الخواجة بيقول
----------------
د. أحمد خالد توفيق
------------------------
في مقال ساخر للناقد السينمائي الراحل "سامي السلاموني" يتخيل مشهدًا سينمائيًا تجلس فيه البطلة في الكافتيريا فتفتح حقيبتها لتخرج عود قش تدسه بين شفتيها. لا تعرف معنى هذه الحركة ولا جدواها، لكنها رأت هذا المشهد في فيلم إيطالي يدور في إسطبل خيول، وراق لها جدًا!
هذا هو موضوع مقالي باختصار شديد: نحن لا نعمل شيئًا من دماغنا أبدًا، وإنما نفعل ما يفعله الخواجة طيلة الوقت..
لم أكن قد رأيت فيلم (الرقصة الخاطفة Flash dance) -الذي كان ظاهرة في الثمانينيات- إلا مؤخرًا، لهذا انبهرت جدًا بكليب لمطربة لبنانية ترتدي ثياب الإيروبيك وتلفّ الشريط اللاصق حول قدميها، ثم ترقص أمام لجنة تحكيم صارمة غير مبالية، حتى تنجح في النهاية في انتزاع التصفيق منهم. عندما رأيت الفيلم أدركت أن المشهد مأخوذ بالمسطرة منه، حتى أن اللبنانية جعلت شكلها كشكل "جيسيكا بيل" بطلة الفيلم الأمريكي، وإن كان النقل قد تم ببراعة لا شك فيها. عامة تميل الكليبات الغنائية أكثر من سواها إلى انتظار ما يصنعه الخواجة، تحلِّق "كاري آن موس" في الهواء وتثبت حركتها بينما تدور الكاميرا بسرعة من حولها في فيلم (ماتريكس)، عندئذ يحلّق "هشام عباس" في الهواء في أغنية (ناري نارين)، ولفترة طويلة بدا أن كل المطربين العرب يحلِّقون في الهواء... إن هذا شيء مقدس وعدم تقديمه يعرضك للاتهام بالكفر لا سمح الله..
عندما تراقب الكليبات العربية تجد خليطًا فريدًا من قتلة المافيا في فترة تحريم الخمور ببذلاتهم وقبعاتهم وأحذيتهم البيضاء، والكلاشنكوف في صندوق الكمان.. وهناك جمنزيوم.. وهناك سباقات مجنونة بالسيارات.. هناك كلاب ماستيف وإرهابيون وحراسات خاصة.. هناك الغوريلات السوداء التي تلبس الفانلات الداخلية وقد رسمت الوشم على كل جزء من جسدها مقلدة مطربي الراب الأمريكيين.. قارن هذا بتجارب "حسين كمال" في تصوير الأغنية مع "نجاة الصغيرة"، ولسوف تفهم معنى الأصالة والخصوصية..
هناك فرقة شبابية -ليست (وسط البلد) قطعًا- لم أجد لدى أفرادها موهبة غنائية واضحة، فألحانهم مملة وأصواتهم ضعيفة، لكن لديهم موهبة مهمة هي أنهم درسوا جيدًا جدًا أوضاع المطربين الغربيين و(بوزاتهم) الاحترافية.. إنهم يعرفون جيدًا كيف ينظرون للكاميرا، ثم يأتي مخرج درس جيدًا الإضاءة والمونتاج في الكليبات الغربية وعرف كيف يقلدها بدقة..
كنت أراقب "عمرو دياب" أثناء افتتاح إحدى الدورات الرياضية عندنا، تلك التي غنى فيها (بالحب اتجمعنا).. رأيته يجري وهو يحمل الميكروفون والكاميرا تلاحقه، ثم فوجئت بأن هناك مصورًا يركض وراءه لاهثًا وقد صوب الكاميرا عليه من زاوية منخفضة.. "عمرو دياب" يقلد بالضبط "ليونيل ريتشي" في ختام أولمبياد (لوس أنجيليس) عندما غنى أغنية (الليل بطوله) وأحال الاستاد إلى شعلة من الحماس. هذا من حقه، لكن لماذا يجب أن يقلد المصور المصري حركات المصور الأمريكي بحذافيرها؟.. الخواجة كان يجري وراء المطرب فلا بد أن نفعل مثله..
حتى تقليعة القبعات في المباريات الدولية التي تشهدها مصر.. قبعة العم سام العالية التي لا ينقصها سوى علم أمريكا، قد رسم عليها علم مصر ولبستها الحسناوات اللاتي لا يختلفن في شيء عن الجمهور الأمريكي.. لا أحد يريد (شيحة) ولا (سيد العضاض) كريه الرائحة الذي يرقص بالجلباب الأحمر ويهز كرشه العملاق.. هذا ليس زمنه لكنه زمن تقليد الخواجة…
فإذا انتقلنا إلى الأفلام نجد نفس اللقطة في مليون فيلم مصري: البطل يقفز قفزة جانبية واسعة ليطلق الرصاص بمسدسين نحونا وهو مستمر في السقوط بالسرعة البطيئة. كما رأيت مليون مرة فريقًا من الرجال الأشداء يتقدمون صفًا بالعرض نحو الكاميرا بذات السرعة البطيئة بينما انفجار مروع -بطيء هو الآخر- يدوي خلفهم. ولا واحد منهم يلتفت للخلف؛ لأنهم أشداء كما تعلم. هذه الأشياء فعلتها السينما الأمريكية وما زالت تفعلها، لكنها بالطبع فعلتها أولاً وفعلتها أفضل بحكم الإمكانيات.
