د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ" حال مصر و اهلها وقت أن دخلها الاسلام "
د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ(١ - ٧) .. لفائف البردى العربية
ردَّدتُ فى اختيار موضوع «السُّباعية» الجديدة، بين ثلاثة اختيارات تجول برأسى منذ أيام. الأول منها أن أكتب السباعية عن «أحوال المحبة» لأعرض من خلال المقالات لمفهوم الحب والمحبة فى تراثنا، الصوفى منه خصوصاً، ليستروح الناس فى غمرة الهوس الذى نعيشه حالياً نسمات روحية تؤكد أن الإسلام، كثقافة، يحفل بمحبة لا تقل عن مثيلتها فى أى دين، بل تزيد عن «المحبات» المزعومة، فى أنها صارت عند صوفية المسلمين وكثير من أعلامهم، سلوكاً فعلياً له تطبيقات حياتية، ولم تكن محض أقاويل وتهاويل لفظية، وعبارات محكية، ليس لها فى الواقع الفعلى أى دليل.
وكان الاختيار الثانى، المطروح، أن تكون السباعية بعنوان «باب الألقاب» حيث أطرح من خلال المقالات مدخلاً أراه مهماً لفهم تراثنا وطبيعة ثقافتنا الحالية، هو مدخل «أو بوابة» الألقاب. فهناك ألقاب تدل على عوالم رحيبة ومعارف كثيرة، من المهم أن نحيط بها. كأن تكون المقالة الأولى عن «الحشَّاشين» وهو اللقب الذى ألصقه بعض المؤرِّخين بجماعة الإسماعيلية «الشيعة» الذين عاشوا قديماً بقلعة «أَلمَوت» وكانوا يغتالون معارضيهم. وتكون بقية المقالات عن ألقاب: المملوك، الساسانى، النبطى.. وغيرها.
وكان عنوان هذه السباعية، هو اختيارى الثالث: تاريخنا المطوىّ.. وقد ربح عندى هذا الاختيار لأسباب، أهمها أن الكثيرين منا يعتقدون «وبالأحرى: يتوهمون» أن الماضى والتاريخ والتراث هى أمور بعيدة عن الواقع الفعلى الذى نعيشه هذه الأيام. وهم يظنون أن الانشغال بمشكلاتنا الحالية أهم بكثير من معرفة ما كان يوجد سابقاً، ويعتقدون أن الحاضر يختلف عن الماضى!
لكن هذه كلها توهُّمات، نتجت عن نظام التعليم الذى خاب مؤخراً فى بلادنا «العربية» واستبعد من التاريخ جوهره الحقيقى. وهو أنه مقدمة لابد منها لفهم الحاضر، وعنصر فاعل فى واقعنا المعيش، لا يمكن من دونه التعامل مع مفردات الواقع ومشكلاته، تعاملاً رشيداً. وإلا، فكيف نفهم سلوك الجماعات الإرهابية المعاصرة، من دون التعرف إلى جذور هذه الظاهرة فى تراث الخوارج ومتعصِّبى الحنابلة «وهم بالمناسبة قليلون جداً فى تراثنا» والطريقة التى كان المتأسلمون يستخرجون بها الفتاوى. وكيف نفهم «الغاغة» الحالية الزاعمة أن أقباط مصر مضطهدون! كأن المسلمين المصريين غير مضطهدين. وكيف نفهم ما يجرى اليوم من أزمة مياه النيل، لولا اهتمامنا بتاريخ العلاقة بين مصر ودول حوض النيل ومنابعه، ناهيك عن تراث هذه الدول والجماعات التى لا نكاد نعرف عنها شيئاً.
■ ■ ■
من هنا أقول، إن تاريخنا لا ينفصل عن الواقع، والتراث ممتد فى الحاضر، والمشكلات الكبرى لن تحل بطريقة «يوم بيوم» التى يلجأ إليها الجهلةُ، ظناً منهم أنها أسهل وأسرع وأبسط.. وتكون النتيجة أن تتراكم فى حاضرنا المشكلات، ويزداد جهلنا بنا.
وموضوع هذه السباعية سندخل إليه من باب «البرديات العربية» وهى اللفائف التى كانت منسية، ومطوية، حتى بدأ الأوروبيون الاهتمام بها فى النصف الأول من القرن العشرين، وجمعوها من أنحاء مصر وخرجوا بها إلى المكتبات الكبرى فى أوروبا، وظلت هناك إلى اليوم.. ويقال إن متحف فيينا، وحده، يقتنى حالياً أكثر من خمسين ألف بردية (مصرية) مكتوبة باللغة العربية! وفى دار الكتب عددٌ هائل من البرديات، لا يعلم عددها الحقيقى إلا الله.. ولكن ما هو البردى، أصلاً؟
منذ اكتشف الإنسانُ سرَّ الكتابة، وعرف أهمية الأبجدية؛ صار يدوِّن ما يريد أن يتركه للأجيال القادمة فى (أوعية) تضم النصوص. وكان أول وعاءٍ هو الحجر، وقد نقش الإنسان عليه كل ما أراد أن يبلِّغه للأجيال التالية. وفى حضارات العراق القديمة اكتشفوا طريقة بديعة هى المسماة «الكتابة المسمارية» وهى نقوش على ألواحٍ من الطين، الطرىّ، تجفَّف حتى تصير كالصفحات التى تبرز منها الحروف كرؤوس المسامير. وفى مصر القديمة، ابتكر العباقرة القدماء طريقة أبدع، هى شقُّ أعواد نبات البردى، اللزج بطبعه، ووضعها فى شرائح طولية متجاورة، عليها شرائح عرضية، ثم تلصق متخالفةً. فإذا جفَّ الاثنان، صارا كمثل الورقة التى نعرفها اليوم، وصارت وعاءً جيداً للكتاب.
