صحيح أننا نريد إعمار الصحراء، لكن لا يصح أن يكون هذا الإعمار سبيلا للاستفزاز الطبقى الفارغ من المضمون، وصحيح أننا لا نريد الأرض بائرة، لكننا لا نريد أن تكون الأرض خصبة للأغنياء، شحيحة على البسطاء من أبناء البلد
قرأت إعلانا ساحرا عن مدينة ساحرة مساء أمس فى صحيفة الأهرام، الإعلان يدعو بكل بساطة إلى أن تبدأ حياتك خارج القاهرة، وسط الصحراء فى أقصى أطراف القاهرة الجديدة، بأسعار تبدأ من مليون وأربعمائة ألف جنيه، لاحظ هنا أن الأسعار تبدأ من هذا الرقم الخلاب الناعم، المكون من أكثر من ستة أصفار، وهو ما يعنى بنفس البساطة أن الحدود القصوى لأسعار الوحدات السكنية قد تتجاوز 15 أو 20 مليونا على الأقل فى نفس المدينة الصحراوية الجديدة.

الإعلان يخص شركة إعمار الإماراتية التى تعرضت فى الفترة الأخيرة لهزات بالغة العنف من جراء الأزمة المالية العالمية التى ضربت اقتصاديات دبى فى مقتل، والمدينة المعلن عنها تحمل اسما غير عربى هو (ميفيدا)، أى أن الأرض مصرية، والشركة إماراتية، والاسم إسبانى صميم، والأرقام تبدأ بقفزة مليونية طاحنة.

أسأل هنا فقط عن تأثير هذا الإعلان على شاب حديث التخرج فى إحدى كليات القمة فى الجامعات المصرية كالطب أو الهندسة أو الاقتصاد والعلوم السياسية أو الإعلام، يحفر الأرض بحثا عن عمل يضمن له الحد الأدنى من الدخل، ليعلن نفسه رجلا للمرة الأولى، ويتوقف عن تلقى المصروف الشهرى من والده، ثم تصدمه الشركات العقارية المصرية بهذا الاستفزاز الهستيرى بأن الحد الأدنى الذى يمكن أن يضمن له أحلامه، لن يقل بأى حال عن مليون وأربعمائة ألف جنيه؟

وأرجوك أن تلاحظ هنا أيضا أن هذا الرقم المليونى لن يشمل التشطيب، أى أنك ستحصل على وحدتك السكنية (محارة وحلوق) فقط، وبالتأكيد أن المليون والأربعمائة ألف جنيه لن تضمن لك إلا شقة (قبلى)، لأن الوحدات البحرية ستضاعف هذا السعر إلى 2 مليون تقريبا، أما الفيلات فستبدأ من 5 ملايين، وتنتهى بعشرين مليونا بلا شك، أى أن أى شاب إذا نجح فى سرقة مطبعة البنك المركزى، كما فعلت السيدة موظفة البنك قبل عدة أشهر، فلن يستطيع تغطية سعر شقة فى القاهرة الجديدة منحت الدولة أرضها الصحراوية إلى شركة إماراتية، وقررت الشركة المأزومة أن تعوض الخسائر التى تعرضت لها فى الماضى، بفرض هذه الأسعار الصادمة للوحدات.

قد تقول الشركة إنها لا تبنى هذه الأرض للفقراء والمعدومين من خريجى الجامعات المصرية، وإنها تستهدف نخبة مميزة من الفئة السوبر من أثرياء مصر، وإنها تبيع فيلات وقصورا ولا تبيع وحدات سكنية لمحدودى الدخل، وهنا أسأل أيضا: هل يجوز فى بلد هذا حاله، أن تبيع الدولة الصحراء تحت شعار التنمية والتعمير، ثم يكون مصير الناس فى البلد أن تخصص هذه المساحات الشاسعة للفيلات والقصور، وهل يجوز أيضا أن يصل الاستفزاز إلى هذه الدرجة التى يرى فيها الخريجون البسطاء، والعائلات المطحونة، تجمعات بالغة الفخامة إلى هذا الحد، فى حين لا يستطيع أى من أبناء هذه العائلات الحصول على قطعة أرض فى قلب الصحراء، لبناء مسكن صغير لعائلته، يستر حياتهم ويؤمن مستقبلهم.

وأسأل أيضا إن كانت شركة إعمار توجه هذه الأسعار المليونية لفئة محدودة من (السوبر أغنياء) فى مصر، فلماذا تضاعف حالة الإحباط والاحتقان بنشر هذه الإعلانات فى الصحف، لنصدم بها أعين البسطاء من الناس، ونقضى فيها على آمالهم فى حياة أفضل، لأن الحياة الأفضل تحتاج إلى هذه الملايين الطائلة، كان من الأسهل على شركة إعمار أن ترسل صور هذه المدينة ذات الفخامة الأسطورية بالبريد إلى بضعة آلاف من الذين يكتنزون الذهب والفضة، ويبنون قصورا من زخرف على أرض الصحراء فى مصر.

حرام هذه الأرقام الأسطورية التى تقتل كل أمل لدى الشباب فى مصر، حرام أن يظن أبناء هذا البلد، أنه لا أمل لهم فى حياة من هذا الطراز، إلا إذا سرقوا مطابع البنك المركزى، أو غرقوا فى بحار الرشوة أو الاتجار فى المخدرات، لأنه لا أمل لطبيب شاب فى مكان داخل هذه المدينة ذات الاسم الإسبانى، وأنه لا أمل لمهندس شاب فى أن يتحصل على مليون وأربعمائة ألف جنيه، ليحصل على فرصة فى سكن رفيع المستوى بهذا الحجم.

وحرام أيضا على من يوزعون أراضى هذا البلد، أن يلتزموا الصمت حيال هذه الاستفزازات التى قد تؤدى حتما إلى نتائج غير مأمونة على حالة الاستقرار الاجتماعى فى مصر، صحيح أننا نريد تنمية أرض مصر، لكننا لا نقبل بأن تكون هذه التنمية لغما يهدد آمال الفقراء فى البلد، وخنجرا فى خاصرة سلامة المجتمع نفسيا، وصحيح أننا نريد إعمار الصحراء، لكن لا يصح أن يكون هذا الإعمار سبيلا للاستفزاز الطبقى الفارغ من المضمون، وصحيح أننا لا نريد الأرض بائرة، لكننا لا نريد أن تكون الأرض خصبة للأغنياء، شحيحة على البسطاء من أبناء البلد، ولا نريد أن تهدر ثمار التنمية على الأسمنت المسلح فى قصور مترفة، فيما الناس يجوعون على أطراف المدن فى الأحياء الفقيرة.

من كان منكم قادرا على أن يدفع ثمنا لوحدة سكنية تبدأ من مليون وأربعمائة ألف جنيه، فليتذكر أن هناك من لا يستطيع سداد مائة جنيه فقط لشقة إيجار جديد فى أرض اللواء، ومن كان منكم من أصحاب القرار فى هذا البلد، فليتصور كيف يمكن لمواطن بائس الحال، معدوم الأمل، أن يقرأ هذا الإعلان، ويرى صحراء بلاده من حوله تتحول إلى واحات للأثرياء، فيما لا يملك هو من أمر أرض بلاده شيئا، بل ولا يملك من عوائد هذا النمو العمرانى درهما أو دينارا.

بجد حرام.
مقال منقول