الاستنساخ قوي جدًا في السينما، وهي ظاهرة قديمة على كل حال.. إن "هند رستم" ليست سوى تقليد محلي لـ"مارلين مونرو"، و"كمال الشناوي" ليس سوى "كلارك جيبل" مصري، و"إسماعيل يس" ليس سوى "جيري لويس" لا يكلف كثيرًا. تستمر الظاهرة حتى ترى "هاني رمزي" يضع ذات ماكياج وطريقة تمثيل "جيم كاري" في (غبي منه فيه) ويقلد "رون أتكنسون" حرفيًا في (أسد وأربع قطط). عندما يقدم الغربيون (الصرخة) و(أعرف ما فعلت الصيف الماضي) يظهر أكثر من سيناريو حول مراهقين في مكان معزول بينما سفاح مجنون يذبحهم واحدًا تلو الآخر..
تفتح التلفزيون في رمضان فتكتشف أن هناك عشرين ساعة يوميًا من تقليعة (السيت كوم)، وهي اختراع غربي بالكامل، لكنه صار مقدسًا.. سوف تلمح أكثر من مسلسل قريب من (الأصدقاء) وسواه، مع حرص الممثلين على أن يكونوا مضحكين مما يجعلهم يبالغون في مقاطع الكلام ويحركون كل عضلة في وجوههم ويغمزون ويقطبون، ثم يتدخل شريط الضحكات (المعادل السمعي للزغزغة) ليعلمك أين ينبغي أن تضحك بالضبط! كل هذا غريب علينا لكن الخواجة يفعل ذلك..
التقليعة الأخرى هي (الستاند أب كوميديان) وهو الكوميدي الذي يقف أمام الجمهور على المسرح ليقول أشياء مضحكة... لا.. ليس المونولوجيست هو ما أعنيه.. هذا بدوره فن غربي تمامًا يعتمد على تراث من ملاهي برودواي وعروض تلفزيونية تابعها الغربيون جيدًا مثل (حياة ليلة السبت)، مع جيش ممن يكتبون النكات لهذه العروض ومنهم "ميل بروكس" وفريقه اليهودي، ومنهم "وودي ألين"، ومنهم "دان أكرويد"... عرف العالم العربي هذا الفن مؤخرًا مع (محور الشر) الفريق الأمريكي ذي الأصول الشرقية الذي قدم عدة عروض في عدة دول عربية. عندما نقدم عندنا هذا الفن دون أن تكون لدى المشاهد خلفية، يبدو النجم محرجًا مرتبكًا لا يعرف من أين يبدأ وماذا يقول (حتى "أحمد بدير" غرق في العرق وهو يقدم فقرته)..
وماذا عن قنوات الطهي العديدة؟.. وماذا عن الدعاة الشباب المتأنقين -ومن جديد لا أقصد "عمرو خالد"- الذين يستنسخون صورة الداعية البروتستانتي النجم التلفزيوني في أمريكا؟.. الداعية الذي يملك قصرًا وطائرة ويختًا وقناة تلفزيونية؟..
حتى النشرات الإخبارية عندنا تقلد قناة الجزيرة بلا أصالة، بينما الجزيرة نفسها استنساخ لأسلوب بي بي سي ولكن ببراعة وإتقان..
هناك حادثة يحكيها لي هواة كرة القدم لكني لم أرها ولا أستبعد أن تكون تشنيعة، عن النجم الكروي المسلم الذي أحرز هدفًا منذ عدة أعوام، فرسم علامة الصليب على صدره!.. هو لا يعرف معناها إنما رأى "مارادونا" يفعل هذا في الملعب وقلّده تقليدًا أعمى! من حق كل إنسان أن يطلب البركة من رموز دينه، لكن عليه أن يعرف أولاً معنى ما يفعله..
نعم.. مشكلتنا هي أن الخواجة يفعل ذلك.. قد يكون هذا ضروريًا بالنسبة لتقنية جديدة أو مفهوم علمي جديد، لكن من الخطأ أن نطبق هذا على الفن كذلك.. أن نعيد صناعة فنونهم بالعربية.. إنني لأبتعد بنظري وأتساءل: من نحن حقًا؟.. فلا أعرف..
لقد لخّص "سامي السلاموني" العبقري كل شيء.. إن ما نقوم به اليوم ليس سوى مضغ عود من القش في الكافتيريا؛ لأننا رأينا الخواجة يفعل ذلك!..
المفضلات