وقبل اكتشاف العرب لصناعة الورق، كان البردى هو المستخدم فى الكتابة بأنحاء مصر وما حولها. وكانت الجلود تستخدم فى البلاد المجاورة التى لا ينبت فيه البردى، فإن كانت قطع الجلود مكتوباً فيها على حالها الطبيعى «بعد الدباغة» فهى الرقاع، المفرد رُقعة. وإن كانت الجلود معدة بشكل جيد، ومرقَّقة بعد دباغتها لتكون أرقَّ وأقل سمكاً، فهى الرُّقوق، المفرد رَقّ.
■ ■ ■
وقد لفت نظرى إلى أهمية النظر فى تاريخنا المطوى فى لفائف البردى العربية، ذلك الكتاب الذى نشره د. جاسر أبوصفية قبل سنوات قليلة، بعنوان «برديات قُرة بن شريك العبسى» وقبله بقليل كان الصديق د. سعيد مغاورى يكتب كثيراً عن أهمية البرديات العربية، ولا يكف عن الشكوى من إهمالنا لها. وقبله بكثير كان المستشرقون الأوروبيون من أمثال جروهمان «وغيره كثيرون» يقدمون نصوصاً مذهلة من تراثنا المحفوظ فى البرديات العربية.
وبطبيعة الحال، فإن أوراق البردى التى ظلت وعاءً للكتابة لمدة ألفىْ سنة، أو أكثر، كانت اللغات المكتوب بها تتغير بحسب المراحل التاريخية. ففى دول مصر القديمة المسماة اعتباطاً «الفرعونية» كانت الكتابة على البردى باللغة المصرية المقدسة المسمَّاة اعتباطاً أيضاً «الهيروغليفية» وفى مرحلة تالية، كانت الكتابة على البردى باللغة العامية المصرية المسماة اعتباطاً «القبطية» وما هى إلا مزيج من العامية المصرية «الديموطيقية» واليونانية القديمة. وباليونانية كانوا يكتبون على البردى، حتى حكم العرب مصر باسم الإسلام.. بعدما كانوا يعيشون فى مصر فى جماعات كبيرة جداً، قبل الفتح «الغزو» الذى قام به الفاتح البديع: عمرو بن العاص، فصاروا من بعد ذلك يكتبون على أوراق البردى، باللغة العربية التى صارت «اللغة الأم» لمصر والمصريين، منذ أكثر من ألف عام.
■ ■ ■
وأعتقد من جانبى، أن أول نصٍّ مهم كتب على البردى باللغة العربية، وتم توزيعه على نطاق واسع فى مصر، ليعلم به الجميع، هو «عهد الأمان» الذى أطلقه عمرو بن العاص للأنبا بنيامين، فى السنة الأولى من تاريخ مصر العربية «=١٨ هجرية = ٦٤٢ ميلادية = ٣٥٨ للشهداء = ٦٣٤ القبطية الإثيوبية = ٤٤٠٢ لآدم التوراتى».. ولهذا النص قصة، سنورد ملخصها قبل أن نورد النص الكامل لعهد الأمان:
قبل الغزو «الفتح» الإسلامى لمصر، كان المسيحيون الملكانيون «الروم الأرثوذكس» يحكمون البلاد، ويسومون المسيحيين اليعاقبة «الأقباط!» سوءَ العذاب. وفى خريف سنة ٦٣١ ميلادية جاء لحكم مصر الأسقف البشع «قيرس» الذى سماه العرب أو المصريون «المقوقس» لأنه من بلدة فاسيس، بالقوقاس «القوقاز» وقد أراد هذا الرجل الفظيع الذى كان يستر قبحه بالملابس الكنسية الموشاة، ويخفى شناعته بصولجان الأسقفية وبالصليب الذهبى؛ أن يصير «المذهب» المسيحى فى مصر مذهباً واحداً. ولم يعرف أن «المذهب» عند العامة أهم من الديانة نفسها.
وكان رئيس المسيحيين المصريين اليعاقبة «الغلابة» آنذاك، هو الأسقف بنيامين. وهو رجلٌ طيب، مسكين، متواضع. وكان رئيس المسيحيين المصريين الملكانيين «الأغنياء» هو الأسقف صفرونيوس. وهو رجل طيب أيضاً، مسكين، ومتواضع.. وجاءت الأخبار تقول إن قيرس «المقوقس» جاء ليضغط على اليعاقبة والملكانيين، ويجعلهم على مذهب مسيحى بائس، مخترع ومفبرك، يسمى المونوثيلية، أى مذهب الإرادة الإلهية الواحدة، بصرف النظر عما إذا كان المسيح عليه السلام هو ابن الله أو ابن الإنسان.
