هذه رؤية فاحصة لواقعنا للكاتب محمد ابو كريشة .. أقدمها لكم رغم اختلافي معه في كثير مما قال .. ولكنها في كل الأحوال تثير التأمل .. نشرت في الجمهورية تحت عنوان "بعلها نعلها " .. أترككم معها ...
النكتة واقعة أو قصة خيالية تضحكنا لكنها لو حدثت بالفعل تبكينا.. ذلك في ظني هو التعريف الجامع المانع للنكتة..
فكلما زاد الضحك علي أي نكتة فاعلم أنها ستبكينا بحرقة لو أنها وقعت بالفعل.. وأذكر أنني منذ سنين طويلة لا أعرف عددها.. كنت أتندر مع أصدقاء من عدة جنسيات عربية وأتقمص دور مذيع الأخبار وأقول: وصل إلي البلاد أمس دولة السيد شيمون بيريز رئيس وزراء إسرائيل وكان الرئيس أو الملك أو الأمير علي رأس مستقبلي دولته حيث تعانق الزعيمان عناقاً حاراً لدي نزول دولة رئيس الوزراء الإسرائيلي من سلم الطائرة..
ورغم تكراري للرواية أو النكتة في كل جلسة كان الأصدقاء يموتون من الضحك ويستلقون علي الأرض من كثرة القهقهة.. والآن لم تعد تلك نكتة.. بل صارت واقعة حقيقية تبكينا بنفس القدر الذي كانت تضحكنا به زمان.
ولو أن امرأ أراد أن يقعد علي قهوة فقعد علي شاي بالفعل لطارت الكراسي في كل اتجاه واندلعت معركة عنيفة قد تخلف قتلي وجرحي وعويلاً وصراخاً.. لكن الواقعة تضحكنا لأنها خيالية... وقد ضحكنا ومازلنا نضحك من فيلم هاني رمزي "عايز حقي".. لكننا الآن نبكي بسبب فكرة أو شطحة صكوك الملكية الشعبية التي جعلت نكتة هاني رمزي حقيقة واقعة..
ولو نطق أحدهم منذ أربعين عاماً كلمة "خصخصة" كتعبير عن بيع القطاع العام لضحكنا باعتباره يلقي نكتة ولكننا الآن نبكي لأن الخصخصة واقع لا مفر منه وشر لابد منه.. ولو أننا سمعنا الكلمة قبل أربعين عاماً لاعتبرناها كلمة قبيحة أو "قلة أدب".. لكننا الآن نبكي لأنها نظرية اقتصادية..
ولو أن أحدهم حكي لنا نكتة عن رجل أفلس في البورصة فذبح زوجته وأولاده ونفسه ليهرب معهم من "الديانة" إلي الجنة.. لضحكنا حتي الإغماء.. لكننا الآن نبكي لأن الواقعة لم تعد نكتة.. بل حدثت بالفعل..
ولو قيل لنا منذ أربعين عاماً ان رجل أعمال استأجر مجرماً ليقتل عشيقته التي هجرته ليحتفظ بها ميتة بعد أن فشل في الحفاظ عليها حية.. لضحكنا حتي الغثيان.. لكننا الآن نبكي.
وزمان كان يقال لنا إن ثلاثة صعايدة ركبوا سيارة تاكسي وعندما وصلوا إلي المكان الذي يريدون سألوا السائق عن قيمة العداد فقال: جنيه واحد.. فدفع كل منهم جنيهاً.. وكانت النكتة "تفطسنا من الضحك".. لكننا الآن نشهد للصعايدة بأنهم سبقوا عصرهم.. لأن سائقي التاكسي يأخذون الأجرة بالعدد لا بالعداد.. أي يأخذون الأجرة من كل راكب علي حدة لذلك نبكي لأن النكتة صارت واقعاً.. وأصبح وجود العداد نفسه نكتة.. ولو قلت لي إنك ركبت "تاكسي" بعداد فسوف اضحك لأنك تلقي نكتة.
وهناك تعريف آخر للنكتة بأنها ذكري.. أي واقعة حدثت بالفعل في الماضي وأبكتنا لكنها صارت الآن ذكري عندما نستدعيها نضحك..
