بقلم د. سعدالدين إبراهيم ٤/ ٧/ ٢٠٠٩


أصبحت لندن فى السنوات الأخيرة أشبه بعاصمة عربية. ففى فصل الصيف خصوصاً، يزدحم شارع أكسفورد بآلاف العرب، من السُياح والطلاب واللاجئين. وتُسمع اللغة العربية بكل اللهجات، من الخليجية إلى الشامية والمصرية إلى المغاربية.
كما تزدحم المتاجر المهمة من هارود إلى مارك وسبنسر. وتستجيب هذه المتاجر بدورها، فتضع لافتات بالعربية، وتستخدم موظفين عرباً للتفاهم مع العُملاء من مُختلف البُلدان العربية بلهجاتهم المحلية. وتظهر بعض النساء العربيات فى هذه الشوارع والمتاجر بالحجاب والنقاب وهن يتسوقن بنشاط ملحوظ.
وقد جاءت زيارتى لبريطانيا هذا الصيف للمُشاركة فى مؤتمر عن «المستقبل السياسى لمصر بعد مُبارك»، نظمته كُلية بيـــرك بكب بجامعة لندن، وتحدث فيه د. مـها عبد الرحمن من جامعتى كمبردج والأمريكية بالقاهرة، ود. عُمر عاشور من جامعة إكستر، والألمانى والبريطانى لاس برجر، من جامعـــة مانشــستر، ود.سلوى إســماعيل، الأستاذة بكلية الدراسات الأفريقية والآسيوية.
ولأن توقيت المؤتمر تزامن مع الانتفاضة الشعبية الإيرانية ضد مُحاولات آيات الله إخماد المُعارضة وفرض نتائج الانتخابات، فقد أثيرت مُقارنات بين ما يحدث فى إيران وإمكانية تكراره فى مصر، خاصة بعدما تناقلت وسائل الإعلام تعاطف الشباب المصرى والعربى من «المدونين» مع نظرائهم الإيرانيين. كما أن مئات من المصريين والعرب المُقيمين أو الزائرين، كانوا يُشاركون فى المُظاهرات اليومية بلندن، تضامناً مع المُحتجين فى إيران.
ولأن لندن أصبحت أشبه بعاصمة عربية، على نحو ما أشرنا إليه أعلاه، فإنها تزخر بمظاهر الحياة العربية من مؤتمرات إلى احتجاجات ومُظاهرات، إلى التسوق والمشتريات، إلى الأفراح والليالى الملاح.
وكُنا فى سنوات الصبا والشباب نستمع إلى المُطربة أسمهان تصدح بأغنية «ليالى الأنس فى فيينا»، ولدهشتى اكتشفت أن بعض أبناء الجالية المصرية والجاليات العربية الأخرى يُفضلون إقامة أفراحهم فى لندن. وأصبحت هناك شركات مُتخصصة فى القيام بكل ما تتطلبه هذه الأفراح من طقوس ومشروبات ومأكولات مصــرية وشرقية. ولهذه الشركات موقع عـــلى الإنتـــرنت اسمه «زفّة دوت كوم zaffa .com».
وكما شاركت فى مؤتمر جامعى، وفى مُظاهرة تضامنية مع الشباب الإيرانى، فقد تلقيت دعوة لحضور عُرس مصرى فى لندن لكل من رجل الأعمال الشاب «هشام الناظر» والعروس «هناء العوصى». ولأن العريس كان صديق طفولة لابنى أمير، فإننى لم أتردد فى قبول الدعوة.
وذهبت مُعتقداً أن ذلك سيكون عُرساً عائلياً يحضره فقط الأقارب والأصدقاء، ويستغرق ثلاث أو أربع ساعات، تواؤماً مع العادات الإنجليزية، حيث ينام الناس مُبكراً، ويستيقظون مُبكراً. ولكنى فوجئت بأن هناك ما يقرب من خمسمائة مدعو، وفد نصفهم تقريباً من مصر وبُلدان عربية أخرى، حيث إن أم العروسة مغربية.
ولاستيعاب هذا العدد الضخم من المدعوين، أقامت أسرة العروس خيمة كُبرى فى حديقة منزلها التى تبلغ عدة أفدنة فى إحدى ضواحى لندن. وقد توسط هذه الخيمة العملاقة مسرح بلورى شفاف، عليه «كوشة»، تنتظر العروسين، اللذين سبقتهما زفّة صاخبة، بها راقصة شرقية، وعشرون عازفاً من لابسى الطرابيش!