كان الأسقفان فى مأزق خطير، لأن قيرس «المقوقس» معروف عنه البطش والعنف. وكانت دماء اليهود تملأ العالم، بعد المقتلة الهائلة التى قام بها الروم وأساقفة الشام وإيلياء «أورشليم= القدس» عقاباً لهم على ما زعمه البعض من مساعدة اليهود للروم.. كانت الأجواء ملتهبة، ومنذرة بالمريع من أمور الشر المستطير. فماذا فعل الأسقفان؟
هرب الأسقف بنيامين، واختفى بوادى النطرون أو بالصعيد.. وذهب الأسقف صفرونيوس إلى قيرس «المقوقس» ليرجوه أن يصرف نظره عن تعميم المذهب الجديد. رفض المقوقس، فارتمى صفرونيوس عند أقدامه وبكى بالدموع والدم «كما يقول المؤرخ القديم، ساويرس بن المقفع» ولكن المقوقس رفض.
ورفض المصريون المسيحيون، الملكانيون واليعاقبة، المذهب الجديد.. فقام المقوقس بنشر الرعب فى أنحاء البلاد، وقتل عشرات الآلاف من الناس، حتى جاء عمرو بن العاص. وكان الأسقف بنيامين، لا يزال هارباً مختفياً، رغم مرور أكثر من عشرة أعوام، عانى فيها أهل مصر من ويلات المقوقس. فلما استقر الأمر بيد المسلمين، أراد عمرو بن العاص أن تستقر أحوال الرعية، فأقرَّ الملكانيين على كنائسهم وأديرتهم، ومنها أهم وأقدم كنيسة ودير فى مصر إلى اليوم «دير سانت كاترين، بسيناء» وأقرَّ اليعاقبة الذين سماهم العرب والمسلمون بعد ذلك بالأقباط، على كنائسهم وأديرتهم. وقالوا لعمرو بن العاص، إن رئيس اليعاقبة هاربٌ منذ سنين، ومختفٍ، فكتب ابن العاص الوثيقة التالية، وأمر أن تُكتب وتعمَّم على جميع أنحاء البلاد، حتى عاد بعدها بنيامين الأسقف، وصارت له بطريركية خاصة به.. وها هى «عهود الأمان» التى انتشرت نسخ كثيرة منها آنذاك، وتوزَّعت بردياتها التى حفظت لنا نصها، وتناقلها المؤرخون المسيحيون والمسلمون من أمثال ساويرس بن المقفع، والطبرى، وابن كثير، والمقريزى، وقد جاء فيها:
هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان، على أنفسهم وملتهم وكنائسهم وصُلُبهم وبرهم وبحرهم. لا يدخل عليهم شىء من ذلك، ولا يُنتقص، ولا يُساكنهم «النوب».
وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح.. فإن أبى أحد منهم أن يجيب رُفع عنهم من الجزاء بقدرهم. وذمتنا ممن أبى بريئة.. وأينما كان بطريق «بطرك» القبط بنيامين، نعدُه الحماية، والأمان، وعهد الله. فليأت البطريق إلى هاهنا، فى أمان واطمئنان، لِيَلِى «يتولى» أمر ديانته، ويرعى أهل ملته.
■ ■ ■
وتعليقاً على هذا النص، يقول القس الباحث د. ألفرد بتلر فى كتابه الشهير «فتح العرب لمصر» الذى ترجمه لنا محمد فريد أبوحديد: لم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين، فعاد من مخبئه ودخل إلى الإسكندرية دخول الظافر، وفرح الناس برجوعه بعد أن بلغت مدة غيابه ثلاثة عشر عاماً، منذ هجر «البطرخانة» وهرب إلى الصحراء الغربية عند قدوم قيرس. ومن هذه المدة عشر سنين وقع فيها الاضطهاد الأكبر للأقباط على يد قيرس «المقوقس» والثلاث الباقية كانت فى ظل حكم المسلمين.
وكان بنيامين فى كل هذه المدة يتنقل خفية بين أصحاب مذهبه، أو يقيم مخبأً فى أديرة الصحراء. وإنه لمن الجدير بالالتفات، أن هذا البطرك الطريد لم يحمله على الخروج من اختفائه.. إلا عهد أمان لا شرط فيه «انتهى كلام ألفريد بتلر، وانتهت المقالة الأولى من هذه السباعية!».
