عن الغلاء والوباء والكوارث والمحن ـ د.أيمن محمد الجندي

د.أيمن محمد الجندي : بتاريخ 10 - 3 - 2008

لا أحد يجادل في أن موجة الغلاء الحالية تسببت في هبوط معظم الشعب المصري درجات في مستواه المعيشي وسلمه الطبقي ، بل أصبح يهدد الوجود البيولوجي ذاته للطبقات المدقعة .والمؤكد أن غلاء المعيشة دعوة صامتة للسرقة ، أما غلاء العقارات فهو دعوة مؤكدة للانحراف ..رسالة بليغة وصلت للشباب تقول أنه لا توجد إمكانية مستقبلية للزواج وتكوين أسرة ولذلك تصرفوا بمعرفتكم ..هذا هو التهديد الحقيقي للأمن القومي المصري أيا كان تعريفه عند السادة المهمين أصحاب الياقات العالية .
الكل يتحدث عن أزمة ، ولكنهم ينسون أن إدارة الأزمات علم وأخلاق ..لا يمكن أن تكون في موقع المسئولية ثم يكون همك الوحيد هو إنقاذ نفسك وأسرتك ناهبا من المال العام - الذي اؤتمنت عليه - ما استطعت.. عمر بن الخطاب لم يأكل إلا الزيت لعام كامل حتى انتهت محنة عام الرمادة ..كان بوسعه أن يأكل اللحم والثريد من ماله الخاص ولكنه- استشعارا لمسئوليته كخليفة للمسلمين- أكل طعام أفقر رجل فيهم ..
عند غرق السفن توجد قواعد متبعة ..أبسطها أنه لا يحق لقبطان السفينة النجاة منفردا ، بل يكون هو آخر من يحق له النجاة رغم أنه أول من يعرف الحقائق..همه الوحيد – في هذه الأوقات العصيبة – يجب أن يكون إنقاذ الركاب ..من أجل لحظة كتلك تقاضى أجره العالي وتمتع بسلطة مطلقة على سطح السفينة ..مهنة خطرة ولكن من قال أنها ليست كذلك ؟ ..هذه التقاليد لا تخص السفن العائمة فحسب بل تسري عند مواقع المسئولية في الدول المتقدمة التي يعتبر فيها الرئيس موظفا عند الشعب وليس سيدا لهم ..حينما تعرضت أمريكا لهجوم الحادي عشر من سبتمبر ، وعند الصدمة الأولى ، كان أول ما قاله الرئيس الأمريكي لمعاونيه " هذه هي اللحظة التي من أجلها تقاضينا رواتبنا من ضرائب المواطن الأمريكي " .
هذه التقاليد كانت عندنا قبل أن يتم اغتيالها على يد الملك العضوض .. منذ ألف وأربعمائة سنة طلبوا من عمر بن الخطاب أقوى حاكم في تاريخ الإسلام أن يفسر لهم كيف حصل على ثوب يناسب جسده الطويل ، ورفضوا أن يسمعوا ويطيعوا إلا حينما تبين لهم أنه حصل على نصيب ابنه عبد الله بن عمر من القماش ليكتمل الثوب.
...............
منذ قليل كنت أطالع جريدة الوسيط فهالني ارتفاع أسعار العقارات بما يتحدى دخل أي مواطن ميسور الحال..صار مألوفا أن يبلغ سعر الشقة متوسطة المساحة نصف مليون جنيه في المناطق العادية أم المناطق الراقية فيفوق المليون بعدة مئات من الآلاف ..يحدث هذا في بلد يعتبر من يجد عملا بخمسمائة جنيها محظوظا ..وليت شعري ما هو ذلك العمل الذي يؤمن لصاحبه مثل هذا المبلغ لبند واحد فقط وهو السكن ؟ وأي كلية مباركة يتقاضى خريجوها هذه الأجور الباهظة ؟ هل لديهم مطبعة خاصة للبنكنوت في منازلهم يطبعون من أوراق النقد ما شاءوا ؟ أم يوجد عدد هائل من الأعمام المنسيين في البرازيل يملكون الملايين كما كان يحدث في أفلام إسماعيل يس الفكاهية ؟
في كل الأحوال فإن هذا الوضع هو تهديد مروع للأمن القومي أيا ما كان يعنيه هذا المصطلح ، ويرتب أوضاعا خطيرة من العنوسة والانهيار الخلقي وارتفاع لمعدل الجرائم ..والسبب هو سيطرة رأس المال على الحكم وتولى رجال الأعمال وزارات من المفترض أنها تخدم الشعب .. بعبارة أخرى أعطوا القط مفتاح الكرار.
