا؟ وأقول: هناك أيضاً جوابان: أولها: قال الله جل وعز: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فيجب أن تخاف الله تعالى أن يحاسبك لماذا لم تدعم أولئك المحتاجين؟ ولماذا لم تساعد عبادي المجاهدين؟ ولماذا لم تتبرع لمشاريع الخير والدعوة؟ فيجب أن تخاف حساب الله قبل أن تخاف حساب المخلوقين.
ثانياً: هناك طرقٌ مأمونة بحيث تستطيع أن توصل المال إلى وسيط تطمئن إليه وتثق به، دون أن يكون هناك أي وثيقة أو مستند رسمي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل، قال: لأتصدقن الليلة بصدقة -عاهد الله أن يتصدق بصدقة يخلص فيها- فجمع تلك الصدقة من ماله، والناس نيام فخرج بها، فوضعها في يد بغي، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي! فقال: لك الحمد، على بغي.
ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته والناس نيام فخرج بها فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني! فقال: لك الحمد، على غني.
ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته، فجعلها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: لك الحمد على سارق، فأتاه ملك في النوم
فقال: إن الله تقبل صدقتك؛ فالبغي ما حملها على البغاء والزنا إلا الجوع، فقد أغنيتها عن ذلك، والغني: لم يكن يستشعر أن عليه حقاً، فلما تصدقت عليه عرف أنه ينبغي أن يتصدق، والسارق ما حمله على السرقة إلا الجوع، فقد أغنيته عن ذلك) ، فتقبل الله سبحانه وتعالى منه هذا العمل الذي ظاهره أنه وقع في غير محله، ولكن صاحبه كان مخلصاً لله، فأثابه الله على ذلك.
والإنفاق إذا وقع في محله كانت له فوائد عظيمة على المجتمع كافة، تخيل -يا أخي- عندما تأخذ المال الذي اكتسبته من حلال، وأخفيته عن نفسك، وعن حوائجك، وآثرت به الآخرة على الأولى، وجعلته في كمك، وخرجت به تلتمس الفقراء والمحرومين، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، فوجدت أسرة لا ترى فيها مواقد النار، وليس بها غنى، أهلها متعففون لا يتكففون الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الفقير الذي يتردد على الأبواب، وترده اللقمة واللقمتان، والطعمة والطعمتان، إنما الفقير المتعفف) ، فالفقير المتعفف إذا وصله خيرك -وهو في داره- كتب الله لك أجر ذلك، ووجدته أمامك يوم القيامة.
4- وساوس الشيطان لسد باب الإنفاق
إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ أن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا الفقر، كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] ، وهذا عكس ما أمر الله به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] ، فإذا علم الإنسان عداوة الشيطان له، حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فالصدقة من الأمور التي يفوّت بها الإنسان على الشيطان كيده، فالشيطان يحاول منع الإنسان من التصدق من ماله، ولو بالتأخير؛ ومن حيلة الشيطان على بعض الصالحين أنه يقول: لا تخرج هذا المال على غير أولادك؛ فهم بحاجة إليه.
فينازعه، ويقول: لا بد أن نقدم شيئاً للآخرة.