===================
د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ (٢-٧) .. العربية والقبطية فى البرديات المصرية
كنتُ أعتقد أن الكلام فى (البرديات) لا يهم الكثيرين، لكننى فوجئت بتعليقات كثيرة على مقالتى السابقة (لفائف البردى العربية) وهى المقالة الأولى من هذه السباعية.. وفى تعليق منها، قال لى صديق (عزيز) أشياءَ تشبه الاتهامات، ملخصها أننى منحاز للثقافة العربية، ولذلك لم أذكر البرديات المكتوبة باللغة القبطية، واكتفيتُ بالكلام عن مثيلاتها المكتوبة بالعربية، مع أنها أقل عدداً وأهمية! وأننى متحامل على التاريخ الحقيقى الموجود فى الكتب، ومهتم بنصوص البردى التى لا تدل على شىءٍِ مهم! وأننى أميلُ إلى عمرو بن العاص، وأذكر محاسنه دون مخازيه، مع أن هذا الرجل وصفته المصادر المسيحية العربية بالمفترس، ومع أن أمه كانت تلحق بسيرتها المخازى.. هكذا قال.
ولأن هذا المعترض (عزيز) ويعبِّر عن رأى البعض ممن يتوهمون أنهم يعرفون تاريخ هذا البلد، فلسوف أتوقف فى هذه المقالة عند تعليقاته، أو بالأحرى: اتهاماته. ثم أتابع كلامى عن نصوص البرديات العربية، مع مقالة الأسبوع القادم التى سأتحدث فيها عن برديات قُرة بن شريك العبسى، ورسائله إلى (بسيل) لأنها فيما أرى، على درجة كبيرة من الأهمية.. وفى ذلك أقول:
أما اتهامى بالانحياز إلى الثقافة العربية، فهو أمرٌ أراه غريباً، لأن هذه (الثقافة) هى التى تجمع فى واقع الأمر بين أبناء هذا البلد والبلدان المجاورة له، ولأن «اللغة» هى أول ملمح من الملامح الثقافية لأى جماعة إنسانية، فلا معنى لاتهام شخص بأنه منحاز إلى ثقافته.. يقول محمود درويش فى قصيدة له:
ما دلَّنى أحدٌ علىَّ
أنا الدليلُ.
من أنا؟ هذا سؤال الآخرين،
ولا جواب عليه.
أنا لغتى
وقد اعتقد البعض، وهماً، أننى ضد ما يسمونه التاريخ القبطى لمصر، وهو أمرٌ أراه مضحكاً ودعائياً وغير قويم. صحيح أن هناك خلافاً فى الرأى (وقضايا قانونية) مع بعض رجال الكنيسة المسماة اليوم بالقبطية، لكن هؤلاء لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليد الواحدة، وإن أردت الدقة فهم بالتحديد ثلاثة أشخاص لا غير. لكنهم يبهرجون على الناس، ويدعون أنهم (الثلاثة) هم الممثلون للديانة المسيحية، وبالتالى فإن خلافى مع المسيحية ذاتها! وهذا مكرٌ شديد يعلم الله أنه محض ادِّعاء.. وهؤلاء (الثلاثة) الحريصون على تأجيج نار الاختلاف، لأغراض فى نفوسهم، يستعملون اللغة العربية فى هجومهم الدائم على كتاباتى، بل هددنى كبيرهم هذا (المعروف) مستخدماً فى تهديده الصيغ العربية/ الإسلامية، التى من نوع «إن غداً لناظره قريب».. لا بأس، لكن المهم هنا أن الذين يطرحون أنفسهم كمعارضين للثقافة العربية فى مصر يستعملون فى واقع الأمر، أهم ملمح ثقافى عربى: اللغة.
ومن ناحية أخرى، فليس هناك فى واقع الأمر شىء اسمه (اللغة القبطية) وإنما هى خرافة تكررت فى السنوات الأخيرة على مسامع المساكين، حتى ظن هؤلاء أن هناك حقاً ما يسمى باللغة القبطية! والأمر صوابه الآتى:
فى بدايات مصر (القديمة) كان الناس يستعملون لغتين، الأولى فى الكتابات المقدسة بالمعابد، وهى التى أسماها اليونانيون (اللغة الهيروغليفية) وهى لغة معقدة، عميقة. والأخرى مخففة بسيطة، استعملها الناس والكهنة (كهنة آمون) وسُميت باليونانية: الهيراطيقية.. وقد تزامن استعمال اللغتين فى مصر القديمة (جداً) فكانت الهيروغليفية هى اللغة الرسمية المقدسة التى نقشت على المسلات والجدران، والهيراطيقية هى اللغة المستعملة فى الحياة اليومية، وكانت تكتب على أوراق البردى.
وفى حقيقة الأمر، فالهيروغليفية والهيراطيقية ليستا لغتين، وإنما هما طريقتان فى الكتابة. ولكن كثيرين ظنوا أنهما لغتان مختلفتان، وهذا غير صحيح، لأن اللغة فى حقيقة أمرها، هى (الأصوات) التى يستعملها الناس، وهناك فرق بين المنطوق (اللغة) والمدوَّن (الكتابة) فقد تتغير طريقة الكتابة، وتبقى اللغة على حالها. مثلما حدث فى تركيا بعد ثورة أتاتورك، حيث كان الأتراك يكتبون لغتهم بالحروف العربية، ثم صاروا يكتبونها بالحروف اللاتينية.. لكن (اللغة التركية) بقيت كما هى على الحالين.
