الموضوع: خواطر مواطن "مطحون" في وحدة ترخيص "المرور"

كيف أبدأ هذه القصة التراجيدية المأساوية التي تتكرر كل يوم مع مواطن مصري في (وطنه) مصر.. مصر أم الدنيا.. مصر "اللي بنشرب من نيلها.. وواقفين في المرور بنغيلها" ، لقد عانيت من أجل تجديد رخصة السيارة!!.

أود أن أقص عليكم معاناتي لنستفيد من العبر والعظات الكثيرة التي بالقصة "كان يا مكان.. في سالف العصر والأوان.. أيام حكم ملك الجان.. يحكى أن رخصة سيارتي كان باقٍ عليها أسبوع وتنتهي، وأعلم أن أهل المرور الأفاضل يسمحون بشهر بعد الموعد، لكن مشكلتي أنني مواطن يحب الانضباط (راجل مظبوط يعني)، فأحببت أن أجدد الرخصة قبل انتهاء الموعد الأساسي، ثم عرفت السبب في مدّ هذا الشهر الإضافي، لأن الرخصة يا حضرات السادة المواطنين (اللي شايلين الطين.. وفي المرور واقفين) قد تأخذ رحلة تجديدها مدة أسبوعين أو ثلاثة، (وانت ونصيبك.. ودعا الوالدين بينفع في الحالة دي برضه).

كأي شخص يخوض تجربة جديدة، سألت أصدقائي عن تجديد الرخصة، وكنت متفائلا بأن الأمور ستسير بشكل عادي (وطلعت راجل طيب).. قد كنت أظن أننا في القرن الحادي والعشرين، وبالفعل وجدت شيئا من منجزات هذا القرن.. وجدت موقع بوابة الحكومة الإلكترونية.. (الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين).. ووجدت الإجراءات على النحو التالي: نموذج تجديد ، شهادة مخالفات ، شهادة تأمين إجباري.

قلت في نفسي : الحمد لله، الموضوع بسيط، فذهبت في يوم إجازتي من العمل في العاشرة صباحا، ظانا أن الأمر سينتهي في دقائق، ووقفت في طابور سحب نموذج التجديد المكون من 7 أفراد تقريبا، فأخذت موضعي وموقعي في الطابور، ولما حان دوري وقفت أمام الموظف المحتمي وراء شباكه وقلت: أريد أن أجدد رخصة السيارة، وليس لي فحص الآن، فرد بحزم وقال: هات 10 جنيهات، ثمن النموذج. فدفعت، وكأي مواطن يحب أن يقرا المكتوب على النموذج، فوجدت ثمن النموذج 6 جنيهات و40 قرشا. قلت في نفسي مرة أخرى : من الممكن أن تكون النماذج قد غلا سعرها كالسكر والإسمنت والحديد، (وهوّ احنا يعني هنشك في ذمة الحكومة).

ثم أخذت أبحث عن مكتب استعلامات أستفسر منه عما سيكون بعد ذلك.. فلم أجد أي شخص (مولد يا سيدي وصاحبه غايب.. ناس بتمتحن.. وناس عايزة تجدد رخص.. وناس هنا وناس هناك.. ومفيش أي شيء مفهوم).

وكالعادة فإن هذا الشعب الكريم الطيب يساعد بعضه بعضا، فسألتُ شخصا وحدد لي شباكا معينا لأذهب إليه. وفي طبعي أمر لا أخالفه، وهو أنني حينما أسأل عن شيء لا أكتفي بكلام شخص واحد، بل أسأل أربعة أشخاص على الأقل، فالمفتون كثر والحمد لله. المهم.. اجتمعت الآراء على شباك معين، فذهبت إليه، فوجدت طابورا هائلا مريعا، (وناس بالهبل). فسألت علي أجد شباكا أقصر، فأكد لي أحد الأشخاص أنه هذا هو الشباك المراد (واللي عليه العين)، فسألته عن الأوراق المطلوبة، فقال: شهادة المخالفات، والتأمين. فقلت: وهل هما هنا. فقال: من الشبابيك التي الخارج (ذل.. وتكدير.. وقرف) المهم.. سألت فوجدت الشباك المقصود وكان غير مزدحم (الحمد لله). وجدت أربعة شبابيك تأمين إجباري لشركات مختلفة (ومحدش عارف إيه الفرق). أخذت أبحث عن أنظف شباك، فذهبت إليه.