أحكام في الصدقة

وكذلك من الأشياء المتعلقة بالصدقة: أن الصدقة ليست دائماً أفضل إذا كانت كثيرة؛ بل قد يتصدق إنسان بدرهم ويتصدق إنسان آخر بمائة ألف ويكون الذي تصدق بالدرهم أجره أكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهمٌ مائة ألف درهم) ثم فسرها عليه الصلاة والسلام، فقال: (رجل له درهمان -ما عنده إلا هذين الدرهمين- أخذ أحدهما فتصدق به -أي: تصدق بنصف ماله- ورجل له مال كثير -عنده ملايين- فأخذ من عرض هذا المال مائة ألف فتصدق به) .
الأول تصدق بنصف ماله، هذا يمكن تصدق واحد على مائة أو واحد على ألف من أمواله، إذاً: صحيح الثاني أكثر بالعدد لكن الأول أكثر بالأجر؛ ذلك لأنه تصدق بنصف ماله مع حاجته إليه.
الأولويات في الصدقة
جاء في حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المداواة بالصدقات مشروعة) فربما تكون الصدقة سبب للشفاء.
كذلك لو أن الإنسان قال لصاحبه: تعال أقامرك، نلعب قمار؛ هذه من عادات الجاهلية، فيشرع له أن يتصدق ويكفر عن هذه الكلمة، كما جاء في حديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو حلف رجل، فقال: ما أنام بحياتي، برأس أولادي، بشرفي، حلف بأي شيء، فعليه أن يقول: لا إله إلا الله (ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق) .
مداواة المرض بالصدقة
جاء في حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المداواة بالصدقات مشروعة) فربما تكون الصدقة سبب للشفاء.
كذلك لو أن الإنسان قال لصاحبه: تعال أقامرك، نلعب قمار؛ هذه من عادات الجاهلية، فيشرع له أن يتصدق ويكفر عن هذه الكلمة، كما جاء في حديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو حلف رجل، فقال: ما أنام بحياتي، برأس أولادي، بشرفي، حلف بأي شيء، فعليه أن يقول: لا إله إلا الله (ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق) .
مشروعية الصدقة عن الأموات

وقف الصدقة
من أعظم أنواع الصدقة: الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة؛ تجعل الأصل محبوساً لا يباع، لا يورث، ولا يوهب، ولا يشترى، وكل ما ينتج منه من ثمارٍ، أو مالٍ، أو عائدٍ، أو مردود يكون في سبيل الله.
هذا هو الوقف.
وقال البخاري رحمه الله: باب: أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (لا يباع ولكن ينفق ثمره، فتصدق به) وقد جاء أيضاً موصولاً عنده رحمه الله في صحيحه في كتاب الشروط، عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بـ خيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بـ خيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منها، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) .

حكم الرجوع في الصدقة
وكذلك من أحكام الصدقة أنه لا يحل لأحد أن يرجع فيها؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده) أي: أعطيت واحداً فرساً في سبيل الله، صدقة خرجت مني، هذا الذي أخذه ما رعاه حق رعايته، أهمله، فربما أصابه الهزال والضعف.
(فأردت أن أشتريه) أي: أشفق على الفرس، وقال: أشتريه من صاحبه، وأعود أغذيه، وأعتني به.
فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تشتره وإن أعطاكه بدرهمٍ واحد؛ فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في القيء) .
إذاً: الإنسان لا يجوز له أن يعود في الصدقة أبداً، لا يقول: يا فلان! حصل خطأ؛ أعطينا المال يا فلان! ندمنا، هات الصدقة التي أعطيناك إياها، لا يجوز أن يسترجعها ولو بالشراء، لكن لو أنك أهديت إنساناً، تصدقت على فقيرٍ بشاه حلوب، وهذا الفقير حلب لك وأهدى لك منها إناءً من لبن، فيجوز لك أن تشربه؛ لأنها قد جاءتك الآن هدية فلا بأس بأخذها، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل الصدقة، ولا يجوز له ذلك، فلما تصدق على بريرة صدقة، أهدت بريرة منها لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية) إذاً: يجوز عند ذلك الأكل منها.
حكم التصدق بالصدقة أو الهدية
ومن الأحكام كذلك: أن الإنسان إذا تُصدِقَ عليه بصدقة؛ فيجوز له أن يتصدق منها؛ لو أعطاك رجل هبة أو هدية أو صدقة يجوز لك أن تتصدق وتخرج زكاتك منها، وكذا زكاة فطرك، ولكن أن تحج منها حجة الفريضة وكذلك لو أردت والعمرة؛ لأنك عندما قبضتها؛ صارت ملكاً لك.
إذاً يجوز لك أن تتصرف فيها ولو أخرجت منها شيئاً واجباً، كذلك يجوز لك أن تعطي منها كفارة يمين، قال البخاري رحمه الله في كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله! هلكت -وفي رواية: احترقت- قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا.
فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا.
فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق: المكتل، مثل الزنبيل- قال: أين السائل؟ قال: أنا.
قال: خذها فتصدق به -أخرج كفارتك من هذه الصدقة- فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله! فوالله ما بين لابتيها -أي: حرتي المدينة الشرقية والغربية- أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك) فهذا مسكين أتى وهو يحترق، وإذا به يرجع بطعامٍ إلى بيته؛ وهذا من يسر الدين وسهولته، أما اللعب بالدين والأحكام والتساهل في الشريعة وتمييع الأشياء، فهذا ليس بيسر، وإنما هذا تضييع وتحريف.
ومن الأحكام كذلك: أنه إذا تصدق ووصلت الصدقة إلى ولده وهو لا يشعر فإن ذلك لا حرج فيه وهو مأجور، كما جاء عند البخاري، أن معن بن يزيد قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي كلنا أسلمنا وخطب عليَّ فأنكحني، وكان أبي يزيد قد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد -وكله يتصدق- فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت -أنا ما أردت صدقة عليك، أنت ولدي- فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لك ما نويت يا يزيد من الصدقة، ولك ما أخذت يا معن) أي: ليست من مقصودك.