وفى القرن السابع قبل الميلاد، استعمل الناس فى مصر، طريقة أخرى فى الكتابة، هى التى صارت تسمى (الديموطيقية).. وفى القرن الثالث قبل الميلاد، تطورت هذه الطريقة وصارت تسمى اعتباطاً (القبطية) وهى تسمية لا دلالة لها، لأن (قبطية) تعنى مصرية! وهذه كلها خطوط مصرية (قبطية).
وما يجب أن ننتبه إليه هنا هو أن هذه (اللغة) أو بالأحرى (طريقة الكتابة) ظهرت قبل ظهور المسيحية بثلاثة قرون من الزمان! لكن كثيرين منا اليوم، نحن المصريين، يعتقدون أن هذه (القبطية) هى لغة الكنيسة، ويقوم بعضهم بأمر مضحك، هو التكلم بها فى بيوتهم! ظناً بأنهم ما داموا مؤمنين «الإيمان القويم» فإن الواجب عليهم أن يتكلموا هذه اللغة المزعومة! وقد خدعهم بعض رجال الدين، وشجعوهم على هذا الفعل. وكتموا عنهم أنها (لغة) لا ارتباط لها بالدين، وهى فى حقيقة الأمر- وبحسب مصطلحاتهم- لغة وثنية بدأت قبل ابتداء (الديانة) بزمن طويل.. ولو أراد هؤلاء (المتدينون الجدد) أن يستعملوا لغة دينية مسيحية، فعليهم التكلم فيما بينهم باللغة الآرامية (السريانية القديمة) لأنها اللغة التى تحدث بها السيد المسيح.
والآرامية (السريانية) لغة، واليونانية لغة، والعربية لغة.. أما هذه القبطية المزعومة، فهى ليست لغة أصلاً. وإنما هى طريقة فى الكتابة، لجأ إليها المصريون (الوثنيون) بعد الاحتلال اليونانى لمصر، واستقرار الحكم البطلمى فيها.. وهى كنظام كتابة (ملفق) يضم أربعة وعشرين حرفاً يونانياً، وسبعة أحرف مصرية قديمة.. واستعمل الناس هذه الطريقة فى الكتابة حتى مرت عدة قرون، ثم دخل المصريون كغيرهم من الشعوب المجاورة فى الديانة المسيحية. وفى الإسكندرية (آهٍ من الإسكندرية) ربط رجال الدين المسيحى، فى القرن الثالث الميلادى، بين الديانة وهذه الطريقة فى الكتابة.. وفى منتصف القرن الخامس الميلادى، غضب رجال الكنيسة فى مصر على كنيسة اليونان (الملكانيين = الروم الأرثوذكس) فقرروا أن يستعملوا فى الصلوات وكتابة الأدعية الدينية اللغة القبطية! فتأكد فى نفوس الناس الوهم القائل إن هذه المسماة (اللغة القبطية) هى لغة دينية.. ومع تكرار الوهم على الأسماع، ظن الناسُ أن الوهم حقيقة.
وفى الحقيقة، فأوراق البردى لا تضم فى معظمها نصوصاً قبطية، مثلما توهَّم المعترض. بل أقل القليل من البرديات، هو الذى كُتب بالطريقة المسماة (القبطية)..فضلاً عن أن المصريين فى الزمن المسمى اعتباطاً (القبطى) لم يقدموا أى إبداعات أو نصوصاً علمية أو أدبية أو فكرية، حتى تضمها البرديات المصرية المكتوبة فى هذه الفترة.. ولا نكاد نجد فيها إلا الأناجيل (الرسمية والممنوعة) والصلوات والأدعية.
■ ■ ■
أما قول المعترض، إننى متحامل على التاريخ الرسمى وميَّال إلى عمرو بن العاص. فجوابه الآتى:
أما التاريخ (الرسمى) فهو ملىء بالأكاذيب والتلوينات التى تخدم مصالح الذين كتبوه والذين يروِّجون له.. وأذكر هنا قول العلامة (سليم حسن) فى مفتتح موسوعته البديعة (مصر القديمة) حيث يقول ما نصه: «هذه محاولة جريئة أردت بها أن أجمع فى مؤلف واحد، تاريخ شعب عريق قديم له عقيدته وفلسفته فى الحياة، وله ثقافته ونظامه وطرائق معيشته، ولم أتخذْ من تاريخ (الفرعون) نموذجاً لتاريخ شعبه، كما جرت العادة بذلك فى الكتب. ولم أجعل حياته وعاداته ونظمه وثروته ومعتقداته مقياساً للحكم على أحوال رعيته. بل جعلت حال الشعب أساساً لما كتبتُ. وفى ذلك ما يقربنا من الحقيقة، ويجنِّبنا مزالق الخطأ والضلال».
إذن، كان سليم حسن يقدِّم (التاريخ الحقيقى) لا الرسمى المزيف الذى صار هو القاعدة فى زماننا الحالى، حيث الوعى العام (البائس) الذى يظن أن صلاح الدين الأيوبى هو الممثل (أحمد مظهر) ويظن أن قطز وبيبرس وشُنقر الأشقر هم (أبطال) عين جالوت! مع أن البطل الحقيقى كان العزَّ بن عبدالسلام.. ويظن .. ويظن.. والظنُّ لا يغنى من الحق شيئاً.