وعندما كنت طالباً في الجامعة قبل ألف ألف عام أذكر أنني وابن خالي الذي كنت أشاركه السكن في العباسية ذهبنا لزيارة أقاربنا الطلاب أيضا في سكنهم بميت عقبة.. وبعد انتهاء الزيارة ركبنا الأتوبيس إلي العتبة لننزل هناك ونركب أتوبيساً آخر إلي العباسية.. وعندما نزلنا في العتبة تحسس ابن خالي جيبه فلم يجد الجنيه الوحيد الذي كان "حيلته" في آخر الشهر وكان معي بالصدفة نفس المبلغ في انتظار ورود الحوالة البريدية من البلد.. وصرخ ابن خالي: "يانهار اسود.. أنا اتنشلت".. فقلت له: لا بأس.. الجنيه الذي معي يكفينا معاً.. وتحسست جيبي لأجد الجنيه قد طار هو الآخر.. فصرخت مثله ولكن بشكل أصح لأننا كنا بالليل ولم نكن بالنهار وقلت: "ياليلة سودة.. وأنا برضه اتنشلت".. وكانت بالفعل ليلة "مطينة بطين".. فقد ذهبنا من العتبة إلي العباسية سيراً علي الأقدام.. يكاد الحزن والهم يفتكان بنا.. ولا أذكر كم مضي من أيام في الهم والغم حتي جاء الفرج ووصلت الفلوس من البلد.
........
هذه الواقعة التي أدمت قلبي يومها استعيدها واستدعيها الآن مع ابن خالي كلما التقينا ونموت من الضحك بينما كنا نموت من الهم عندما وقعت في الماضي.. وفي المآتم كنا نبكي ونولول مع المولولين.. وبعد مرور شهور أو سنوات من واقعة الموت المبكية كنا نجلس لنتندر ونضحك.. ونحن نقلد طريقة بكاء كل امرأة وكل رجل.. وأسلوبه في الولولة والعويل.
وزمان كنا نضحك من النكتة التي تقول: "مرة واحد.. قلبه وقف نزل زقه".. والآن لم نعد نضحك ولم نعد نبكي لأن القلب مات ولم يعد يجدي معه "الزق"..
وأسوأ ما وصلنا إليه أن شيئاً لم يعد يضحكنا ولم يعد يبكينا..
نحن نقهقه ونعوي وننهق ونقول إن هذا ضحك لكنه في الواقع افتعال ضحك..
نضحك لنجامل أو لننافق شخصاً مهماً ألقي نكتة سخيفة..
أو لأن البنت التي نصاحبها ونرافقها قالت تعليقاً غبياً بدمها "اللي يلطش"..
فالضحك عندنا وسيلة لإرضاء مسئول أو اصطياد فتاة أو امرأة.. أو لقضاء مصلحة عند موظف "غلس" استغل حاجتنا وراح يستظرف ونحن نضحك ليقضي لنا حاجتنا.. "وإن كان لك حاجة عند الكلب اضحك علي غلاسته".
نحن أصابنا وباء الدم الثقيل ولم ينج منه أحد الصغار والكبار موبوءون بثقل الظل والسماجة..
بل إن الدم الثقيل والسماجة أصبحا منهجاً للإعلاميين في الأرض والفضاء والصحف..
ويسمونه منهج الاستفزاز ويقاس نجاح أي منهم الآن بقدرته علي حرق دمك بغلاسته وسماجته..
وهم يفرحون إذا وصفتهم بثقل الظل والواحد منهم لو طعنته بمائة سكين فلن تنزل منه قطرة دم واحدة.. لأنه "لوح".
وهناك "شوطة" في ثقل الظل أصابت وضربت الأمة العربية كلها والمسئولون في هذه الأمة هم أثقل أهلها دماً..
والنخبة والمثقفون والفنانون يقودون قطار الدم الثقيل..
والأغنياء ورجال الأعمال "ياساتر.. يارب.. منتهي ثقل الظل" والغباء والسماجة "يشران" من وجوه هؤلاء جميعاً كأنهم خشب مسندة.. كأنهم تماثيل شمع أو مومياوات أو ألواح ثلج..
وأكاد أقطع بأنه لم يعد مسموحاً لذي الظل الخفيف بأن يبرز في هذه الأمة لأنه سيعزف "نشاز" في أوركسترا الدم الثقيل.
