مقال جميل للرائع د. ميشيل حنا - الـgps.. ودولة الأخ الأكبر!
:U_thin1[1]:
بعد مقاومة عنيفة ورفض كامل من أجهزة الأمن المصرية لاستخدام خدمات تحديد المواقع الجغرافية المعروفة باسم GPS في مصر، تم السماح بهذا أخيراً، ففي إبريل 2009 صدر القرار بالسماح ببيع وتداول أجهزة الـGPS في مصر. قد تبدو هذه انفراجة أمنية مفاجئة، لكن مهلاً فالأمر ليس بهذه البساطة!
بداية نقول إن GPS هو اختصار عبارة Global Positioning System (أي نظام تحديد المواقع العالمي) ويتكوّن هذا النظام من عدد من الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض في مدار متوسّط، والتي يتراوح عددها بين 24 و32 قمراً. تقوم هذه الأقمار بإرسال إشارات تجعل مُستقبِل إشارات الـGPS الموجود على الأرض يستطيع تحديد مكان وجوده بدقة، كما يستطيع أيضاً تحديد سرعة الحركة، والزمن، والاتجاه.. وتم تطوير هذا النظام بواسطة وزارة الدفاع الأمريكية، ويتحكم فيه حالياً الجناح الفضائي الخمسين من القوات الجوية الأمريكية.
ظلّ النظام منذ إنشائه حِكراً على الجيش الأمريكي، حتى إذا ما وقعت حادثة الطائرة الكورية رقم 007 عام 1983 (والتي أسقطها الاتحاد السوفيتي وراح ضحيتها 269 شخصاً)، قرر الرئيس رونالد ريجان إتاحة النظام مجاناً للعالم؛ منعاً لتكرار مثل هذه الحوادث. ومنذ ذلك التاريخ صار النظام يُستخدم على نطاق واسع في رسم الخرائط، والتجارة، والتجارب العلمية، ودراسة الزلازل وحتى بين الأفراد للسياحة، ولتسهيل الوصول إلى الأماكن التي يرغبون في الوصول إليها.
ظلت أجهزة الـ GPS ممنوعة في مصر لسنوات طويلة، تلك الأجهزة التي دخلت حيّز الاستخدام المدني منذ عام 1983 بعد أن كانت مقصورة على التطبيقات العسكرية فقط، ثم بدأت تتوافر في معظم دول العالم منذ تسعينيات القرن الماضي. حتى إننا كنا واحدة من ثلاث دول في العالم تمنع استخدام هذه الأجهزة في أراضيها، جنباً إلى جنب مع سوريا وكوريا الشمالية!
يتردد أن ضغوطا خارجية قد مورست من أجل السماح بهذه التقنية، حيث إن شريحة استقبال الـGPS (والتي تضاف الآن بصفة أساسية إلى الهواتف من الفئة العليا) سيزداد انتشارها شيئاً فشيئاً إلى أن تصبح مكوناً أساسياً من مكونات 80% من الهواتف المحمولة بحلول 2012، مما يعني أن المصريين لن يجدوا هواتف جديدة يستعملونها بعد هذا التاريخ! لكن هل تستسلم أجهزة الأمن لهذا القرار الذي تم بدون رضاها؟ بالطبع لا!
صحيح أن هواتف الـGPS قد تم السماح بها أخيراً، لكن هناك أوامر صدرت من الأجهزة الأمنية لكل المحال التي تبيع هذه الهواتف بالحصول على صورة من البطاقة الشخصية أو جواز السفر من أي شخص يقوم بشراء هذه الهواتف، ويتم إرسال هذه الصورة مع رقم الجهاز المسلسل وبياناته إلى أجهزة الأمن، وهو إجراء لا أعتقد أنه يطبّق في أي دولة أخرى من دول العالم.
الآن وبمجرد تشغيل الهاتف الذي اشتريته تُصبح كل حركاتك وسكناتك تحت نظر أجهزة الأمن.. أجهزة الأمن تمتلك أجهزة تمكّنها -اعتماداً على الإشارات التي يطلقها هاتفك الذي يحتوي على خاصية الـGPS- من معرفة موقعك الجغرافي بدقة، وأين تذهب وأين تعمل وأين تنام، وكم قضيت من الوقت هنا أو هناك!. والأكثر من هذا أنها تستطيع أن تعرف ما هي أسماء الشوارع التي بحثت عنها على الخريطة، والأماكن التي شاهدتها -مجرد شاهدتها- على الخرائط التي توفرها الخدمة، وبهذا إذا فكّرت في مجرد النظر إلى أي موقع من المواقع التي يعتبرها الأمن حساسة، فإن الأجهزة الأمنية تستطيع أن تحضرك "من قفاك" فوراً!
الغريب والمخزي في الأمر هو أنك تستطيع دوماً من خلال الكمبيوتر وخدمة "Google Earth" أن تُشاهد كل ما تريد من أماكن على وجه البسيطة، دون الحاجة لأجهزة GPS التي تتبعها أجهزة الأمن المصرية!
حقاً إن نبوءات الكاتب الإنجليزي العبقري جورج أورويل -صاحب الرواية الأشهر "1984"- تصبح يوماً بعد يوم أقرب وأقرب إلى التحقق. كان أورويل قد تنبّأ بتحوّل العالم إلى دولة شموليّة كبيرة تراقب تحركات وأفكار سكّانها، حيث الجميع مراقب والجميع تحت عين الأخ الأكبر الذي يراقب كل شيء ويعرف كل شيء، وعلى الجميع أن يلتزم بأوامره وتعليماته وأن يحفظ أفكاره وفلسفاته. صحيح أن أورويل كان قد كتب روايته للعالم الغربي، إلا أن العالم الغربي قد استطاع أن يتجاوز هذا الفكر وأن يتحرّك دوماً إلى الأمام نحو مزيد من الديمقراطية والشفافية وحرية الأفراد، تاركاً تحقيق هذه النبوءات لنا نحن سكان العالم الثالث!
لعل مصر حقاً هي واحدة من أكثر دول العالم التي تنطبق عليها نبوءات جورج أورويل، وأننا بلا جدال نستحق لقب دولة الأخ الأكبر!
هل توافق على التجسس على موبايلك لأسباب أمنية؟
المصدر : موقع بص و طل