نفس الارتفاع المروع حدث في أسعار الأراضي الزراعية ..قل نفس الشيء عن المواد الغذائية ومستلزمات المعيشة التي تضاعفت خلال بضعة شهور ..والشعب يائس قانط مقهور ، يهبط درجة بعد درجة في سلم المعيشة والمستوى الطبقي ..نوع من الحراك الاجتماعي المشئوم شبيه بما حدث في سبعينيات القرن الماضي بعد تطبيق سياسات الانفتاح .
الشعب المصري تعرض في تاريخه الطويل لموجات متتابعة من شح الأرزاق وارتفاع الأسعار حتى وصل الأمر لأكل جثث الموتى والكلاب ، لكن هذا كان يحدث نتيجة لكوارث طبيعية مثل جفاف النيل وانتشار الأوبئة ..لا من أجل أن يصبح البعض مليارديرات فيما يتحول باقي الشعب لمتسولين .
.....................
هذا عن الغلاء أما عن الأوبئة فحدث ولا حرج..في أي مرجع طبي تمثل نسبة الفيروس سي في مصر علامة استفهام غير مفهومة لارتفاعها أضعاف المعدلات العالمية ..هذا غير سرطان الكبد الذي انتشر كسريان النار في الهشيم حتى تحولت عنابر المستشفيات لمجموعة منتقاة من مرضى السرطان ..فإذا أضفنا الفشل الكلوي لقائمة الأمراض التي نجمعها كهواة الطوابع وجدنا أنه لم يعد هناك أمن قومي من الأساس ..هذا ليس تشاؤما بل توصيف دقيق للواقع .
وهناك الكوارث ، كارثة في ذيل أختها ..نزيف الدماء على الإسفلت كل صباح ، غرق المعديات بما تحمله من أبرياء ، السفن بما عليها من ركاب ..القطارات تتصادم وكأنها العاب ملاه كهربائية يقودها أطفال أشقياء..
على المستوى الشخصي محن وأحزان..فقد أحبة ..خداع أقرباء ..تغير أصدقاء ..حاول أن تبحث عن إنسان سعيد في هذا الجو المسموم ودلني عليه إن استطعت !.
................
لا أود أن أكون طائر شؤم ..ولكن توصيف الأمور بأسمائها الحقيقية يجعلني أنعى إليكم مصر ..هي تبدو في عيني مثل سفينة غارقة .. توجد قوارب إنقاذ لكنها حكر على أصحاب الوجاهة والنفوذ الذين ستحملهم طائراتهم إلى الجانب الآخر من البحر المتوسط..أما سائر الشعب فيتساقط كلما مالت السفينة إلى هذا الجانب أو ذاك متشاجرين على سترات الإنقاذ المتبقية والقوارب القليلة على جوانب السفينة..
والحقيقة أن خبراتنا كريهة في موضوع غرق السفن بالذات..لو تذكرنا ملابسات حادثة غرق العبارة "السلام 98" التي حدثت منذ عامين لعرفنا لماذا لا يحق لنا أن نأمل بالنجاة ..مشكلة الشعب المصري أنه ضعيف الذاكرة سريع النسيان لذلك أذكركم بالخطوط العريضة لهذه الحادثة التي هي شاهد على العصر بامتياز ..حكاية واحدة لكنها تلخص العهد كله .