حكم الصدقة بالمال كله
قال كعب: قلت: يا رسول الله! إن من توبة الله عليَّ أن أنسلخ من مالي في سبيل الله.
يقول: مادام أن الله تاب عليَّ، فمالي كله في سبيل الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: {ابق عليك بعض مالك فهو خير لك} وفيه دليل على أن المسلم لا يذهب ماله كله، بل يستبقي لورثته ولنفسه مالاً؛ لئلا يتكففوا الناس، وقد قال هذا صلى الله عليه وسلم لأكثر من واحد.
زار سعد بن أبي وقاص فارس الإسلام، مدمر إمبراطورية كسرى التي داسها تحت قدميه، حتى كان عليه الصلاة والسلام يقول: {هذا خالي فليرني كل خاله} أي: هل عندكم أخوال مثل سعد بن أبي وقاص، الأسد في براثنه؟ زاره صلى الله عليه وسلم، وسعد مريض قال: فما أحسست إلا برد أنامله صلى الله عليه وسلم على صدري فاستفقت، حتى يقول سعد بعد ثلاثين سنة: والله الذي لا إله إلا هو، إني لأجد برد أصابع النبي صلى الله عليه وسلم على كتفي من ذلك العهد.
قال سعد: يا رسول الله! إن عندي مالاً ولا يرثني إلا كلالة، وذكر من نفسه ومن حاله، قال: أريد إنفاق مالي كله، قال: لا.
قلت: يا رسول الله! فالنصف، قال: لا.
قال: يا رسول الله! الثلث، قال صلى الله عليه وسلم: {الثلث والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء؛ خير من أن تجعلهم عالة يتكففون الناس} .
قال ابن عباس: [[وددت أن الناس غضوا في الوصية من الثلث إلى الربع]] ليبقى للورثة شيء، وليس في الإسلام حرج أن تبني بيتاً لورثتك، وأن تعمر عمارة لذريتك؛ فتموت فيدعون لك بالخير، وأنك ألجأتهم إلى بيت، ووسعت عليهم مما وسع الله عليك، أما من يذهب ماله ثم يموت، فإذا أطفاله وراءه عالة يتكففون الناس، هذا ليس من الإسلام! قال صلى الله عليه وسلم: {أبقِ عليك بعض مالك فهو خير لك} فأبقى له سهماً من خيبر.
قال الإمام أحمد: ما وجدت كالصدق، الصدق لو وضع في جرح لبرأ، وقيل له لما دخل السجن: بم نجاك الله؟ أي: في فتنة خلق القرآن، محنة القول بخلق القرآن، التي كاد يذهب فيها أرواح الأمة، بل قتلوا فيها علماء كبار، مثل ابن نصر الذي دخل على أحد الأمراء فقال له: ألا تقول بخلق القرآن؟ قال: لا.
قال: والله إما أن تقول بخلق القرآن أو لأقتلنك قال: والله ما نفسي عندي تساوي مثل هذه، ثم قطع زراً من جبته فرماه على الأمير، فقتله الأمير.
ودخل الإمام أحمد متحري السيف، وحاولوا بكل وسيلة في الدنيا قدموها، المناصب الإغراءات كلها وهو يرفض، يقول: ائتوني بشيء من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأخير نجاه الله.
قيل له: بم نجاك الله؟ قال: بالصدق؛ لأنه صدق مع الله عز وجل قال الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد:21] فلما صدق نجاه الله.
قال كعب: وإني أسأل الله أن يثبتني فيما بقي، فو الله لا أعلم أني كذبت منذ أن تاب الله عليَّ.