- أريد دفع مبلغ التأمين الإجباري.

-75 جنيها.

دفعت المبلغ الذي لا أعرف له سببا غير أنه شيء من أشياء مختلقة.. الحمد لله.. قلت: تبقى شهادة المخالفات، ولكن الطابووووووور الطويل ما يزال يثير همي.. (بس في مصر.. لازم نستحمل).

ذهبت إلى شباك المخالفات، وكان صغيرا جدا، ومع هذا فقد انتصف نصفين، نصف للرجال وآخر للنساء، ثم سألت الموظف:

- عايز شهادة مخالفات.

- الرخصة.

أعطيتها له، ثم نظر مليا فيها، وأتبع ذلك بنظرة مسددة نحوي، وقال:

- عايزين دوسيه.

-منين.

- جنب بتوع الشاي.. على اليمين.

ذهبت فوجدت طابورا آخر عند محل التصوير.. (يا ربي.. ما فيش حاجة في مصر من غير طوابير.. برضه معلش لازم نستحمل).. اشتريت ملفا رديئا سيئا لا يستحق أن يكون ورقة يلف فيها الطعمية، ومع هذا فقد كان بجنيه كامل لا نقص فيه.. ثم ذهبت إلى موظف الشباك فوجدت شخصا آخر غيره، وقلت له :

- أنا اديت الرخصة للي كان موجود، وكان عايز دوسيه.

فرمقني بنظرة قوية، ولم يرد علي، ثم أخذ الملف مني، ووضعه فوق كومة من الملفات الأخرى التي تقبع بجواره.. أظن -وبعض الظن إثم- أنه يجمعها ثم يبيعها آخر النهار لمحل التصوير.. ثم حمدت الله على هذا الإنجاز والنصر الكبير الذي حققته، فحين تقضي في مصر شأنا من شؤونك وينتهي لا بد لك أن تسجد شكرا لله على ما أعطاك وحباك وأولاك.. (هي دي أم الدنيا).

المهم.. انتظرت 10 دقائق، وهناك أكوام من الناس يقفون بجواري، وأنا لا أريد التحرك من مكاني على أمل أن يناديني الموظف لأخذ شهادة المخالفات.. ثم أخذت أسأل الناس :


ويبحثون عن أي مخالفة
- يا جماعة المخالفات منين.

-من الشبابيك اللي ورا.. انت مش اديتلهم الرخصة خلاص روح هينادوا عليك هناك.

فذهبت إلى المكان الذي دلوني عليه.. ووجدت مظلة للوقاية من الشمس.. وبهذه المناسبة أنتهز الفرصة لتحية السادة المسؤولين عن هذه المظلة ورجال المرور والوزارة وماما وبابا وخالتو وجدو بمناسبة الوصول السعيد.

المفاجأة يا سادة أن هذه المظلة لا تكفي إلا قرابة 10 أشخاص من بين تلال الناس الذين لا حصر أمام الشباك الصغير الذي تُسلم فيه.. فوقفت نصف ساعة.. ولم يجد جديد.. ثم ساعة.. (مفيش فايده).. ثم سألت آخرين مثلي ينتظرون الرخص فقالوا :

- إحنا هنا من 9 الصبح.

قلت (زي الفل.. هي دي مصر.. واللي ميستحملش المرور مالوش خير في مصر).. ومع الوقت بدأت الشمس تداعب قفاي ثم أَخَذَتْ تصفعه بأشعتها الملتهبة.. وكانت ملابسي سببا في زيادة إحساسي بالحرارة.

وأنقل إليكم بعض المشاهد والملاحظات التي لاحظتها خلال وقفة المصريين داخل المرور.

كانت هناك سيدة مرورية (نسبة إلى عملها بالمرور يعني) تنادي على الناس لأخذ شهادات المخالفات.. وكان صوتها كالعندليب التي أصيب بطلق ناري في رقبته.. وأحمد الله أنها لم تسلك طريق الغناء حتى لا يزداد مجال الغناء نشازا على النشاز الطافح فيه.. وكان هناك أناس يأتونها سائلين مستفسرين.. وكانت ترد بحدة وصوت عالٍ :

- من فضلكم محدش يقف على الشباك غير اللي بنادي عليه.