ومن الغباء الشديد أن تمدح شعباً بما ينبغي أن تذمه به..
من الغباء أن تمدح البليد بأنه صبور وأن تمدح الأبله بأنه طيب..
وأن تمدح الذليل بأنه قوي التحمل وجلد..
ومن الغباء أن تمدح شعباً بأنه يحول مآسيه إلي نكتة يضحك منها.. ويحول أفراحه إلي مآتم يلطم فيها..
من "العبط" أن يحتفل أناس بالموت كما يحتفلون بالميلاد والزواج بالضبط وبنفس الطقوس.
فالشعب الذي يضحك من مآسيه ويبكي في أفراحه ويقول إنها دموع الفرح فيه خلل لابد أن يعالج..
والذين يمدحونه بهذه الرذيلة مختلون أيضا لأنهم جزء من التركيبة "العبيطة".. "والخلطبيطة" البلهاء.
........
إذا لم تبكني المبكيات وتضحكني المضحكات وإذا أبكتني المضحكات وأضحكتني المبكيات فأنا أبله أو أنا بلغة العصر "مهنج" أو مختل أو رد فعلي غير منضبط والأمر يحتاج إلي علاج سريع..
فما بالك إذا كان هذا الخلل قد أصبح "شوطة" عربية عامة؟ فالعرب يهزلون في موضع الجد ويجدون في موضع الهزل وهذا هو ثقل الظل بعينه..
لذلك نجد العرب يمزحون بالمطاوي ويهزلون بالمدافع بينما يقاتلون ويحاربون برش المياه أو بقذف الحجارة.. علي أساس أن "رش الميه عداوة".. فهم يعادون إسرائيل برشها بالمياه بينما يجري المزاح "والهزار" بين فتح وحماس بالمدافع والبنادق.. ورش إسرائيل بالماء وقذفها بالحجارة منتهي العداوة.. بينما تبادل القتل بين حماس وفتح بكل أنواع الأسلحة النارية مجرد "هزار" بين الإخوة.
والنكتة انقرضت تماماً في الأمة العربية لأنها لم تعد قادرة علي ملاحقة الواقع الذي أصبح أغرب من الخيال..
وكل ما كان نكاتاً تضحكنا أصبح واقعاً يبكينا والأدهي أننا لم نعد حتي نبكي لأن البكاء والضحك مصدرهما القلب والقلب مات وضحكنا كريه الرائحة وبكاؤنا كريه الرائحة لأن القلب أصبح جثة و.. "رمه" ومن الطبيعي أن تنبعث منها الروائح الكريهة.
ونحن نعيش واقعاً كان بالأمس نكاتاً خيالية تضحكنا.. وقد كثر ضحكنا في الماضي حتي مات القلب ولم يعد يبكي أو يندهش أو يتعجب مما يجري.. والضحك الصادق ينبع من الدهشة ومن النهاية المفاجئة وغير المتوقعة للنكتة..
لكن الآن لم يعد شيء يدهشنا وكل شيء يقع في هذه الأمة لا يفاجئنا لأننا نتوقع الأسوأ.. حتي أننا نحمد الله علي السييء لأن الأسوأ لم يقع.. وهذا خلل آخر فينا لأننا نسمي الاستكانة والاستسلام رضا وقناعة وإيماناً.
ومدح الشعوب العربية بما ينبغي ذمها به جعلها تستمرئ الذل والهوان والاستكانة والرضا بالدنية في دينها ودنياها.. وجعل رد فعلها مختلاً ومناقضاً للأحداث فالعربي يضحكه الصفع علي "قفاه" وتبكيه "الزغزغة"..
تصفعه فيضحك "وتزغزغه" فينتحب..
فهو يبكي فرحاً ويضحك حزناً..
وتسعده العبودية وتشقيه الحرية..
وتسره التبعية..
ويضره الاستقلال..
ويكره التدخل في شئونه الداخلية
ويعشق العبث في ملابسه الداخلية..
ويسمي الأشياء بغير أسمائها..
فيسمي الاحتلال تحريراً..
ويسمي الاستسلام سلاماً..
ويعارض ما يجب أن يؤيده ويؤيد ما يجب أن يعارضه..
ويقول "لا" في موضع "نعم"..
ويقول "نعم" في موضع لا..