أما الفاتح البديع، عمرو بن العاص، فلا أجد معنى لانتقاده لأن أمه كانت كذا وكذا.. فهو غير مسؤول عن ذلك، لكنه كان من الصلابة والقوة، بحيث تجاوز ذلك! بل كان يذكره دون أىِّ تحرُّج. ليس هذا فحسب، بل انتقد عمرو بن العاص نفسه، وهو أمير مصر، على نحو لا يحلم الذين يكرهونه بأن يتجاوزوه إذا ما أرادوا أن ينتقدوا عمرو بن العاص.. علماً بأن انتقاد هذا الرجل لن يقلل بحالٍ من مكانته، وقد سبق لى فى بعض مقالاتى أن انتقدت بعض ما قام به، مثل بيع العيال فى المدن الخمس الغربية (ليبيا) لسداد الجزية.. لكن الموضوعية تقتضى، أيضاً، أن نذكر محاسن هذا الرجل النادر، الذى دخل مصر غازياً، ثم استقر فيها وأقرَّ الأحوال والنظم، فصار فاتحاً عظيماً.
ولو كان العرب قد احتقروا عمرو بن العاص حقاً، كما يتوهم المبهرجون، لأن أمه لم تكن من أشراف مكة.. لما زوَّجوه من ابنة عمه رائطة (ريطة) وهى المرأة العظيمة التى عاشت معه تقلبات حياته الفظيعة، وكانت تصحبه فى أسفاره وتنقلاته وحروبه. ولما كان النبى محمد ﷺ قد أرسله (فور إسلامه المتأخر) ممثلاً له فى منطقة البحرين، وقائداً لحملات عسكرية مثل موقعة (ذات السلاسل) التى حارب فى صفوفها كبار الصحابة من أمثال عمر بن الخطاب وأبى بكر الصديق.
ولما كان هذا الرجل البديع قد تحمَّس لدخول مصر مستعيناً فى ذلك بقوى كثيرة، غير الجيش الهزيل الذى دخل به! قوى ما كان غيره ينتبه إليها، مثل عشرات الآلاف من الأنباط والعرب الذين كانوا يعيشون بمصر من قبله بزمن طويل (وهو ما تقدمه روايتى القادمة: النبطى) وما كان قد غامر هذه المغامرة الكبرى التى تردَّد بشأنها الخليفة عمر بن الخطاب. لكن عمرو بن العاص تحمس، وبادر.. ليبدأ بها عصر جديد هو الممتد فينا منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، إلى اليوم.. هو عصر مصر العربية الإسلامية.
====================
د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ (٣-٧) باسيل.. وابن شَريك
فى سنة ٩٠ هجرية (= ٧٠٨ ميلادية) عزل الخليفة الأموى «الوليد بن عبدالملك» أخاه «عبدالله» عن حكم مصر، وولَّى مكانه رجلاً من قبيلة (عبس) العربية، اسمه قُرَّة بن شَريك العبسى.. وقد وصل الوالى الجديد إلى الفسطاط فى المساء، فدخل المسجد وصلى وجلس فى ركنٍ متميز، فأحسَّ به واحدٌ من رجال الشرطة، فجاء إليه يستطلع خبره.. يقول المؤرخون:
قال له الشرطى: إن هذا الركن هو موضع الوالى، فعليك بالجلوس فى مكانٍ آخر. فقال له ابن شَريك: وأين الوالى؟ قال إنه فى رحلة «نزهة»، فقال له ابن شريك: نادِ خليفتَه.. شعر رجالُ الشرطة أن الأمر فيه شىء، فأرسلوا إلى رئيس الشرطة (= وزير الداخلية) الذى كان اسمه «عبد الأعلى بن خالد» فاندهش الجالسون معه، من سطوة هذا الرجل الغريب الذى يستدعى إليه رئيس الشرطة، وقالوا: أرسلْ إليه يأتِك صاغراً، فقال: ما بعث إلىَّ إلا وله سلطانٌ علىَّ، أسرجوا الخيل.
جاء رئيس الشرطة وسط حاشيته، فدخل على قُرَّة بن شريك الذى ابتدره بالسؤال: أنت خليفة الوالى؟ قال: نعم. قال: انطلقْ فاطبعْ (أغلق) الدواوين وبيت المال.. فسأله رئيس الشرطة، وقد استبعد أن يكون الخليفة «الوليد بن عبدالملك» خلع أخاه، إن كان جاء والياً على الخراج فقط، أم أميراً على مصر؟ فقال له ابن شريك: انطلقْ كما تؤمر.. فقال عبدالأعلى:السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله.