رجل واحد احتكر النقل البحري في البحر الأحمر ، له علاقات حالت دون إجراء تفتيش حقيقي على صلاحية العبارات ..وبفضل هذه الصلات حصد حق انتفاع مساحات شاسعة من الأراضي في ميناء سفاجا مقابل عشرة قروش للمتر !!..في المقابل لم يسدد لخزانة الدولة قرشا واحدا كضرائب ، هكذا ظهرت الحقائق وفاحت الروائح الكريهة بعد غرق العبارة .
كان لا بد للعبارة أن تغرق ، إن لم يكن عاجلا فآجلا وإن لم يكن اليوم فغدا ..كل شيء كان فاسدا وكريها ..وكان لا بد للبسطاء الذين يستخدمونها كوسيلة انتقال رخيصة نسبيا أن يغرقوا ، تلك هي طبيعة الأشياء .
لم يكن بالسفينة عدد كاف من قوارب الإنقاذ.. سترات النجاة كانت أقل من العدد المطلوب ..والسفينة تحمل ركابا أكثر من حمولتها ، وتحمل أيضا كميات هائلة من الوقود تزودت به من ميناء ضباء لاستخدامه في سفن أخرى لأنه أرخص من ثمنه في مصر !! ..وحينما اشتعلت النار في إحدى السيارات وتم ضخ الماء تبين أن المجاري مسدودة مما أدى إلى ميل السفينة . أتصل القبطان بمالك السفينة الذي رفض الاستنجاد بسفينة عابرة لأن القوانين البحرية تمنحه نسبة كبيرة من قيمة السفينة التي يتم إنقاذها ..وحتى حينما غرقت أعطى معلومات مغلوطة لأجهزة الإنقاذ لأن غرق العبارة يمنحه تعويضات التأمين ..
في ظل هذا الجو الخانق لم يكن غريبا أن يشهد الركاب فرار القبطان وطاقم السفينة مهرولين إلى قوارب الإنقاذ ثم شاهدوا البحارة يقذفون بالقبطان في البحر لسبب لن نعرفه أبدا ..هكذا حكي الناجون من الغرق ..
وفجأة وجدنا ممدوح إسماعيل يغادر البلاد من قاعة كبار الزوار ..بعدها تم تكييف القضية إلى جنحة ....ثم تبين أن الرجل يحمل الجنسية البريطانية ولذلك ذهب للندن محتميا بجنسيته .. أكون منافقا لو تكلمت عن محكمة التاريخ التي لا ترحم ..هذه كلها من أوهامنا الخاصة لنستطيع أن نتحمل حياة كريهة مهينة كتلك التي نحياها .الواقع أنه يعيش حياة رغدة مستمتعا بكل مليم اعتصره من جيوبنا ، يدخل ويخرج من مصر كما يشاء رغم أنف قوانين الترقب على قوائم السفر .
على هذا المنوال مر عامان وأكثر ، لم يصدر حتى الآن حكم على المتسببين في " جنحة " مقتل ألف مصري غرقا في البحر الأحمر !!.
.......................
عن الغلاء والوباء والكوارث والمحن أتحدث ..للمرة الألف أقول إنه الفساد ..أما الحل فلا أظن أنكم تتصورن أنني أملك حلا سحريا لكل هذه المصائب التي تراكمت عبر عقود طويلة ..لكن عذري أنني لست في موقع المسئولية ..أنا واحد من المحتشدين على سطح السفينة في طريقي لأن أكون – مثلكم- طعاما للأسماك ..أتشاجر معكم على سترات الإنقاذ المتبقية وقوارب النجاة القليلة ناظرا بعينين دامعتين إلى الفاسدين المفسدين الذين سرقوا أمل شعب في حياة كريمة ..ألعنهم وأدعو عليهم .
لست في سماحة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كي أدعو لهم مثلما فعل حينما رشقوه بالحجارة " اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "..ولكني سأدعو بما دعا به النبي موسى عليه السلام " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ". .
اللهم استجب.. اللهم آمين.
Elguindy62@hotmail.com