وفي الحقيقة لا يمكنني أبداً أن ألوم مقدم الخدمة اياً كان نوعها على قلة جودة خدمته أو على الطريقة الفظة التي يتعامل بها مع المواطن وكأنه يتفضل عليه بأن يأخذ منه ماله وهو متبرم ومقطب الجبين وعلى وجهه غضب الله، ولا يهمه أن يرفض مواطن ما هذه الخدمة السيئة .. فليذهب إلى الجحيم فهناك عشرات المواطنين ممن سيقنعون بالخدمة الرديئة التي يقدمها.. بل وسيتعاركون للحصول عليها .. هؤلاء النخاسون وجدوا أمامهم مستهلك (لقطة) .. يأخذ منهم أسوأ خدمة بأسوأ جودة وأسوأ أسلوب تعامل فيما يحني المواطن ظهره ويطأطئ رأسه موافقاً أن يأخد تلك الخدمة السيئة بل ويدفع في مقابلها من قوت يومه وكده .. ولاحول ولا قوة إلا بالله !!
ولذلك .. أغرقنا أولئك النخاسون بأسوأ البضائع الصينية على سبيل المثال، وحين كنت أتحدث مع صديق يعمل استاذاً جامعياً بإحدى جامعات الصين جمعتنا الظروف في الولايات المتحدة وحدثته عن ذلك أكد لي أن الخطأ ليس خطأ المنتج الصيني وإنما هو خطأ المستهلك المصري الذي وافق على شراء بضائع بهذا السوء والتي تحط من قدر الصين كدولة صناعية هائلة في أعين المستهلك المصري، فالأمر يسير كالتالي: تاجر مصري جشع يحدد قدراً من المال لانتاج سلعة وعلى قدر المال المخصص لانتاج السلعة تأتي الجودة الصينية وكلما زادت حصة المال المخصصة للمنتج ازدادت جودته .
ولكن ماذا يساوي هذا المواطن وما الذي يمثله من أهمية ليستحق أن أنتج له سلعة قيمة؟! هكذا ينظر الينا التجار وإلا لما كانوا صنعوا الجبن الرومي بالفورمالين او اطعموا الدجاج الأبيض حبوب منع الحمل لتسمن ويزداد وزنها !!
ونظرأ لأن المنتج أو المستورد المصري فهم طبيعة هذا الشعب وبأنه سيجري وراء أي شيئ رخيص حتى ولو سبب له المرض على المدى الطويل بما فيه من مكسبات لون وطعم ورائحة محظورة قانونا او مواد خام فاسدة وتالفة أصلا فقد تمادى في الأمر وهو مطمئن أن نوعية المستهلك الذي يبيعه هذا المنتج أياً كان نوعه من أنصاف المتعلمين (وهؤلاء سبب العديد من الكوارث بسطحيتهم وتهاونهم في صحتهم واستهارهم ولا مبالاتهم) أو حتى من المتعلمين ممن يجهلون حقهم القانوني والإنساني في ضرورة الحصول على خدمة جيدة مقابل ما يدفعون
المشكلة أننا كمواطنين مصريين تدنى ذوقنا العام وتدني اهتمامنا بجودة الخدمة المقدمة إلينا (سواء كانت طعام أو مواصلات أو غيرها) حتى صرنا نقبل بسلع في غاية الحقارة والقذارة لا لشيء إلا لرخص ثمنها، وإلا بالله عليكم كيف باع نخاسو اللحوم الحمير والكلاب على أنها لحوم مواشي دون أن يلفت نظر البعض رخص ثمنها أو اختلاف لونها أو شكلها ؟
كيف يتزايد الطلب على بعض انواع الياميش قبل وخلال رمضان مما يدفع بالتجار لرفع اسعارها بشكل جنوني وغير منطقي فيما هي تظل ملقاة على أرفف المحلات طوال العام حتى تتعفن او تلقى في الثلاجات بالاعوام لتخرج لنا بأسعار عجيبة قبل الشهر الكريم وكأنها وصلت للتو من الخارج ؟!
لماذا حين تذهب لشراء جهاز كهربائي أو تليفون محمول أو كومبيوتر وهو لا يزال بعد مشمولاً بالضمان يرفض التاجر استعادته منك بل ويقنعك أنك أنت من أفسد الجهاز بسوء استخدامك له دون أن تفكر في الذهاب إلى جهاز حماية المستهلك أو عمل محضر لمن قدم لك تلك السلعة الفاسدة؟
عندما تستقل سيارة أجرة (تاكسي أو ميكروباص) ويرفض السائق تشغيل العداد (يفعلها حالياً سائقو التاكسي الجديد والذي من المفترض ألا يعمل إلا بالعداد الالكتروني) أو يرفع سائق الميكروباص الأجرة أو يتخذ طريقاً غير طريقه لا تعترض وتلتزم السكينة والهدوء ؟ في حين أنك إن اعترضت أو هددت باللجوء إلى الشرطة سيختلف الموقف وربما يفتح الله عليك بأحد الركاب الذين لا تزال دماء الحياة تسري في عروقهم ليساندك ويقف إلى جوارك؟ أو يكون السائق أحد أولئك الاغنياء الأثرياء والذي يمد يده اليك بتأفف ويرد اليك مالك لتغادر سيارته حتى لا تتخيل أنك افضل منه او نك تستطيل عليه بالأجرة التي تدفعها له!