■ ■ ■
بهذه الواقعة المشهورة فى تاريخنا، بدأ حكم قُرة بن شريك لمصر، أميراً عليها، وعاملاً للأمويين.. وقد اختلف المؤرخون فى شخصية هذا الرجل، ووصفه فريقٌ منهم بأنه كان جباراً جائراً، يشرب الخمر بالليل، فاسقاً خليعاً.. إلخ ! ولعل ذلك قد تأكد عندهم، من هذه الواقعة المعروفة، التى روتها أغلب مصادرنا القديمة:
خرج قُرة بن شريك من الفسطاط لزيارة الإسكندرية سنة واحد وتسعين للهجرة، وكان (الخوارج) قد دبَّروا مكيدة لاغتياله، برئاسة واحد منهم هو «المهاجر بن أبى المثنى» وكان عددهم مائة رجل.. مكنوا له عند منارة الإسكندرية (الفنار) حتى إذا وصل هناك هجموا عليه، وفتكوا به. ولكن ابن شريك عرف بالأمر، فأرسل إليهم قوةً من الشرطة اعتقلتهم جميعاً، وحبسهم فى المنارة وسألهم هناك، فاعترفوا بما كانوا يخططون له، فقتلهم كلهم فى ساعةٍ واحدة.
ومثلما حمل فريق من المؤرخين المسلمين على «قُرَّة» واتهموه بأبشع الصفات، حمل عليه المؤرِّخ المسيحى (اليعقوبى) ساويرس بن المقفع، ووصفه بأنه كان متجبِّراً ظالماً، أنزل بالرهبان بلايا عظيمة.. وأورد عنه القصة التالية:
لما وصل قُرة إلى مصر، ذهب إليه الأب ألكسندروس، رئيس اليعاقبة (بطرك الأقباط) ليسلِّم عليه، فألزمه قُرَّة بالجزية التى كان يدفعها للأمير السابق المخلوع، وقدرها ثلاثة آلاف دينار، فاعتذر البطرك بأنه لا يملك هذا المال، وأقسم له على أنهم لا يكنـزون الذهب، وطلب منه أن يذهب إلى الصعيد ليجمع المال المطلوب، فوافق.. ثم اكتشف قرة أنهم يخبئون فى الأبسقوبيون (البطرخانة) خمسة كيزان فيها ذهب! فأمر قُرة بإغلاق البطرخانة، وأَخَذَ ما فيها، وأرسل إلى الصعيد فأحضر البطرك من هناك، وهَمَّ بقتله بسبب يمينه (القسم) أن ليس معه ذهب.. فهرب أصحاب البطرك.. وأخذ قُرَّة الجزية من الرهبان، ديناراً كل عام، على كل رأس.. إلخ.
* * *
ومن الناحية الأخرى، دافع كثيرٌ من المؤرخين والدارسين عن شخصية قُرَّة بن شريك، ونقضوا تلك «الحكايات» المروية عنه، وذكروا الوقائع المحددة التى تدل على مكانة هذا الرجل.. فهو الذى قام بتوسعة مسجد الفسطاط (جامع عمرو بن العاص) وأصلح موضع القبلة فى المحراب القديم الذى بناه عمرو بن العاص قبله بقرابة نصف قرن.. وهو الذى استصلح الأرض البور المسماة «بركة الحبش» وزرعها.. وهو الذى نظم الإدارة «دوَّن الدواوين» وحَدَّد الجزية والخراج بدقة.
ويؤكد المقريزى، المؤرخ المصرى الشهير، أن الذى فرض الجزية على الرهبان، وأحصاهم، لم يكن قُرة بن شريك العبسى، وإنما كان الأمير عبدالعزيز بن مروان «أمر بإحصاء الرهبان فأُحصوا، وأُخذت منهم الجزية، عن كل راهب دينار. وهى أول جزية أُخذت من الرهبان».
وللتوضيح: أسقط الولاة اللاحقون هذه الجزية عن الرهبان. والجزية هى ضريبةٌ عامة تُدفع فى مقابل الإعفاء من القتال فى الحرب، والحصول على الأمان. وقد أفتى كثيرٌ من الفقهاء بأن الراهب إذا انقطع فى صومعة أو دير، فلا جزية عليه، وإن خالط الناس فى مساكنهم ومعايشهم، صارت الجزية عليه واجبة.
■ ■ ■
وبعيداً عن هذا الروايات التاريخية، التى تناقضت فى وصفها لشخصية قُرَّة بن شريك. سوف نرى الرجل فيما يلى، من واقع النصوص الفعلية والرسائل التى كتبها إلى (باسيل) الذى كان يُكتب فى برديات ذاك الزمان، من دون حرف الألف: بسيل.
وأول ما يلفت النظر فى برديات قُرة بن شريك، ورسائله إلى باسيل. أن هذا الأخير كان يشغل منصباً مهماً، باعتباره مسؤولاً عن منطقة كبيرة (محافظة) تقع فى صعيد مصر بين سوهاج الحالية وأسيوط، وكانت عاصمتها «أشقوه» التى يقال لها، أيضاً «شقاو» وتنطق حالياً: شجاو.. وكانت تتبعها عدة بلاد (مديريات) كما سيظهر ذلك من نص البرديات التى سنقدم نماذج منها.
إذن، كان «بسيل» هذا، يشغل منصباً يقارب ما نسميه اليوم (المحافظ) ليس فقط بمعنى «جامع الجزية» من أهل المنطقة الكبيرة التى يديرها، وإنما كالوالى المسؤول عن النظام وفضِّ المنازعات وإقرار الأمن ومراقبة الأمور.. وسوف يتضح لنا من نص (الرسائل) التى احتفظ بها باسيل، حتى وجدها المستشرقون، أن الرجل كان مسيحياً يعقوبياً، أو بحسب المصطلح المعاصر: قبطياً.. وهى مسألة لا تخلو من الدلالات.