من قصص وأخبار المنفقين والمتصدقين

إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان الأعرابي إذا جاء أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرجع إلى قومه فيرفع عقيرته فيقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
ولذلك حين ألجأه الأعراب يوم أوطاس إلى شجرة فأمسكت رداءه قال: (ردوا عليّ ردائي، فلو كان عندي مثل شجر تهامة نعماً؛ لقسمته بينكم، ثم لن تجدوني جباناً، ولا بخيلاً، ولا كذاباً) وقال للأنصار حين أتوه وتوافدوا عليه في صلاة الفجر: (لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم من البحرين بمال، فما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في منصرفه من تبوك: (إنه ليس لي من هذا المال إلا الخمس، وهو مردود عليكم) .
كان صلى الله عليه وسلم من أجود الناس وأسخاهم؛ ولذلك قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، ما سئل شيئاً قط فقال: لا) إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول.
وهذا الأدب أدبه الله به في قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:26-29] ، هذا تأديب الله له، وقد تأدب به صلى الله عليه وسلم، كما قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) .
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) .
إنفاق عائشة رضي الله عنها
كان الإنفاق من هدي الصحابة، وقد تعلموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فهذه عائشة رضي الله عنها تعلمت من إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ذبح في بيتي شاة ذات يوم، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بقي عندكم من الشاة؟ قلت: كتفها، فقال: بقيت كلها إلا كتفها) ؛ لأنها كلها أنفقت في سبيل الله، تقول مولاة عائشة رضي الله عنها: جاء إلى عائشة عطاء وهي صائمة في شدة الحر، وكان العطاء عشرة آلاف درهم، فوزعته في مجلسها، فلم تمسك منه أي شيء، فلما انتهى قلت: رحمك الله! لو أمسكت لنا ما نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت! لم تتذكر أنها بحاجة إلى ما تفطر عليه فقط!!

كان عمر رضي الله عنه ينفق كثيراً وقد سابق أبا بكر فأنفق نصف ماله، فأتى به؛ فإذا أبو بكر قد جاء بماله كله!! وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الإنفاق في تجهيز جيش العسرة، فجاء بتسعمائة بعير برواحلها، ومراكبها، ونفقاتها، وسلاحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ؛ فقد حل عليه رضوان الله الأكبر، الذي لا سخط بعده.
وكانت بئر رومة تستعذب في المدينة أي: ماؤها عذب، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة -وكانت ليتيمين-، فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين وله الجنة؟ فقال: عثمان: أنا لها.
فاشتراها، فلما ساوم أصحابها فيها، أغلوا عليه بالثمن فأعطاهم ضعف ذلك، وجعلها في سبيل الله، وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين) .
إنفاق علي رضي الله عنه
كان علي رضي الله عنه ينفق ولا يبقي لنفسه درهماً ولا ديناراً، وكان يقول: (مالي وللدنيا، إنني لست من أهلها، مالي وللدنيا؛ إنني لست من أهلها) .