-احنا يا فندم عايزين بس نفهم.

-د ه مش شغلي.

وهنا أخذت أتساءل، أهذه الموظفة قد وظفت للتعالي والصياح على الناس، أم لخدمة المواطن والاهتمام بتساؤلاته. (طبعا لو قلتلها كده.. النار هتقيد.. ويمكن يا خدونا بتهمة خيانة الوطن).

وهناك مشهد آخر في ظل هذه المسرحية الكوميدية المأساوية السوداء.. رجل مروري آخر (صوته زي العسل.. واطي فعلا.. وبينادي على الناس اللي معندهمش مخالفات) ويقول :

- اللي سمع اسمه يجيب 5 جنيه، وييجي.

فعرفت أن هذه الجنيهات الخمسة مجرد عربون محبة وأخوة وصداقة وشراكة وتعاون بين المواطن الغلبان المسكين وبين رجل المرور الحكومي الطيب.

وقد كنت واقفا مدة ثلاث ساعات في مكان بجوار تلك المظلة حتى كاد ظهري أن ينكسر.. والناس ما بين قائم وقاعد على الأرض ومتكئ على الجدار وقاعد على السور.. (موال.. يا معلم). وقد أدركت أني لن أستطيع أن أتم أمر هذه الرخصة المشئومة، فقلت في نفسي لا أريد إلا أن آخذ الرخصة التي أخذوها مني وأرحل عن هذا المكان المشئوم، ولا أريد تجديدا (ولا يحزنون).. أنا أقول هذا، وأنا الذي كنت ألوم الناس الذين يقودون ورخصهم منتهية. والآن عرفت لم يفعلون ذلك.

المهم.. رأيت سيدة ظلت تترجى وتتوسل الموظفين مدة ساعتين لأجل الرخصة لأنها تريد الذهاب لتأتي بابنتها الصغيرة من المدرسة.. وظلت تتوسل وتقول :

- لازم اروح اجيب بنتي من المدرسة.. ممكن الرخصة.. مش عايزة شهادة مخالفات. ولا سميع ولا مجيب، كأنهم أحجار، ولكنها أحجار ليست كريمة.. ولم يراعوا طفلة صغيرة قد يحدث لها مكروه. ليس عندهم أي مسئولية أو ذرة دم.. ولو سارت الأم المسكينة بدون رخصة واستوقفتها لجنة من اللجان المبعثرة كالبراغيث في شوارع القاهرة لما رحموه. وأخيرا قال لها أحدهم.

- الرخصة جوه بيكشفو عليها مخالفات.. ومش هنعرف نجيبها.

(يا عيني الرخصة المسكينة.. كنت شايفها لسة سليمة شوية.. أكيد لما إيد بتوع المرور مسكتها جالها جلطة من قرفهم).

أطلت عليكم.. (معلش).. ولكن هانت.. فها هو ظهري يبدو أنه سينكسر فعلا.. والغضب قد استبد بي.. وعندي استعداد لأن أصفع أي مروري لعين.. وأخيرا سمعت من ينادي باسمي من خلال شباك ذلك الرجل ذي الصوت الواطي.. واكتشفت أنه رحل وأتى غيره.. فكل رجال الوردية الأولى حلوا وأتى غيرهم، ونحن أصحاب الرخص باقون.. يبدو أننا سنخلد في المرور.. وأحسست حين سمعت اسمي أن كوبا ماء بارد نزل في حلقي في نهار صيف حار. وأخذ المنادي يقول :

- اللي سمع اسمه يجيب خمسه جنيه.

دفعت، وقد أوشكت الساعة على الرابعة، وأنا باق 6 ساعات في مكاني.. المهم حمدت الله.
ولكن المشوار طويل.. وسأكمل بقية المهمة في الأسبوع المقبل.. ثم ركبت سيارتي، وأحسست بكره عميق لها.. (وحاسس اني غلطت.. ياريتني كنت فضلت اركب تاكسيات).

على العموم إلى اللقاء في الأسبوع القادم مع مشوار تجديد الرخصة.
(منقول)