وبرديات (رسائل) قرة بن شريك إلى باسيل، معظمها مكتوب باللغة العربية، وفيها بعض الرسائل باليونانية والقبطية (المصرية القديمة) وهى عشرات الرسائل الموجودة حالياً فى أوروبا، والقليل منها محفوظ فى دار الكتب المصرية بالقاهرة.. وقد نشر د. جاسر أبو صفية (أردنى) بعض هذه الرسائل فى كتابه الصادر قبل خمسة أعوام عن مركز الملك فيصل بالرياض، بعنوان: برديات قُرة بن شريك العبسى.
وفى هذا الكتاب، مقدمة يقول فيها ناشر الرسائل: «كثيراً ما وقع للمؤرخين الغلط فى الحكايات والوقائع، لاعتمادهم على مجرد النقل.. ومن هنا تأتى أهمية البرديات فى إعادة كتابة التاريخ الإسلامى، على أسس علمية صحيحة، لا مجال فيها للنقل أو الرواية، لأنها وثائق كُتبت فى عصرها، بعيداً عن الميول والأهواء.. وسنرى لقرة بن شريك، صورةً أخرى تناقض صورته فى كتب المؤرخين، المسلمين والنصارى، مناقضةً تامة. وتفضح رواياتهم المزوَّرة المضلِّلة التى لا تتورع عن الطعن على رجالات الدولة الأموية».
ولم يكن د. جاسر أبوصفية، هو أول من اهتم ببرديات قرة بن شريك، ورسائله إلى باسيل.. فقد كان رائد هذا المجال هو المستشرق النمساوى الشهير «جروهمان» الذى نشر لأول مرة هذه الرسائل، وقال عنها: «لقد تعمد المستشرقون تسويد صورة الحكم الأموى، وولاته، خاصة قُرة بن شريك الذى ضُرب به المثل فى القسوة والظلم!
ولكن لا أثر البتة للظلم أو الاستبداد فى البرديات، بل يبدو قُرَّة فيها حريصاً على حماية الناس من ظلم جباة الضرائب، باذلاً أقصى جهده لتحسين الأوضاع الزراعية وزيادة الإنتاج وإنشاء الدواوين والاهتمام بالجيش والأسطول.. كما يبدو قُرة فى رسائله، متسامحاً مع القبط (المصريين) شديداً على عماله (موظفيه) ولكنه رقيق مع عامة الناس. وتبدو فى رسائله، نزاهته وعدالته وتقواه. وهكذا فإن البرديات تثبت أن كل ما قيل عن قُرَّة، هو محض افتراء».
ثم تعرضت الباحثة نبيهة عبود إلى رسائل قُرَّة، وعرضت للتهم التى وجَّهها المؤرخون إليه. وأرجعت ذلك إلى تعصب المصادر على بنى أمية، على يد مؤرخى الدولة العباسية ومؤرخى النصارى كساويرس بن المقفع. ثم فنَّدت هذه التهم، بأدلة من البرديات، وتحدثت عن عقليته الإدارية والعسكرية، ونفت عنه الظلم كما فعل جروهمان.
وكتب المستشرق (بِل) فى مقدمة كتابه عن البرديات المكتوبة باليونانية: إن قسوة قرة بن شريك، وعدم تقواه، قد تكون فى جملتها محض خرافة، إذ إن الواضح بالدليل (من البرديات) أنه كان والياً قديراً نشطاً. وهو فى الوقت الذى كان يحذر فيه باسيل (عامله على أشقوه) من فرض جزية لا يحتملها الفلاحون، كان لا يقبل منه أقل مما هو مفروض عليهم. ولذلك، فمن المحتمل أنه اعتُبر ظالماً، من القبط، ليس لأنه كان مسيئاً فى إدارته، ولكن لأنه استطاع أداء واجباته المنوطة به، بكفاية عالية .
كما دافع عن قرة بن شريك، الأب (القسيس) الفرنسى «هنرى لامِنْس» فى مقالة له بالفرنسية أكَّد فيها أن البرديات تدل على أن المؤرخين قاموا بتزوير أخبار قرة بن شريك.
■ ■ ■
وسوف نخصِّص مقالة الأسبوع المقبل، كلها، لنماذج من رسائل قرة بن شريك إلى باسيل. وإلى ذلك الحين، نكتفى بختام هذه المقالة، بفقرة من رسائله كتب فيها قرة إلى باسيل، يقول:
إنى لا أحب أن يرى أحدٌ فى عملك شيئاً تكرهه، من عجزٍ أو تأخير، فإنى قد بعثتك على عملك، وأنا أرجو أن يكون عندك أمانة وإجزاء وتنفيذ للعمل، فكن عند حسن ظنى بك. فإنى والله، لأن تكون محسناً أميناً موقَّراً، أحبُّ إلىَّ من أن تكون على غير ذلك.
من المصري اليوم