وعندما غنم المسلمون كنوز كسرى وقيصر، جيء ببنات كسرى إلى عمر بن الخطاب، فتردد عمر في شأنهن: هل يعتقهن، أو يستعبدهن ليكون ذلك نكاية في الفرس، أو ماذا يعمل بهن؟ فجمع أهل الشورى من المهاجرين والأنصار، فقال له عبد الرحمن بن عوف: بعهن، واجعل ثمنهن في تجهيز الجيوش؛ فإننا بحاجة إلى ذلك.
فعرضهن عمر للبيع، فاشتراهن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكل ماله، ووزعهن بين أولاد الصحابة، فأعطى إحداهن الحسين بن علي فكانت أم علي بن الحسين، وأعطى الأخرى لـ عبد الله بن عمر، فكانت أم سالم بن عبد الله، وأعطى أخرى لرجل آخر أظنه عبد الله بن الزبير بن العوام، فكانت أم بعض أولاده.
هكذا كان علي رضي الله عنه، فقد كان الذين يعرفونه يقولون: (والله! لهو أجود مما هو أشجع، ولكن شجاعته أذكر في الناس) أي: أشهر في الناس، فهو أجود مما هو أشجع.
إنفاق عبد الرحمن بن عوف
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان تاجراً يضرب في الأرض، أتته عير في (عام المجاعة) تحمل أنواع الأرزاق والبضائع، فأتاه تجار المدينة يساومونه بالعير، فقالوا: نجعل لك على الدينار ديناراً، وعلى الدرهم درهماً، فقال: أعطيت أكثر من ذلك.
فقالوا: نجعل لك على الدرهم درهمين، وعلى الدينار دينارين، فقال: أعطيت أكثر من ذلك.
فقالوا: نحن تجار المدينة وليس فيها من سوانا، فمن أعطاك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي أعطاني عشرة أضعاف ما قلتم، فأنفقها بأحلاسها، وأقتابها، وما كانت تحمله في سبيل الله.
إنفاق السلف
جاء بعد الصحابة من اتبعوا آثارهم، وهم كثير في هذه الأمة في كل العصور، فهم الذين يتولون الإنفاق على المحتاجين، فكم من نساء هذه الأمة تقتدي بـ زينب بنت جحش التي كانت تكنى بـ أم المساكين!! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) ، وكانت أطولهن يداً في الإنفاق، ولم تكن أطولهن يداً في الواقع، فكانت أول من التحق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه.
وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما ينفق على مائة بيت من فقراء المدينة، وكانوا لا يعلمون أنه الذي ينفق عليهم، كان يأتي في آخر الليل، وقد نام أهله، فيحمل الدنانير والدراهم، ويتسور تلك البيوت؛ فيجعلها فيها، فيصبح أهلها والدنانير عند رءوسهم، ولا يدرون من أين أتت!! وكان الحسن بن علي رضي الله عنه مطلاقاً، وكان ينفق على مائة مطلقة: فيتولى كل مصاريفها، وكل ما تحتاج إليه من نفقة وسكنى.
وهكذا كان عدد كبير منهم وليسوا معدودين في الأغنياء، لكنهم معدودون في الكرماء، كان عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ينفق على فقراء المدينة وفقراء مكة، ثم ازداد ماله فأنفق على فقراء الحجيج، ثم أنفق على فقراء أهل الشام، وكان يقول: لو بقي لي عمر لازداد مالي؛ فأنفقت على غيرهم من الفقراء؛ لأنه يعلم أن القضية فقط هي قضية العمر، فهذا المال الذي تعتني به هو إنفاق من الله عليك، فإذا كنت أميناً في توزيعه استمر الإنفاق عليك، فما هو إلا بمثابة الحنفية إذا فتحت استمر الماء، وإذا أغلقت توقف.