الموضوع: إبراهيم عيسى يكتب: نجح فاروق حسني!

أكتب هذه السطور قبيل ساعات من إعلان النتيجة النهائية للتصويت علي مقعد مدير عام اليونسكو بين فاروق حسني ـ وزير الثقافة المصري ـ والمرشحة البلغارية إيرينا بوكوفا، النتيجة التي دخلا بها الحلبة في الجولة الأخيرة هي التعادل بتسعة وعشرين صوتًًا لكل منهما. لكن اسمحوا لي أن أعلن فاروق حسني فائزًا ومنتصرًا بالمقعد حتي لو لا قدر الله كسبت المرشحة البلغارية. نعم نجح فاروق حسني قبل التصويت الأخير وأتمني أن يكون قد نجح فعليًا بعده. أما لماذا نجح فاروق حسني بصرف النظر عن حقيقة النتيجة النهائية؟ فهذا سؤال مهم يستوجب بعض التأمل قبل الإجابة عنه: أولا: لابد أن نؤكد أن هذا المنصب مهم وجدير بالاحترام لكنه لا يعني أي شيء للرجل الذي يجلس عليه سوي شرف الوظيفة ونبالة المهمة ولا يضيف للدولة التي ينتمي لها سعادة المدير أي شيء، كما أن هذا المنصب ليس شهيرًا ولا يتصدر صفحات الصحف العالمية ولا تتداوله الأنباء والأخبار في القنوات التليفزيونية وليس بعالمية وشهرة وخطورة منصب مدير وكالة الطاقة النووية الذي تولاه الدكتور محمد البرادعي لسنوات ورحل عنه منذ أيام، ولا هو طبعًا مثل منصب سكرتير عام الأمم المتحدة الذي تولاه لمدة واحدة الدكتور بطرس غالي ومع ذلك لا مصر كسبت من تولي مصريين هذين المنصبين أي شيء سياسي أو حتي سياحي، فهي مسألة دعائية قد تكون حسنة أو سلبية حسب كل دولة وكل شعب وطبيعة نظرته لتلك المؤسسات الدولية.
ثانيا: إن الشعب المصري ما كان له أن يهتم ولا كان لنا أن ننشر في صحفنا المصرية سطرين تلاتة عن انتخابات اليونسكو الحالية لو لم يكن لدينا مرشح مصري بشهرة ورسمية فاروق حسني، وغالبًا ما كانت جريدة ولا نشرة أخبار واحدة اهتمت بالخبر أو في أفضل الأحوال كانت جريدة نشرته في صفحة الأخبار الدولية علي استحياء ودون صورة وهو ما يُظهر إلي أي حد إحنا ولا هنا من شئون العالم والأمم واليونسكو طبعًا وأن اهتمامنا محلي جدًا وضيق للغاية ولا يتجاوز موضع أقدامنا. ثالثا: إن الرئيس الحالي لليونسكو الذي سيصبح السابق و يترك مقعده صباح الغد تقريبا كويشيرو ماتسورا لم يكن يعرفه أحد في مصر علي إلاطلاق حتي مثقفو مصر ورجالات إعلامها، فضلاً عن أن أفراد الشعب لا يعرفون ماتسورا قطعًا وربما لا يعرفون اليونسكو أساسًا ولا دوره ولا فاهمين فيه حاجة. ومع ذلك فقد كسبنا فاروق حسني مرشحًا علي مقعد مدير اليونسكو وقد نجح الرجل في نظرنا (بصرف النظر عن النتيجة النهائية التي قد تكون عرفتها وأنت تقرأ بينما لم أكن أعرفها وأنا أكتب)، مرة أخري نجح ليه وبأمارة إيه؟ دعنا نقول إن فاروق حسني ـ وزير الثقافة ـ مختلف عليه لأكثر من سبب : فهو أولا وزير في نظام مستبد ومزِّور للانتخابات ثم هو ثانيا مكث اثنين وعشرين عامًا فلو أخطأ ثلاث مرات في السنة علي الأقل فقد أخطأ ستة وستين خطأ كفيلة بأن يكرهه البعض ويعارضه البعض ويختلف عليه البعضان! ثم هو ثالثا وزير في دولة يسودها النفاق ويرتع فيها المنافقون وبعضهم تسلل إلي أذنه وآخرون سكنوا في رأسه ومن الطبيعي والحال هكذا أن يقدم الوزير فاروق حسني علي خطوات في دروب مليئة بالحفر والأفخاخ ينفجر بعضها فينا وبعضها فيه وآهي ماشية، وعن نفسي فأنا أحب الإنسان الفنان الوزير (بالترتيب) وأختلف مع الوزير الفنان الإنسان (بالترتيب) واحترمت صراحته ووضوحه بشدة منذ أعوام حين تحدث لي عن الجريدة التي أصدرتها وزارته (جريدة القاهرة التي يتولي رئاستها الكاتب المرموق أستاذنا الكبير صلاح عيسي) فقال لي الوزير: إنها جريدة كويسة جدًا وأولاد الرئيس بيقروها ومبسوطين منها جدًا، واضح هو وذكي في سوق سياسية لا تسمح بالاستمرار سوي لمن يفهم قواعد البيع والشراء فيها، كما أن الرجل استطاع التعامل مع كل الملل والنحل من مثقفي مصر، فتراه صديق ووزير اليساري والعلماني والمحافظ والتقليدي واليميني التطبيعي والفالت الطليعي والمريض الخٌلل والمفكر المخلص والمثقف الشبيه بالمخلص الجمركي، كلهم في دائرة اهتماماته وتعاملاته خسر منهم كثيرين وكسب منهم أكثر بحكم الوقت الطويل الذي تولي فيه الوزارة وبحكم ذكائه ودهائه ومرونته. عندما ننتبه أن فاروق حسني هو وزير ثقافة حسني مبارك فساعتها سوف ترتفع قيمة فاروق حسني وتقييماتنا؛ فالرجل وزير ثقافة في عصر الثقافة الوحيدة المسموح بها هي ثقافة المال والتربح والولاء والطاعة وكراهية الفكر والحض علي تعطيل العقل والتفكير وسحق العقلية المبدعة وإهدار قيم الأدب والثقافة بل الأخلاق، ومن ثم فالحصاد الذي قدمته وزارة الثقافة في عصر حسني الوزير حصاد يدهشك أنه تم في عصر حسني الرئيس الذي ما كان ليشهد ثقافة كي يشهد لها حصادًا! قد توافقني علي ذلك أو تكون ضد ذلك نفسه. لكن أظن ما حدث مع انتخابات اليونسكو قد ضاعف من تقديري لذكاء فاروق حسني ومن تقييمي لأدائه وعطائه. هي معركة لم يخترها فاروق حسني بل دفع لها دفعًا، فلا كان في دماغه ولا علي باله الترشح لهذا المنصب ولا طلبه ولا فكر فيه أصلا لكنه كان تكليفًا من الرئيس مبارك وفكرة تحمس لها مَنْ في قصر الرئاسة ووجد فاروق حسني نفسه مطالبًا بالموافقة والتحمس لها كذلك . ثم عندما انتقلت المعركة علي شخص الرجل وسلوكه إلي الساحة الدولية ووجد نفسه تحت قذف الرصاص الإسرائيلي والأمريكي فإن الرجل (مع الاعتبار الأكيد للدور الشخصي والمباشر للرئيس مبارك هنا في دعمه والدعاية له والضغط من أجله) خاض معركة ضد أجهزة عالمية إعلامية سياسية أخطبوطية مخيفة وتملك خبرة في التشويه والتشويش علي أي شخص أو شخصية، ومع ذلك فهناك قدر من المرونة والذكاء والحربائية تمتع بها فاروق حسني في المعركة، وهي من مستوجبات أي معركة من هذا النوع، استثمر فيها خبراته القديمة في خدمة السياسة القومية لمصر في الخارج ومشاركته في عمليات خطيرة لخدمة أمن هذا الوطن، استثمرها في اللعب مع المؤامرات وتفادي الألغام والقفز فوق الأفخاخ والتراجع المحسوب والرجوع المدروس ثم التنازل الإعلامي من أجل الدعاية وتحمل الانتقادات الحادة والجارحة في الداخل والخارج، ثم قدرة أخري تتجلي في اختراق وسائل الإعلام الأوروبية والظهور بمقالات هنا وهناك وندوات وحوارات وزيارات، كل هذا فيه من ذكاوة نادرة علي السياسيين المصريين بل علي السياسة المصرية أصلا، وهو ما يفشل فيه مثلاً وزير خارجيتنا أحمد أبو الغيط فشلاً مزريًا ومثيرًا للشفقة، وما يجهله تماما وزير إعلامنا أنس الفقي الذي لا يعرف كيفية إدارة معركة مع رؤساء أندية من لاعبي