لماذا تشتري سلعة غذائية بسعر مبالغ فيه وهي متوافرة في أماكن أخرى بسعر أقل وربما بجودة أفضل ؟ ولماذا تشتري تلك السلع الغذائية ممن يقفون بها على الأرصفة في الشوارع ويعلم الله ما إذا كانت فاسدة أو عليها ورقة بيانات مزورة أو تحتوي شيئاً تمنعك عقيدتك من تناوله؟
لماذا يخضع المواطن المصري للشركات التي تقدم له خدمات كالكهرباء او الاتصالات الهاتفية الأرضية مثلا بعقود إذعان وإذلال .. عليه كل الواجبات وليس له حق إلا ان يدفع قيمة استهلاك الخدمة السيئة ثم يشكو فيما بعد .. وغالباً ما لايتم رد ماله إليه حتى وإن ثبت صدقه شكواه .. وإن اشتكى من سوء الخدمة وجب عليه ان يدفع رشوة او يعد من يتلقى شكواه بأنه (هايشوفه) إذا ما قام بحل مشكلته؟!
كيف يمكن مثلا ان تصر الشركة المصرية للاتصالات على تفعيل كافة الخدمات من اظهار رقم الطالب والاتصال بالمحافظات وغيرها سواء شاء المشترك أو أبى عند بداية التعاقد ، ويظل المواطن يدفع أموالا يراها مقيدة وواردة في فاتورة مقسمة إلى مائة خانة لا يفهم منها شيئاً (وربما يقصد منها إرباك المستهلك المصري سريع الملل والكسول)، وإذا ما شكا يقال له عليك أن تقدم طلباً لألغاء خدمة كذا وكذا .. ولماذا لم يسئل المواطن ابتداء عن رغبته من عدمها في تفعيل تلك الخدمة ؟! وإلى متى تتعامل مثل هذه الشركات مع المواطن وكأنه عبد لها يجب عليه التنفيذ وفقط !!
لماذا عندما تدخل أحد المحلات وتقضي بعض الوقت بداخله تتفحص المنتجات يصاب من يعملون بالمحل بالغضب وكأنك يجب أن تدخل لتأخذ السلعة ليتم خداعك في أسرع وقت مع أنك ستدفع له مالاً مقابل هذه السلعة أي أنك وغيرك سبب استمرار فتح هذا المحل لا أن يمن سيادته عليك ويتفضل بالبيع لك ويسمح لك متكرماً متعطفاً بأن تعطيه المال .. بل ويكاد بعضهم أن يطردك من المحل إذا ما طالبت بفاتورة البيع حفظاً لحقك إذا ما اكتشفت عيباً في السلعة .. ماهذا ؟ في أي بلد نعيش ؟ وماهذا المنطق العجيب؟
لو أن كل تاجر جشع رفع سعر السلعة أو احتكرها ووقف المواطن وقفة مع نفسه وقرر أن يستغني عن هذه السلعة لبعض الوقت وفعل هذا غيره وغيره وغيره .. ستبور بضائع هؤلاء التجار الجشعين وربما يدفعهم هذا إلى التنازل قليلاً ويتم خفض ثمنها وربما يبيعها لك وهو ينظر إليك ويصر على أسنانه من الغيظ لأنك حققت ما تريد (كما فعل بعض أهل الاسكندرية الشجعان حينما قاطعوا الجزارين الجشعين عدة أسابيع).. فيما البعض الآخر قد يفضل أن تفسد بضاعته على أن ينحني أمام المستهلك حتى لا تصبح عادة للمواطن وسلاحاً يلجأ إليه كلما اقتضت الظروف
صدقوني لم أعرف بلدأ في العالم (على حد علمي إلى الآن) يكون فيها مقدم الخدمة هو صاحب المن والفضل في بيع السلعة فيما يكون المستهلك عبداً لإحسانه .. ولم أر مواطناً يتسامح ويقبل أن يسلب منه حقه أمام عينيه دون أن تثور ثائرته أو أن يحاول قدر استطاعته استعادة هذا الحق
أما آن لنا أن نتغير؟ أما آن لنا نطالب بحقنا كمواطنين في سلعة أو خدمة مقابل ما ندفع ؟ أما آن لنا أن نتسم بالإيجابية ولو فيما يتعلق بما نأكل ونطعم أطفالنا ؟ ناهيك عن حقنا في انتخاب من نشاء لا من يشاء الغير مع أننا أصحاب الحق في الاختيار والرفض!!