باختصار، وجدت نفسى شاهداً على، ومُشاركاً فى فرح، ذكّرنى بعشرات من أفراح الميسورين المصريين التى تقام فى فنادق الخمس نجوم، التى لم أر مثلها خلال سنوات المنفى فى أى من البُلدان التى تجولت فيها. لقد كانت أفراح آل الناظر وآل العوصى فى لندن، نسخة لندنية مُنقحة من أفراح الطبقة المصرية العُليا والأكثر ثراء.
وحينما أقول «نسخة مُنقحة»، فلأن ذلك كان واضحاً من إشارات الطريق من لندن إلى الضواحى، والمشاعل، وعشرات المُرشدين بأزيائهم البريطانية، إلى المُنادين الذين يتسلمون السيارات عند وصول المدعوين، إلى عشرات المُضيفات الحسناوات بأزيائهن الأنيقة، إلى ترتيبات الموائد، والجلوس، والموسيقى، والمُقبلات، والأضواء.
وحينما حان وقت تناول العشاء، لم يحدث الهرج والمرج المُعتاد فى الأفراح المصرية، حتى فى فنادق الخمس نجوم. كذلك تحدث أحد أصدقاء العريس، المهندس أمير سعد الدين إبراهيم، عن ذكرياته مع العريس وعدة طرائف مُضحكة عن شخصيته. ثم تحدث والد العروس، وهو رجل الأعمال المصرىـ البريطانى مُحسن العوصى، عن ابنته هناء، وعن سعادته بأنه حقق لها العُرس الأسطورى الذى كانت تحلم به منذ طفولتها، ثم وجّه كلمة إلى العريس، هشام الناظر، الذى يُهديه أغلى ما يملك والداها، ثم وجّه كلمة لابنته هناء، اختلطت بدموع الأب الحنون وهو يوصيها بعريسها حباً وخيراً.
ثم بدأت الموسيقى تصدح فى الخيمة والخلاء المُحيط بها وأصوات المطربين والمُطربات، ومعهم أصوات أصدقاء العريس وصديقات العروس، ورقص بعضهم مع العروسين على المسرح البلورى الشفاف، فى مشهد مُماثل لما تصوره لنا السينما فى ليالى «ألف ليلة وليلة». واستمرت الموسيقى والرقص والغناء والطرب إلى الخامسة صباحاً.
ولاحظت أن عشرات من رجال الأعمال المصريين، من الذين ترددت أسماؤهم فى الصحافة خلال السنوات العشر الماضية كانوا بين المدعوين. وكنت أعرف بعضهم من قبل وتعرفت على البعض الآخر فى تلك الليلة. وكانوا جميعاً يُعبّرون عن حنينهم الشديد لمصر، وشوقهم للعودة إليها، فى وقت قريب!
وسألنى عدد منهم عن توقعاتى وقراءتى لما يحدث فى مصر هذه الأيام. ولم يكن لدىّ إجابات شافية. فمثلى مثلهم، من المُطاردين، أو الهاربين، أو اليائسين من إصلاح أحوال البلاد. ولكن الجميع لا يكفّون عن التفكير فى مصر وحلم العودة وتذكرت قول البابا شنودة، «إن مصر بلد لا نعيش فيه ولكنه هو الذى يعيش فى وجدان كل مصرى، حتى لو كُنا نعيش على بُعد آلاف الأميال منها«.
كان من الطرائف التى ذكرها صديق العريس عن العريس هشام الناظر، ولعه بتقليد النجم الاستعراضى الغنائى مايكل جاكسون، خاصة فى «مشية القمر» (Moon walking)، والتى لم يكن زُملاؤه الأطفال يستطيعون مُنافسته فيها.
وفى طريق العودة إلى لندن، عند الفجر، سمعنا من راديو السيارة خبر وفاة المُطرب مايكل جاكسون بمنزله فى هوليود. وقيل ضمن ما قيل فى التعليق على خبر الوفاة أنه عاش لفترة، لاجئاً فى دولة البحرين، وأنه مثل مشاهير آخرين من نجوم الرياضة والفن، الزنوج اعتنق الإسلام.
وسواء كان هذا الخبر صحيحاً من عدمه، فقد ترحّمنا عليه مع شُعاع الفجر، حيث يجوز الدُعاء لبنى الإنسان، مهما كان دينهم أو لونهم. فكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وتبقى مصر خالدة بأبنائها وثقافتها.

جريدة المصري اليوم