- الدستور الكرة المعتزلين ولا يملك نفوذًا علي أحد إلا رؤساء المحطات الفضائية المصرية الذين يخشون تدخله في برامجهم أو الشكوي لأمن الدولة من مذيعيهم، ثم تري فاروق حسني يخوض معركة شرسة لا سبيل لمقارنتها بمعركة تنظيم مصر لنهائيات كأس العالم لعام 2010 علي أرضها الذي لم يستطع وزير مثل عليَّ الدين هلال توفير صوت واحد لمصر فيها وحصوله علي الرقم الشهير الذي يليق بإعلام الحزب الوطني وهو صفر (أنا لا أنسي أن الدكتور عليَّ الدين هلال علمني كما علم المئات من أجيالنا العلوم والنظريات السياسية لكن يبدو أنه هو الذي نسي ما علمنا إياه بينما مازلنا مخلصين لما تعلمناه منه). إذن عند مقارنة معركة فاروق حسني وقدرته علي إدارتها والنتائج الممتازة التي حصل عليها في كل مرحلة تصويت انتخابي لمقعد مدير عام اليونسكو بهؤلاء الوزراء ومعاركهم تتأكد أن فاروق حسني نجح بل نجح باقتدار! صحيح أنه مما يصدمك أن مصر مبارك التي كثيرا ما تصدع دماغنا بعلاقاتها الدولية الرائعة مع أوروبا ومتانة واستراتيجية علاقتها مع أمريكا وهذا الإعجاب المدله الذي يبديه الرئيس مبارك بالرئيس باراك أوباما، وهذا الكلام الكثير عن مكانة مصر في العالم التي تستمدها من الرئيس مبارك العالمي ومع ذلك فالعالم الغربي الأوروبي والأمريكي وقف بقوة وعنف وفظاظة ضد مرشحه المصري وكأن هناك عداوة مريرة مع نظام مبارك وليس هيامًا متبادلاً كما أفهمنا إعلام الرئيس. ولم يسعفنا الغرام المزعوم الواضح أن أوروبا ليست مقتنعة بأن تسلم تراث العالم وآثاره وثقافته لشخص عربي وهو ما يفسر كذلك كيف أن أوباما يضحك علي العرب والمسلمين بالخطب بينما في التصويت يقف ضدهم وكل هذا في هذه المعركة علي منصب لا يعني لأحد أي شيء وليس له أي مردود علينا، الذين أسعفونا وساندونا هم الدول العربية والأفريقية.،عندما يتأمل الرئيس ورجاله هذه المعركة التي نجح فيها فاروق حسني (بصرف النظر عن النتيجة النهائية) فلابد أن نتعلم منها جميعا أن زيارات الرئيس واهتمامه الفائض عن الحاجة بأوروبا وأمريكا لم يثمر وقوفًا إلي جانبه وجانبنا وأنها لا تشكل حليفًا حقيقيًا لنا ولا له وأن الدرس الذي يجب علينا جميعا أن نستوعبه وأوله رئيسنا أن أفريقيا والعرب هم محيطنا الاستراتيجي ولا يصح أن يكونوا في منزلة أقل ولا اهتمام أدني ولا عند درجة حب أضعف من غرامنا بالبيت الأبيض والبيوتات الأخري في أوروبا ولنلتفت قليلاً وكثيرًا لأكواخ أفريقيا وخيم العرب فهي حضننا وحاضنتنا! لكن الدرس الأخير الذي لا يقل أهمية أننا حين نرشح أحدًا لمعركة مقبلة لابد أن نتأكد أنه يملك ملكات وقدرات فاروق حسني علي إدارة المعارك فهو ينجح فيها حتي لو كانت النتيجة النهائية ليست كذلك بعيد الشر!!
نقلا عن موقع جرنالى