وإذا أردته أن يتجه يميناً فادعه إلي الاتجاه يساراً.. لأنه لا يعرف يمينه من شماله..
وتري فناناً ليس مطلوباً منه إلا أن يمثل ويضحكنا ويهرج فيسلينا يخرج علي النص ويتحدث ببلاهة عن الدين والعلم والسياسة..
وتري رجل أعمال ليس مطلوباً منه إلا أن يشحن لنا كروت المحمول لنثرثر وهو يكسب يتحدث بفلوسه لا بفكره ولا بخلفيته الثقافية التي لا وجود لها عن الإرهاب والفتنة الطائفية والسلام والخيار الاستراتيجي.
........
وعندما مات القلب وصار العقل في النعل والنعل في الرأس تحول الإنسان العربي إلي "بكبورت" يطفح بالمجاري والصرف الصحي..
صار العربي بلداً خبيثاً لا يخرج نباته إلا نكداً..
وتفشي وباء الدم الثقيل في هذه الأمة..
ولم تعد هناك براءة حتي لدي الأطفال..
ولم يعد هناك حياء..
وعندما تطالع وجه امرأة أو رجل في هذه الأمة تشعر بأنه "سكندهاند"..
تشعر شعوراً يقينيا بأن الشخص الذي أمامك "مستعمل" أو "مهري"..
حيث الوقاحة والعيون التي "تندب فيها رصاصة"..
تشعر بأن الناس في هذه الأمة صاروا بضاعة علي عربة يد يحط عليها الذباب والبعوض "وتفعصها" كل يد ثم تتركها زهداً فيها وقرفاً منها..
ولم تعد هناك قيمة لرأي العربي..
فلا يسرك أن يمدحك ولا يحزنك أن يذمك..
لأنه إنسان مختل ليس فيه شيء حقيقي.. وكل ما يقوله وما يفعله مزيف..
وصوته في الانتخابات يذهب إلي اللصوص وتجار المخدرات ويحجبه عن الشرفاء وأهل المبادئ..
فإذا فزت في انتخابات عربية فاحزن والطم لأنك سييء وإذا خسرت فافرح لأنك عظيم ومحترم..
فالديمقراطية والحرية والتعددية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة وكل القيم والمبادئ العالمية الجميلة ليست سوي طبلة في يد "الهبلة" عندما يتم تطبيقها في الأمة العربية.
الخلل أصاب كل شئ..
ولم تعد هناك طوبة علي طوبة أو طوبة في موضعها بهذه الأمة..
وهناك تبادل أدوار ومواقع مقيت حيث استرجلت النسوان وتنسون الرجال وكبر الأطفال قبل الأوان وصغر الكبار بعد الأوان..
وتبارك الأمة تعدد الخليلات وتحارب تعدد الحليلات..
وتجعل النقطة التحتية فوقية ليكون "اللي تحت فوق واللي فوق تحت"
وتتحلل المرأة باسم التحرر.. ليصبح بعلها نعلها!!!
نظرة
ويل لك من جيرانك أو إخوتك إذا كانوا من العرب فإن دخانهم يعميك ولا تستدفئ بنارهم..
ورائحة شوائهم تزيدك جوعاً ولا يصيب بطنك منه شيء..
وهكذا كل أفعال وسياسات وبطولات العرب شعار بلا مضمون..
ودخان بلا نار ورائحة بلا تذوق لطعم الشواء..
كما قال الشاعر:
وجيرة لا تري في الناس مثلهمو.. إذا يكون لهم عيد وإفطار
ان يوقدوا يوسعونا من دخانهمو.. وليس يبلغنا ما تنضج النار
ولا يفيدك التنقل من بلد إلي بلد والتقلب بين الناس من المحيط إلي الخليج فإنك لن تجد خيراً..
وتكون حالك مثل حال الأصفط بن قريع الذي "زهق" من أفعال قومه بني سعد فهجرهم إلي عدة قبائل أخري فلم يجد خيراً وقال قولته التي صارت مثلا:
في كل واد بنو سعد..
ولا خير في كثرة الخبيث.. بل الشر كله في هذه الكثرة وعبر عن ذلك السموءل بقوله:
تعيرنا أنا قليل عديدنا.. فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا.. عزيز وجار الأكثرين ذليل!!
:,: