| تسجيل عضوية جديدة | استرجاع كلمة المرور ؟
Follow us on Twitter Follow us on Facebook Watch us on YouTube
النتائج 1 إلى 2 من 2

  1. #1

    الصورة الرمزية Dr Zezo

    رقم العضوية : 1952

    تاريخ التسجيل : 28Aug2007

    المشاركات : 1,413

    النوع : ذكر

    الاقامة : القاهرة

    السيارة: .

    السيارة[2]: .

    الحالة : Dr Zezo غير متواجد حالياً

    افتراضي د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ" حال مصر و اهلها وقت أن دخلها الاسلام " - Facebook Twitter whatsapp انشر الموضوع فى :

    hasad">

    د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ(١ - ٧) .. لفائف البردى العربية

    ردَّدتُ فى اختيار موضوع «السُّباعية» الجديدة، بين ثلاثة اختيارات تجول برأسى منذ أيام. الأول منها أن أكتب السباعية عن «أحوال المحبة» لأعرض من خلال المقالات لمفهوم الحب والمحبة فى تراثنا، الصوفى منه خصوصاً، ليستروح الناس فى غمرة الهوس الذى نعيشه حالياً نسمات روحية تؤكد أن الإسلام، كثقافة، يحفل بمحبة لا تقل عن مثيلتها فى أى دين، بل تزيد عن «المحبات» المزعومة، فى أنها صارت عند صوفية المسلمين وكثير من أعلامهم، سلوكاً فعلياً له تطبيقات حياتية، ولم تكن محض أقاويل وتهاويل لفظية، وعبارات محكية، ليس لها فى الواقع الفعلى أى دليل.

    وكان الاختيار الثانى، المطروح، أن تكون السباعية بعنوان «باب الألقاب» حيث أطرح من خلال المقالات مدخلاً أراه مهماً لفهم تراثنا وطبيعة ثقافتنا الحالية، هو مدخل «أو بوابة» الألقاب. فهناك ألقاب تدل على عوالم رحيبة ومعارف كثيرة، من المهم أن نحيط بها. كأن تكون المقالة الأولى عن «الحشَّاشين» وهو اللقب الذى ألصقه بعض المؤرِّخين بجماعة الإسماعيلية «الشيعة» الذين عاشوا قديماً بقلعة «أَلمَوت» وكانوا يغتالون معارضيهم. وتكون بقية المقالات عن ألقاب: المملوك، الساسانى، النبطى.. وغيرها.

    وكان عنوان هذه السباعية، هو اختيارى الثالث: تاريخنا المطوىّ.. وقد ربح عندى هذا الاختيار لأسباب، أهمها أن الكثيرين منا يعتقدون «وبالأحرى: يتوهمون» أن الماضى والتاريخ والتراث هى أمور بعيدة عن الواقع الفعلى الذى نعيشه هذه الأيام. وهم يظنون أن الانشغال بمشكلاتنا الحالية أهم بكثير من معرفة ما كان يوجد سابقاً، ويعتقدون أن الحاضر يختلف عن الماضى!

    لكن هذه كلها توهُّمات، نتجت عن نظام التعليم الذى خاب مؤخراً فى بلادنا «العربية» واستبعد من التاريخ جوهره الحقيقى. وهو أنه مقدمة لابد منها لفهم الحاضر، وعنصر فاعل فى واقعنا المعيش، لا يمكن من دونه التعامل مع مفردات الواقع ومشكلاته، تعاملاً رشيداً. وإلا، فكيف نفهم سلوك الجماعات الإرهابية المعاصرة، من دون التعرف إلى جذور هذه الظاهرة فى تراث الخوارج ومتعصِّبى الحنابلة «وهم بالمناسبة قليلون جداً فى تراثنا» والطريقة التى كان المتأسلمون يستخرجون بها الفتاوى. وكيف نفهم «الغاغة» الحالية الزاعمة أن أقباط مصر مضطهدون! كأن المسلمين المصريين غير مضطهدين. وكيف نفهم ما يجرى اليوم من أزمة مياه النيل، لولا اهتمامنا بتاريخ العلاقة بين مصر ودول حوض النيل ومنابعه، ناهيك عن تراث هذه الدول والجماعات التى لا نكاد نعرف عنها شيئاً.

    ■ ■ ■

    من هنا أقول، إن تاريخنا لا ينفصل عن الواقع، والتراث ممتد فى الحاضر، والمشكلات الكبرى لن تحل بطريقة «يوم بيوم» التى يلجأ إليها الجهلةُ، ظناً منهم أنها أسهل وأسرع وأبسط.. وتكون النتيجة أن تتراكم فى حاضرنا المشكلات، ويزداد جهلنا بنا.

    وموضوع هذه السباعية سندخل إليه من باب «البرديات العربية» وهى اللفائف التى كانت منسية، ومطوية، حتى بدأ الأوروبيون الاهتمام بها فى النصف الأول من القرن العشرين، وجمعوها من أنحاء مصر وخرجوا بها إلى المكتبات الكبرى فى أوروبا، وظلت هناك إلى اليوم.. ويقال إن متحف فيينا، وحده، يقتنى حالياً أكثر من خمسين ألف بردية (مصرية) مكتوبة باللغة العربية! وفى دار الكتب عددٌ هائل من البرديات، لا يعلم عددها الحقيقى إلا الله.. ولكن ما هو البردى، أصلاً؟

    منذ اكتشف الإنسانُ سرَّ الكتابة، وعرف أهمية الأبجدية؛ صار يدوِّن ما يريد أن يتركه للأجيال القادمة فى (أوعية) تضم النصوص. وكان أول وعاءٍ هو الحجر، وقد نقش الإنسان عليه كل ما أراد أن يبلِّغه للأجيال التالية. وفى حضارات العراق القديمة اكتشفوا طريقة بديعة هى المسماة «الكتابة المسمارية» وهى نقوش على ألواحٍ من الطين، الطرىّ، تجفَّف حتى تصير كالصفحات التى تبرز منها الحروف كرؤوس المسامير. وفى مصر القديمة، ابتكر العباقرة القدماء طريقة أبدع، هى شقُّ أعواد نبات البردى، اللزج بطبعه، ووضعها فى شرائح طولية متجاورة، عليها شرائح عرضية، ثم تلصق متخالفةً. فإذا جفَّ الاثنان، صارا كمثل الورقة التى نعرفها اليوم، وصارت وعاءً جيداً للكتاب.

    وقبل اكتشاف العرب لصناعة الورق، كان البردى هو المستخدم فى الكتابة بأنحاء مصر وما حولها. وكانت الجلود تستخدم فى البلاد المجاورة التى لا ينبت فيه البردى، فإن كانت قطع الجلود مكتوباً فيها على حالها الطبيعى «بعد الدباغة» فهى الرقاع، المفرد رُقعة. وإن كانت الجلود معدة بشكل جيد، ومرقَّقة بعد دباغتها لتكون أرقَّ وأقل سمكاً، فهى الرُّقوق، المفرد رَقّ.

    ■ ■ ■

    وقد لفت نظرى إلى أهمية النظر فى تاريخنا المطوى فى لفائف البردى العربية، ذلك الكتاب الذى نشره د. جاسر أبوصفية قبل سنوات قليلة، بعنوان «برديات قُرة بن شريك العبسى» وقبله بقليل كان الصديق د. سعيد مغاورى يكتب كثيراً عن أهمية البرديات العربية، ولا يكف عن الشكوى من إهمالنا لها. وقبله بكثير كان المستشرقون الأوروبيون من أمثال جروهمان «وغيره كثيرون» يقدمون نصوصاً مذهلة من تراثنا المحفوظ فى البرديات العربية.

    وبطبيعة الحال، فإن أوراق البردى التى ظلت وعاءً للكتابة لمدة ألفىْ سنة، أو أكثر، كانت اللغات المكتوب بها تتغير بحسب المراحل التاريخية. ففى دول مصر القديمة المسماة اعتباطاً «الفرعونية» كانت الكتابة على البردى باللغة المصرية المقدسة المسمَّاة اعتباطاً أيضاً «الهيروغليفية» وفى مرحلة تالية، كانت الكتابة على البردى باللغة العامية المصرية المسماة اعتباطاً «القبطية» وما هى إلا مزيج من العامية المصرية «الديموطيقية» واليونانية القديمة. وباليونانية كانوا يكتبون على البردى، حتى حكم العرب مصر باسم الإسلام.. بعدما كانوا يعيشون فى مصر فى جماعات كبيرة جداً، قبل الفتح «الغزو» الذى قام به الفاتح البديع: عمرو بن العاص، فصاروا من بعد ذلك يكتبون على أوراق البردى، باللغة العربية التى صارت «اللغة الأم» لمصر والمصريين، منذ أكثر من ألف عام.

    ■ ■ ■

    وأعتقد من جانبى، أن أول نصٍّ مهم كتب على البردى باللغة العربية، وتم توزيعه على نطاق واسع فى مصر، ليعلم به الجميع، هو «عهد الأمان» الذى أطلقه عمرو بن العاص للأنبا بنيامين، فى السنة الأولى من تاريخ مصر العربية «=١٨ هجرية = ٦٤٢ ميلادية = ٣٥٨ للشهداء = ٦٣٤ القبطية الإثيوبية = ٤٤٠٢ لآدم التوراتى».. ولهذا النص قصة، سنورد ملخصها قبل أن نورد النص الكامل لعهد الأمان:

    قبل الغزو «الفتح» الإسلامى لمصر، كان المسيحيون الملكانيون «الروم الأرثوذكس» يحكمون البلاد، ويسومون المسيحيين اليعاقبة «الأقباط!» سوءَ العذاب. وفى خريف سنة ٦٣١ ميلادية جاء لحكم مصر الأسقف البشع «قيرس» الذى سماه العرب أو المصريون «المقوقس» لأنه من بلدة فاسيس، بالقوقاس «القوقاز» وقد أراد هذا الرجل الفظيع الذى كان يستر قبحه بالملابس الكنسية الموشاة، ويخفى شناعته بصولجان الأسقفية وبالصليب الذهبى؛ أن يصير «المذهب» المسيحى فى مصر مذهباً واحداً. ولم يعرف أن «المذهب» عند العامة أهم من الديانة نفسها.

    وكان رئيس المسيحيين المصريين اليعاقبة «الغلابة» آنذاك، هو الأسقف بنيامين. وهو رجلٌ طيب، مسكين، متواضع. وكان رئيس المسيحيين المصريين الملكانيين «الأغنياء» هو الأسقف صفرونيوس. وهو رجل طيب أيضاً، مسكين، ومتواضع.. وجاءت الأخبار تقول إن قيرس «المقوقس» جاء ليضغط على اليعاقبة والملكانيين، ويجعلهم على مذهب مسيحى بائس، مخترع ومفبرك، يسمى المونوثيلية، أى مذهب الإرادة الإلهية الواحدة، بصرف النظر عما إذا كان المسيح عليه السلام هو ابن الله أو ابن الإنسان.

    كان الأسقفان فى مأزق خطير، لأن قيرس «المقوقس» معروف عنه البطش والعنف. وكانت دماء اليهود تملأ العالم، بعد المقتلة الهائلة التى قام بها الروم وأساقفة الشام وإيلياء «أورشليم= القدس» عقاباً لهم على ما زعمه البعض من مساعدة اليهود للروم.. كانت الأجواء ملتهبة، ومنذرة بالمريع من أمور الشر المستطير. فماذا فعل الأسقفان؟

    هرب الأسقف بنيامين، واختفى بوادى النطرون أو بالصعيد.. وذهب الأسقف صفرونيوس إلى قيرس «المقوقس» ليرجوه أن يصرف نظره عن تعميم المذهب الجديد. رفض المقوقس، فارتمى صفرونيوس عند أقدامه وبكى بالدموع والدم «كما يقول المؤرخ القديم، ساويرس بن المقفع» ولكن المقوقس رفض.

    ورفض المصريون المسيحيون، الملكانيون واليعاقبة، المذهب الجديد.. فقام المقوقس بنشر الرعب فى أنحاء البلاد، وقتل عشرات الآلاف من الناس، حتى جاء عمرو بن العاص. وكان الأسقف بنيامين، لا يزال هارباً مختفياً، رغم مرور أكثر من عشرة أعوام، عانى فيها أهل مصر من ويلات المقوقس. فلما استقر الأمر بيد المسلمين، أراد عمرو بن العاص أن تستقر أحوال الرعية، فأقرَّ الملكانيين على كنائسهم وأديرتهم، ومنها أهم وأقدم كنيسة ودير فى مصر إلى اليوم «دير سانت كاترين، بسيناء» وأقرَّ اليعاقبة الذين سماهم العرب والمسلمون بعد ذلك بالأقباط، على كنائسهم وأديرتهم. وقالوا لعمرو بن العاص، إن رئيس اليعاقبة هاربٌ منذ سنين، ومختفٍ، فكتب ابن العاص الوثيقة التالية، وأمر أن تُكتب وتعمَّم على جميع أنحاء البلاد، حتى عاد بعدها بنيامين الأسقف، وصارت له بطريركية خاصة به.. وها هى «عهود الأمان» التى انتشرت نسخ كثيرة منها آنذاك، وتوزَّعت بردياتها التى حفظت لنا نصها، وتناقلها المؤرخون المسيحيون والمسلمون من أمثال ساويرس بن المقفع، والطبرى، وابن كثير، والمقريزى، وقد جاء فيها:

    هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان، على أنفسهم وملتهم وكنائسهم وصُلُبهم وبرهم وبحرهم. لا يدخل عليهم شىء من ذلك، ولا يُنتقص، ولا يُساكنهم «النوب».

    وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح.. فإن أبى أحد منهم أن يجيب رُفع عنهم من الجزاء بقدرهم. وذمتنا ممن أبى بريئة.. وأينما كان بطريق «بطرك» القبط بنيامين، نعدُه الحماية، والأمان، وعهد الله. فليأت البطريق إلى هاهنا، فى أمان واطمئنان، لِيَلِى «يتولى» أمر ديانته، ويرعى أهل ملته.

    ■ ■ ■

    وتعليقاً على هذا النص، يقول القس الباحث د. ألفرد بتلر فى كتابه الشهير «فتح العرب لمصر» الذى ترجمه لنا محمد فريد أبوحديد: لم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين، فعاد من مخبئه ودخل إلى الإسكندرية دخول الظافر، وفرح الناس برجوعه بعد أن بلغت مدة غيابه ثلاثة عشر عاماً، منذ هجر «البطرخانة» وهرب إلى الصحراء الغربية عند قدوم قيرس. ومن هذه المدة عشر سنين وقع فيها الاضطهاد الأكبر للأقباط على يد قيرس «المقوقس» والثلاث الباقية كانت فى ظل حكم المسلمين.

    وكان بنيامين فى كل هذه المدة يتنقل خفية بين أصحاب مذهبه، أو يقيم مخبأً فى أديرة الصحراء. وإنه لمن الجدير بالالتفات، أن هذا البطرك الطريد لم يحمله على الخروج من اختفائه.. إلا عهد أمان لا شرط فيه «انتهى كلام ألفريد بتلر، وانتهت المقالة الأولى من هذه السباعية!».


    ===================

    د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ (٢-٧) .. العربية والقبطية فى البرديات المصرية


    كنتُ أعتقد أن الكلام فى (البرديات) لا يهم الكثيرين، لكننى فوجئت بتعليقات كثيرة على مقالتى السابقة (لفائف البردى العربية) وهى المقالة الأولى من هذه السباعية.. وفى تعليق منها، قال لى صديق (عزيز) أشياءَ تشبه الاتهامات، ملخصها أننى منحاز للثقافة العربية، ولذلك لم أذكر البرديات المكتوبة باللغة القبطية، واكتفيتُ بالكلام عن مثيلاتها المكتوبة بالعربية، مع أنها أقل عدداً وأهمية! وأننى متحامل على التاريخ الحقيقى الموجود فى الكتب، ومهتم بنصوص البردى التى لا تدل على شىءٍِ مهم! وأننى أميلُ إلى عمرو بن العاص، وأذكر محاسنه دون مخازيه، مع أن هذا الرجل وصفته المصادر المسيحية العربية بالمفترس، ومع أن أمه كانت تلحق بسيرتها المخازى.. هكذا قال.

    ولأن هذا المعترض (عزيز) ويعبِّر عن رأى البعض ممن يتوهمون أنهم يعرفون تاريخ هذا البلد، فلسوف أتوقف فى هذه المقالة عند تعليقاته، أو بالأحرى: اتهاماته. ثم أتابع كلامى عن نصوص البرديات العربية، مع مقالة الأسبوع القادم التى سأتحدث فيها عن برديات قُرة بن شريك العبسى، ورسائله إلى (بسيل) لأنها فيما أرى، على درجة كبيرة من الأهمية.. وفى ذلك أقول:

    أما اتهامى بالانحياز إلى الثقافة العربية، فهو أمرٌ أراه غريباً، لأن هذه (الثقافة) هى التى تجمع فى واقع الأمر بين أبناء هذا البلد والبلدان المجاورة له، ولأن «اللغة» هى أول ملمح من الملامح الثقافية لأى جماعة إنسانية، فلا معنى لاتهام شخص بأنه منحاز إلى ثقافته.. يقول محمود درويش فى قصيدة له:

    ما دلَّنى أحدٌ علىَّ

    أنا الدليلُ.

    من أنا؟ هذا سؤال الآخرين،

    ولا جواب عليه.

    أنا لغتى

    وقد اعتقد البعض، وهماً، أننى ضد ما يسمونه التاريخ القبطى لمصر، وهو أمرٌ أراه مضحكاً ودعائياً وغير قويم. صحيح أن هناك خلافاً فى الرأى (وقضايا قانونية) مع بعض رجال الكنيسة المسماة اليوم بالقبطية، لكن هؤلاء لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليد الواحدة، وإن أردت الدقة فهم بالتحديد ثلاثة أشخاص لا غير. لكنهم يبهرجون على الناس، ويدعون أنهم (الثلاثة) هم الممثلون للديانة المسيحية، وبالتالى فإن خلافى مع المسيحية ذاتها! وهذا مكرٌ شديد يعلم الله أنه محض ادِّعاء.. وهؤلاء (الثلاثة) الحريصون على تأجيج نار الاختلاف، لأغراض فى نفوسهم، يستعملون اللغة العربية فى هجومهم الدائم على كتاباتى، بل هددنى كبيرهم هذا (المعروف) مستخدماً فى تهديده الصيغ العربية/ الإسلامية، التى من نوع «إن غداً لناظره قريب».. لا بأس، لكن المهم هنا أن الذين يطرحون أنفسهم كمعارضين للثقافة العربية فى مصر يستعملون فى واقع الأمر، أهم ملمح ثقافى عربى: اللغة.

    ومن ناحية أخرى، فليس هناك فى واقع الأمر شىء اسمه (اللغة القبطية) وإنما هى خرافة تكررت فى السنوات الأخيرة على مسامع المساكين، حتى ظن هؤلاء أن هناك حقاً ما يسمى باللغة القبطية! والأمر صوابه الآتى:

    فى بدايات مصر (القديمة) كان الناس يستعملون لغتين، الأولى فى الكتابات المقدسة بالمعابد، وهى التى أسماها اليونانيون (اللغة الهيروغليفية) وهى لغة معقدة، عميقة. والأخرى مخففة بسيطة، استعملها الناس والكهنة (كهنة آمون) وسُميت باليونانية: الهيراطيقية.. وقد تزامن استعمال اللغتين فى مصر القديمة (جداً) فكانت الهيروغليفية هى اللغة الرسمية المقدسة التى نقشت على المسلات والجدران، والهيراطيقية هى اللغة المستعملة فى الحياة اليومية، وكانت تكتب على أوراق البردى.

    وفى حقيقة الأمر، فالهيروغليفية والهيراطيقية ليستا لغتين، وإنما هما طريقتان فى الكتابة. ولكن كثيرين ظنوا أنهما لغتان مختلفتان، وهذا غير صحيح، لأن اللغة فى حقيقة أمرها، هى (الأصوات) التى يستعملها الناس، وهناك فرق بين المنطوق (اللغة) والمدوَّن (الكتابة) فقد تتغير طريقة الكتابة، وتبقى اللغة على حالها. مثلما حدث فى تركيا بعد ثورة أتاتورك، حيث كان الأتراك يكتبون لغتهم بالحروف العربية، ثم صاروا يكتبونها بالحروف اللاتينية.. لكن (اللغة التركية) بقيت كما هى على الحالين.

    وفى القرن السابع قبل الميلاد، استعمل الناس فى مصر، طريقة أخرى فى الكتابة، هى التى صارت تسمى (الديموطيقية).. وفى القرن الثالث قبل الميلاد، تطورت هذه الطريقة وصارت تسمى اعتباطاً (القبطية) وهى تسمية لا دلالة لها، لأن (قبطية) تعنى مصرية! وهذه كلها خطوط مصرية (قبطية).

    وما يجب أن ننتبه إليه هنا هو أن هذه (اللغة) أو بالأحرى (طريقة الكتابة) ظهرت قبل ظهور المسيحية بثلاثة قرون من الزمان! لكن كثيرين منا اليوم، نحن المصريين، يعتقدون أن هذه (القبطية) هى لغة الكنيسة، ويقوم بعضهم بأمر مضحك، هو التكلم بها فى بيوتهم! ظناً بأنهم ما داموا مؤمنين «الإيمان القويم» فإن الواجب عليهم أن يتكلموا هذه اللغة المزعومة! وقد خدعهم بعض رجال الدين، وشجعوهم على هذا الفعل. وكتموا عنهم أنها (لغة) لا ارتباط لها بالدين، وهى فى حقيقة الأمر- وبحسب مصطلحاتهم- لغة وثنية بدأت قبل ابتداء (الديانة) بزمن طويل.. ولو أراد هؤلاء (المتدينون الجدد) أن يستعملوا لغة دينية مسيحية، فعليهم التكلم فيما بينهم باللغة الآرامية (السريانية القديمة) لأنها اللغة التى تحدث بها السيد المسيح.

    والآرامية (السريانية) لغة، واليونانية لغة، والعربية لغة.. أما هذه القبطية المزعومة، فهى ليست لغة أصلاً. وإنما هى طريقة فى الكتابة، لجأ إليها المصريون (الوثنيون) بعد الاحتلال اليونانى لمصر، واستقرار الحكم البطلمى فيها.. وهى كنظام كتابة (ملفق) يضم أربعة وعشرين حرفاً يونانياً، وسبعة أحرف مصرية قديمة.. واستعمل الناس هذه الطريقة فى الكتابة حتى مرت عدة قرون، ثم دخل المصريون كغيرهم من الشعوب المجاورة فى الديانة المسيحية. وفى الإسكندرية (آهٍ من الإسكندرية) ربط رجال الدين المسيحى، فى القرن الثالث الميلادى، بين الديانة وهذه الطريقة فى الكتابة.. وفى منتصف القرن الخامس الميلادى، غضب رجال الكنيسة فى مصر على كنيسة اليونان (الملكانيين = الروم الأرثوذكس) فقرروا أن يستعملوا فى الصلوات وكتابة الأدعية الدينية اللغة القبطية! فتأكد فى نفوس الناس الوهم القائل إن هذه المسماة (اللغة القبطية) هى لغة دينية.. ومع تكرار الوهم على الأسماع، ظن الناسُ أن الوهم حقيقة.

    وفى الحقيقة، فأوراق البردى لا تضم فى معظمها نصوصاً قبطية، مثلما توهَّم المعترض. بل أقل القليل من البرديات، هو الذى كُتب بالطريقة المسماة (القبطية)..فضلاً عن أن المصريين فى الزمن المسمى اعتباطاً (القبطى) لم يقدموا أى إبداعات أو نصوصاً علمية أو أدبية أو فكرية، حتى تضمها البرديات المصرية المكتوبة فى هذه الفترة.. ولا نكاد نجد فيها إلا الأناجيل (الرسمية والممنوعة) والصلوات والأدعية.

    ■ ■ ■

    أما قول المعترض، إننى متحامل على التاريخ الرسمى وميَّال إلى عمرو بن العاص. فجوابه الآتى:

    أما التاريخ (الرسمى) فهو ملىء بالأكاذيب والتلوينات التى تخدم مصالح الذين كتبوه والذين يروِّجون له.. وأذكر هنا قول العلامة (سليم حسن) فى مفتتح موسوعته البديعة (مصر القديمة) حيث يقول ما نصه: «هذه محاولة جريئة أردت بها أن أجمع فى مؤلف واحد، تاريخ شعب عريق قديم له عقيدته وفلسفته فى الحياة، وله ثقافته ونظامه وطرائق معيشته، ولم أتخذْ من تاريخ (الفرعون) نموذجاً لتاريخ شعبه، كما جرت العادة بذلك فى الكتب. ولم أجعل حياته وعاداته ونظمه وثروته ومعتقداته مقياساً للحكم على أحوال رعيته. بل جعلت حال الشعب أساساً لما كتبتُ. وفى ذلك ما يقربنا من الحقيقة، ويجنِّبنا مزالق الخطأ والضلال».

    إذن، كان سليم حسن يقدِّم (التاريخ الحقيقى) لا الرسمى المزيف الذى صار هو القاعدة فى زماننا الحالى، حيث الوعى العام (البائس) الذى يظن أن صلاح الدين الأيوبى هو الممثل (أحمد مظهر) ويظن أن قطز وبيبرس وشُنقر الأشقر هم (أبطال) عين جالوت! مع أن البطل الحقيقى كان العزَّ بن عبدالسلام.. ويظن .. ويظن.. والظنُّ لا يغنى من الحق شيئاً.

    أما الفاتح البديع، عمرو بن العاص، فلا أجد معنى لانتقاده لأن أمه كانت كذا وكذا.. فهو غير مسؤول عن ذلك، لكنه كان من الصلابة والقوة، بحيث تجاوز ذلك! بل كان يذكره دون أىِّ تحرُّج. ليس هذا فحسب، بل انتقد عمرو بن العاص نفسه، وهو أمير مصر، على نحو لا يحلم الذين يكرهونه بأن يتجاوزوه إذا ما أرادوا أن ينتقدوا عمرو بن العاص.. علماً بأن انتقاد هذا الرجل لن يقلل بحالٍ من مكانته، وقد سبق لى فى بعض مقالاتى أن انتقدت بعض ما قام به، مثل بيع العيال فى المدن الخمس الغربية (ليبيا) لسداد الجزية.. لكن الموضوعية تقتضى، أيضاً، أن نذكر محاسن هذا الرجل النادر، الذى دخل مصر غازياً، ثم استقر فيها وأقرَّ الأحوال والنظم، فصار فاتحاً عظيماً.

    ولو كان العرب قد احتقروا عمرو بن العاص حقاً، كما يتوهم المبهرجون، لأن أمه لم تكن من أشراف مكة.. لما زوَّجوه من ابنة عمه رائطة (ريطة) وهى المرأة العظيمة التى عاشت معه تقلبات حياته الفظيعة، وكانت تصحبه فى أسفاره وتنقلاته وحروبه. ولما كان النبى محمد ﷺ قد أرسله (فور إسلامه المتأخر) ممثلاً له فى منطقة البحرين، وقائداً لحملات عسكرية مثل موقعة (ذات السلاسل) التى حارب فى صفوفها كبار الصحابة من أمثال عمر بن الخطاب وأبى بكر الصديق.

    ولما كان هذا الرجل البديع قد تحمَّس لدخول مصر مستعيناً فى ذلك بقوى كثيرة، غير الجيش الهزيل الذى دخل به! قوى ما كان غيره ينتبه إليها، مثل عشرات الآلاف من الأنباط والعرب الذين كانوا يعيشون بمصر من قبله بزمن طويل (وهو ما تقدمه روايتى القادمة: النبطى) وما كان قد غامر هذه المغامرة الكبرى التى تردَّد بشأنها الخليفة عمر بن الخطاب. لكن عمرو بن العاص تحمس، وبادر.. ليبدأ بها عصر جديد هو الممتد فينا منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، إلى اليوم.. هو عصر مصر العربية الإسلامية.

    ====================

    د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ (٣-٧) باسيل.. وابن شَريك


    فى سنة ٩٠ هجرية (= ٧٠٨ ميلادية) عزل الخليفة الأموى «الوليد بن عبدالملك» أخاه «عبدالله» عن حكم مصر، وولَّى مكانه رجلاً من قبيلة (عبس) العربية، اسمه قُرَّة بن شَريك العبسى.. وقد وصل الوالى الجديد إلى الفسطاط فى المساء، فدخل المسجد وصلى وجلس فى ركنٍ متميز، فأحسَّ به واحدٌ من رجال الشرطة، فجاء إليه يستطلع خبره.. يقول المؤرخون:

    قال له الشرطى: إن هذا الركن هو موضع الوالى، فعليك بالجلوس فى مكانٍ آخر. فقال له ابن شَريك: وأين الوالى؟ قال إنه فى رحلة «نزهة»، فقال له ابن شريك: نادِ خليفتَه.. شعر رجالُ الشرطة أن الأمر فيه شىء، فأرسلوا إلى رئيس الشرطة (= وزير الداخلية) الذى كان اسمه «عبد الأعلى بن خالد» فاندهش الجالسون معه، من سطوة هذا الرجل الغريب الذى يستدعى إليه رئيس الشرطة، وقالوا: أرسلْ إليه يأتِك صاغراً، فقال: ما بعث إلىَّ إلا وله سلطانٌ علىَّ، أسرجوا الخيل.

    جاء رئيس الشرطة وسط حاشيته، فدخل على قُرَّة بن شريك الذى ابتدره بالسؤال: أنت خليفة الوالى؟ قال: نعم. قال: انطلقْ فاطبعْ (أغلق) الدواوين وبيت المال.. فسأله رئيس الشرطة، وقد استبعد أن يكون الخليفة «الوليد بن عبدالملك» خلع أخاه، إن كان جاء والياً على الخراج فقط، أم أميراً على مصر؟ فقال له ابن شريك: انطلقْ كما تؤمر.. فقال عبدالأعلى:السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله.

    ■ ■ ■

    بهذه الواقعة المشهورة فى تاريخنا، بدأ حكم قُرة بن شريك لمصر، أميراً عليها، وعاملاً للأمويين.. وقد اختلف المؤرخون فى شخصية هذا الرجل، ووصفه فريقٌ منهم بأنه كان جباراً جائراً، يشرب الخمر بالليل، فاسقاً خليعاً.. إلخ ! ولعل ذلك قد تأكد عندهم، من هذه الواقعة المعروفة، التى روتها أغلب مصادرنا القديمة:

    خرج قُرة بن شريك من الفسطاط لزيارة الإسكندرية سنة واحد وتسعين للهجرة، وكان (الخوارج) قد دبَّروا مكيدة لاغتياله، برئاسة واحد منهم هو «المهاجر بن أبى المثنى» وكان عددهم مائة رجل.. مكنوا له عند منارة الإسكندرية (الفنار) حتى إذا وصل هناك هجموا عليه، وفتكوا به. ولكن ابن شريك عرف بالأمر، فأرسل إليهم قوةً من الشرطة اعتقلتهم جميعاً، وحبسهم فى المنارة وسألهم هناك، فاعترفوا بما كانوا يخططون له، فقتلهم كلهم فى ساعةٍ واحدة.

    ومثلما حمل فريق من المؤرخين المسلمين على «قُرَّة» واتهموه بأبشع الصفات، حمل عليه المؤرِّخ المسيحى (اليعقوبى) ساويرس بن المقفع، ووصفه بأنه كان متجبِّراً ظالماً، أنزل بالرهبان بلايا عظيمة.. وأورد عنه القصة التالية:

    لما وصل قُرة إلى مصر، ذهب إليه الأب ألكسندروس، رئيس اليعاقبة (بطرك الأقباط) ليسلِّم عليه، فألزمه قُرَّة بالجزية التى كان يدفعها للأمير السابق المخلوع، وقدرها ثلاثة آلاف دينار، فاعتذر البطرك بأنه لا يملك هذا المال، وأقسم له على أنهم لا يكنـزون الذهب، وطلب منه أن يذهب إلى الصعيد ليجمع المال المطلوب، فوافق.. ثم اكتشف قرة أنهم يخبئون فى الأبسقوبيون (البطرخانة) خمسة كيزان فيها ذهب! فأمر قُرة بإغلاق البطرخانة، وأَخَذَ ما فيها، وأرسل إلى الصعيد فأحضر البطرك من هناك، وهَمَّ بقتله بسبب يمينه (القسم) أن ليس معه ذهب.. فهرب أصحاب البطرك.. وأخذ قُرَّة الجزية من الرهبان، ديناراً كل عام، على كل رأس.. إلخ.

    * * *

    ومن الناحية الأخرى، دافع كثيرٌ من المؤرخين والدارسين عن شخصية قُرَّة بن شريك، ونقضوا تلك «الحكايات» المروية عنه، وذكروا الوقائع المحددة التى تدل على مكانة هذا الرجل.. فهو الذى قام بتوسعة مسجد الفسطاط (جامع عمرو بن العاص) وأصلح موضع القبلة فى المحراب القديم الذى بناه عمرو بن العاص قبله بقرابة نصف قرن.. وهو الذى استصلح الأرض البور المسماة «بركة الحبش» وزرعها.. وهو الذى نظم الإدارة «دوَّن الدواوين» وحَدَّد الجزية والخراج بدقة.

    ويؤكد المقريزى، المؤرخ المصرى الشهير، أن الذى فرض الجزية على الرهبان، وأحصاهم، لم يكن قُرة بن شريك العبسى، وإنما كان الأمير عبدالعزيز بن مروان «أمر بإحصاء الرهبان فأُحصوا، وأُخذت منهم الجزية، عن كل راهب دينار. وهى أول جزية أُخذت من الرهبان».

    وللتوضيح: أسقط الولاة اللاحقون هذه الجزية عن الرهبان. والجزية هى ضريبةٌ عامة تُدفع فى مقابل الإعفاء من القتال فى الحرب، والحصول على الأمان. وقد أفتى كثيرٌ من الفقهاء بأن الراهب إذا انقطع فى صومعة أو دير، فلا جزية عليه، وإن خالط الناس فى مساكنهم ومعايشهم، صارت الجزية عليه واجبة.

    ■ ■ ■

    وبعيداً عن هذا الروايات التاريخية، التى تناقضت فى وصفها لشخصية قُرَّة بن شريك. سوف نرى الرجل فيما يلى، من واقع النصوص الفعلية والرسائل التى كتبها إلى (باسيل) الذى كان يُكتب فى برديات ذاك الزمان، من دون حرف الألف: بسيل.

    وأول ما يلفت النظر فى برديات قُرة بن شريك، ورسائله إلى باسيل. أن هذا الأخير كان يشغل منصباً مهماً، باعتباره مسؤولاً عن منطقة كبيرة (محافظة) تقع فى صعيد مصر بين سوهاج الحالية وأسيوط، وكانت عاصمتها «أشقوه» التى يقال لها، أيضاً «شقاو» وتنطق حالياً: شجاو.. وكانت تتبعها عدة بلاد (مديريات) كما سيظهر ذلك من نص البرديات التى سنقدم نماذج منها.

    إذن، كان «بسيل» هذا، يشغل منصباً يقارب ما نسميه اليوم (المحافظ) ليس فقط بمعنى «جامع الجزية» من أهل المنطقة الكبيرة التى يديرها، وإنما كالوالى المسؤول عن النظام وفضِّ المنازعات وإقرار الأمن ومراقبة الأمور.. وسوف يتضح لنا من نص (الرسائل) التى احتفظ بها باسيل، حتى وجدها المستشرقون، أن الرجل كان مسيحياً يعقوبياً، أو بحسب المصطلح المعاصر: قبطياً.. وهى مسألة لا تخلو من الدلالات.

    وبرديات (رسائل) قرة بن شريك إلى باسيل، معظمها مكتوب باللغة العربية، وفيها بعض الرسائل باليونانية والقبطية (المصرية القديمة) وهى عشرات الرسائل الموجودة حالياً فى أوروبا، والقليل منها محفوظ فى دار الكتب المصرية بالقاهرة.. وقد نشر د. جاسر أبو صفية (أردنى) بعض هذه الرسائل فى كتابه الصادر قبل خمسة أعوام عن مركز الملك فيصل بالرياض، بعنوان: برديات قُرة بن شريك العبسى.

    وفى هذا الكتاب، مقدمة يقول فيها ناشر الرسائل: «كثيراً ما وقع للمؤرخين الغلط فى الحكايات والوقائع، لاعتمادهم على مجرد النقل.. ومن هنا تأتى أهمية البرديات فى إعادة كتابة التاريخ الإسلامى، على أسس علمية صحيحة، لا مجال فيها للنقل أو الرواية، لأنها وثائق كُتبت فى عصرها، بعيداً عن الميول والأهواء.. وسنرى لقرة بن شريك، صورةً أخرى تناقض صورته فى كتب المؤرخين، المسلمين والنصارى، مناقضةً تامة. وتفضح رواياتهم المزوَّرة المضلِّلة التى لا تتورع عن الطعن على رجالات الدولة الأموية».

    ولم يكن د. جاسر أبوصفية، هو أول من اهتم ببرديات قرة بن شريك، ورسائله إلى باسيل.. فقد كان رائد هذا المجال هو المستشرق النمساوى الشهير «جروهمان» الذى نشر لأول مرة هذه الرسائل، وقال عنها: «لقد تعمد المستشرقون تسويد صورة الحكم الأموى، وولاته، خاصة قُرة بن شريك الذى ضُرب به المثل فى القسوة والظلم!

    ولكن لا أثر البتة للظلم أو الاستبداد فى البرديات، بل يبدو قُرَّة فيها حريصاً على حماية الناس من ظلم جباة الضرائب، باذلاً أقصى جهده لتحسين الأوضاع الزراعية وزيادة الإنتاج وإنشاء الدواوين والاهتمام بالجيش والأسطول.. كما يبدو قُرة فى رسائله، متسامحاً مع القبط (المصريين) شديداً على عماله (موظفيه) ولكنه رقيق مع عامة الناس. وتبدو فى رسائله، نزاهته وعدالته وتقواه. وهكذا فإن البرديات تثبت أن كل ما قيل عن قُرَّة، هو محض افتراء».

    ثم تعرضت الباحثة نبيهة عبود إلى رسائل قُرَّة، وعرضت للتهم التى وجَّهها المؤرخون إليه. وأرجعت ذلك إلى تعصب المصادر على بنى أمية، على يد مؤرخى الدولة العباسية ومؤرخى النصارى كساويرس بن المقفع. ثم فنَّدت هذه التهم، بأدلة من البرديات، وتحدثت عن عقليته الإدارية والعسكرية، ونفت عنه الظلم كما فعل جروهمان.

    وكتب المستشرق (بِل) فى مقدمة كتابه عن البرديات المكتوبة باليونانية: إن قسوة قرة بن شريك، وعدم تقواه، قد تكون فى جملتها محض خرافة، إذ إن الواضح بالدليل (من البرديات) أنه كان والياً قديراً نشطاً. وهو فى الوقت الذى كان يحذر فيه باسيل (عامله على أشقوه) من فرض جزية لا يحتملها الفلاحون، كان لا يقبل منه أقل مما هو مفروض عليهم. ولذلك، فمن المحتمل أنه اعتُبر ظالماً، من القبط، ليس لأنه كان مسيئاً فى إدارته، ولكن لأنه استطاع أداء واجباته المنوطة به، بكفاية عالية .

    كما دافع عن قرة بن شريك، الأب (القسيس) الفرنسى «هنرى لامِنْس» فى مقالة له بالفرنسية أكَّد فيها أن البرديات تدل على أن المؤرخين قاموا بتزوير أخبار قرة بن شريك.

    ■ ■ ■

    وسوف نخصِّص مقالة الأسبوع المقبل، كلها، لنماذج من رسائل قرة بن شريك إلى باسيل. وإلى ذلك الحين، نكتفى بختام هذه المقالة، بفقرة من رسائله كتب فيها قرة إلى باسيل، يقول:

    إنى لا أحب أن يرى أحدٌ فى عملك شيئاً تكرهه، من عجزٍ أو تأخير، فإنى قد بعثتك على عملك، وأنا أرجو أن يكون عندك أمانة وإجزاء وتنفيذ للعمل، فكن عند حسن ظنى بك. فإنى والله، لأن تكون محسناً أميناً موقَّراً، أحبُّ إلىَّ من أن تكون على غير ذلك.



    من المصري اليوم


  2. #2

    الصورة الرمزية Dr Zezo

    رقم العضوية : 1952

    تاريخ التسجيل : 28Aug2007

    المشاركات : 1,413

    النوع : ذكر

    الاقامة : القاهرة

    السيارة: .

    السيارة[2]: .

    الحالة : Dr Zezo غير متواجد حالياً

    افتراضي -

    hasad">

    ====================

    د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ (٣-٧) .. رسائل قُرَّة بن شَريك


    النصوص (البِكْر) التى نقدِّمها هنا اليوم، تكشف عن صورة الماضى الحقيقى، وحياة الناس فى مصر بعد عقود من الفتح الإسلامى.. ولا حاجة هنا لتأكيد أن البرديات ونصوصها التى كُتبت بطريقة تلقائية، لأغراض حياتية (يومية) إنما تعبر عن إيقاع الحياة اليومية، وعن التاريخ الفعلى الذى كثيراً ما يخالف (الحواديت) والتوهُّمات التى يقدمها التاريخ المدرسى، المضاد فى أحيانٍ كثيرة للعقل والمنطق. فضلاً عن خرافات «التاريخ الرسمى» الذى يُكتب ويشتهر، تلبيةً لأغراضٍ سلطوية تسعى إلى التوجيه النفعى للأحداث الكبرى، وتروِّج لها فى صيغة كفيلة بتشويش الوعى العام المعاصر.

    ورسائل قرة بن شريك إلى «محافظ» أشقوه، المسمى باسيل (بسيل) احتفظ الأخير بالعشرات منها، ووصلت إلينا مع غيرها من رسائل ابن شَريك، بالصدفة أو بالتنقيب الأثرى أو بجهود المستشرقين.. ولسوف أقدم فيما يلى مختارات منها، مع وضع بعض الكلمات الشارحة بين القوسين، ومن أراد أن يقرأها كاملة فليرجع إلى كتاب د. جاسر أبوصفية (برديات قرة بن شريك العبسى) الذى اخترت منه النصوص التالية، على أمل أن نقرأها.. متدبرين ما كان، ومنتبهين إلى ما يجرى.

    ■ ■ ■

    من قرة بن شريك إلى بسيل صاحب أشقوه، فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنّ عبادة الله مقدمة على جميع الجزية من الكورة (المنطقة) وعلى سياسة الدولة، لأنها السبب فى جعل صاحب الكورة.. دون تهرب من القيام بواجبه، والنظر فى الظلامات المقدمة إليه من أهل كورته، ومقدراً على كل منهم ما يترتب عليه، مراعياً مخافة الله فى ذلك. وأن يتوخى العدل فى التقدير فى قيمة الضرائب والخدمة العامة.

    فإذا جاءك كتابى هذا، فابذل نفسك لأهل كورتك، واستمع إليهم، واحكم بينهم بالعدل، ولا تحتجب عنهم ويسِّر لهم أمر لقائك.

    واجمع مواريت القرى (العُمد) وأمرهم أن يختاروا من يوثق به، والأذكياء من الرجال، وليقسموا، وكلِّفهم تقدير الجزية على كل قرية حسب طاقتها وتعهد ما قبلك، وكن العامل الأمين على كورتك.

    وأمرهم أن يقدروا القيمة بعد أن يقسموا، فإذا انتهوا من ذلك ارفعه إلىِّ، واحتفظ بنسخة منه، واكتب لى أسماء الرجال الذين قدروا قيمة الجزية ونسبهم وقراهم.

    واعلم أننى إن وجدت قرية حملت فوق طاقتها، أو فرض عليها أكثر مما يتطلبه العدل فى التقدير، أو إذا كانت قرية قد عجزت عن دفع القيمة المقررة من قبلهم فسأصيب المقدِّرين والعريف بعقوبة لا يحتملونها، وأغرمهم قيمة ما عجزت عنه القرية.

    فاقرأ عليهم كتابى هذا، وحثهم على أن يجعلوا مخافة الله نصب أعينهم، وأن يتوخوا الأمانة فى تقديرهم. ولا ترسل الكتاب إلىَّ حتى تنظر فيه، فإذا وجدتهم قد قدروا أقل من ذلك أو أزيد، فاكتب إلىَّ كيف فعلوا.

    ■ ■ ■

    من قرة بن شريك إلى بسيل صاحب أشقوه، فإنى أحمد الله الذى لا إله هو. أما بعد، فإن مرقس بن جريج (جورج) أخبرنى أنه كان يسأل نبطياً من أهل كورتك (منطقتك) ثلاثة وعشرين ديناراً وثُلث دينار فيزعم أن النبطى مات، وأنه أخذ ماله نبطىٌّ من أهل قريته، وغلبه على حقه. فإذا جاءك كتابى هذا، فإن أقام البينة على ما أخبرنى، فانظر مَنْ أخذ ماله، فعليه دينه. ولا يظلمن عندك إلا أن يكون شأنه غير ذلك، فتكتب إلىَّ به، ولا تكتب إلا بحق. والسلام على من اتبع الهدى.. فى صفر سنة إحدى وتسعين.

    ■ ■ ■

    من قرة بن شريك إلى بسيل صاحب أشقوه، فإنى أحمد الله الذى لا إله هو. أما بعد، فإن مرقس بن جريج أخبرنى أن له عشرة دنانير ونصف، على نبطى من أهل كورتك، فيزعم أنه غلبه حقه. فإذا جاءك كتابى هذا فإن أقام البينة على ما أخبرنى، فاستخرج له حقه، ولا يظلمن عندك، وإن كان شأنه غير ذلك، فلتكتب إلىَّ به. والسلام على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك إلى بسيل صاحب أشقوه، فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن بقطر بن جمول أخبرنى أن له أحد عشر ديناراً، على نبطى من أهل كورتك، فيزعم أنه غلبه على حقه. فإذا جاءك كتابى هذا، فإن أقام البينة على ما أخبرنى فاستخرج له حقه، ولا يظلم من عندك، إلا أن يكون له شأن غير ذلك فاكتب إلىَّ به والسلام على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك إلى بسيل صاحب أشقوه، فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو، فإن إبشادة بن أبنيلة قد أخبرنى أن له على أنباط من أهل كورتك (؟) عشرة دنانير، فيزعم أنهم غلبوه على حقه فإذا جاءك كتابى هذا وأقام البينة على ما أخبرنى فاستخرج له حقه ولا يظلمن عندك إلا أن شأنه غير ذلك، فاكتب إلىَّ به، والسلام على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك إلى زكريا صاحب أشمون العليا، فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن يحنس (يوحنا) بن شنودة أخبرنى أنه له ثمانية عشر ديناراً على أنبا صلم من كورته، وغلبه على حقه. فإن كان ما أخبرنى حقاً، وأقام البينة فاجمع بينه وبين صاحبه، فما كان له من حق فاستخرجه له، ولا يظلمن عندك، والسلام على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة إلى بسيل صاحب أشقوه. فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن داود بن بداس أخبرنى أن ماروت (عمدة) قريته دخل بيته بأسباب له ومتاع ظلماً بغير حق. فإذا جاءك كتابى هذا فاجمع بينهما، فإن كان ما أخبرنى حقاً، فاستخرج له حقه، ولا يظلمن عندك وادحر المروت عن بيوت الأنباط دحراً شديداً، والسلام على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك إلى.. مينا صاحب أهناس، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فاستوص بقوستة القسطال، وأعنه على استخراج حق إن كان له. والسلام على محمد النبى ورحمة الله.. فى ذى الحجة تمام سنة تسعين.

    ■ ■ ■

    بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك إلى بسيل صاحب أشقوه، فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنى قد أمرت بقسمة نواتية سفن مصر وسفن أهل الشام وبأرزق من يركب فيها من المقاتلة. فإذا جاءك كتابى هذا فمر أهل أرضك فليتقدموا فى صنعة الخبز وليحسنوا صنعته، فإنه لا يصلح الجيوش إلا الخبز الطيب. واعلم أنك إن ترسل بخبز غير طيب لا يقبل منك ويصبك فيه ما تكره. فابعث على صنعة هذا الخبز من يتعهده ويحسن صنعته، فإنى غير مرخص له فيه إن شاء الله. والسلام على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك إلى بسيل صاحب أشقوه، فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن أهل أرضك قد باعوا طعامهم (القمح) إلى التجار، ليحبسوا ما اشتروا بأيديهم (الاحتكار) فلا يبيعون منه شيئاً، تربصاً بالناس وانتظار غلاء السعر. وأيم الله، لأنبئنَّ برجل حبس طعامه أن يبيعه، إلا أنهبته. فانظر، فمن كان بأرضك من التجار الذين يشترون الأطعمة، ويجمعونها. فَمُرْهُمْ فليبيعوا طعامهم، ومُرْ كل تاجر فليحمل نصف ما عنده من الطعام إلى الفسطاط. واكتب إلىَّ مع كل تاجر يقدم (يأتى) من قبلك (جهتك) ما حمل حين يقبل. ثم مُرهم فليبيعوه بالفسطاط. فإنى قد أمرت صاحب المكس (جابى الضرائب) أن يعلم ما يقدمون به من ذلك، فإن الطعام نافق بالفسطاط، ليس يقدم أحد بطعام، إلا أنفقه. وانظر النصف الباقى فليبيعوه فى أهل الأرض، فإن لم ينفق فى الأرض فليحمله إلى الفسطاط، ولا تؤخرنَّ ذلك، ومُرْ به حين يأتيك كتابى هذا. وابعث على ذلك مَنْ ينفذه، فإنى قد أمرت العمال كلهم بذلك. فاكفنى ذلك، ولا ألومنك فيه. والسلام على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    من قرة بن شريك، إلى بسيل صاحب أشقوه. فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك قد علمت الذى كتبتُ إليك به، من جمع المال، والذى قد حضر (جاء موعده) من عطاء الجند وعيالهم وغزو الناس. فإذا جاءك كتابى هذا، فخُذْ فى جمع المال. فإن أهل الأرض (المزارعين) قد جمعوا منذ أشهر. ثم عجِّل إلىَّ بما اجتمع عندك من المال، بالأول فالأول. ولا أعرفنك ما خنستنا بما قِبَلك (تأخيرك للأمر) فإن أهل الأرض قد فرغوا من الحراثة، وعلموا ما عليهم، وصلحت أفراطهم لبيع ما أرادوا منها. فعجِّل عَجِّل بما اجتمع عندك من المال، فإنه لو قَدِمَ إلىَّ المال، أمرت للجند بعطاياهم إن شاء الله. فلا تكونن آخر العمال بعثاً بما قِبله. ولا ألومنك فى ذلك. والسلامُ على من اتبع الهدى.

    ■ ■ ■

    من قرة بن شريك، إلى بسيل صاحب أشقوه. فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن القاسم بن سيار، صاحب البريد، ذكر لى أنك أخذت قُراً فى أرضك (صادرت ملكية الأرض) بالذى عليهم من الجزية. فإذا جاءك كتابى هذا، فلا تعترضن أحداً منهم بشىء، حتى أُحدث إليك فيهم، إن شاء الله. والسلام على من اتبع الهدى. فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين.

    ■ ■ ■

    من قرة بن شريك، إلى بسيل صاحب أشقوه. فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فانظر الذى بقى على أهل أرضك، مما كان عبد الله بن عبد الملك، قسَّم عليهم من رزقه، ورزق حاشيته وعماله، فنفذه واستخرجه، ثم عجِّل إلىَّ به مع رسولى حين يأتيك، ورسول من عندك، ولا ترسلنَّ إلا بمال طيب، ولا تؤخرنَّ منه ديناراً واحداً. والسلام على من اتبع الهدى.. فى شهر ربيع الأول من سنة تسعين.


    ===============

    د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوى (٥/٧) .. رسائل (أخرى) لابن شَريك


    فى المقالة السابقة نشرتُ مجموعة رسائل للوالى الأموى، قرة بن شريك، الذى كان يحكم مصر ممثلاً للأمويين فى بداية التسعينيات من القرن الهجرى الأول، وقد أثارت هذه (الرسائل) التى بعثها ابن شريك إلى «باسيل» المتولِّى أمير منطقة «أشقوه»، اهتمامَ كثيرٍ من القراء.. وقد هاتفنى صديق (عزيز) مرة أخرى، ليعترض على ما جاء فى المقال! قال ما فحواه إننى اخترت رسائل معينة، بحيث يظهر ابن شريك بمظهر طيب، ولكن هناك رسائل (أخرى) تظهره على غير ذلك.. وإننى نظرت إلى «أشقوه» هذه ، كأنها تمثل عموم مصر، وما هى إلا قرية صغيرة. فلا عبرة بأن جابى الضرائب فيها (مسيحى) يعمل مع المسلمين، والمعروف أن الحكام المسلمين أنهكوا مصر بالجزية، وعذَّبوا الناس للحصول عليها.. هكذا قال.

    ■ ■ ■

    ولأن صديقى العزيز (عزيز) ولا ينـزلق مثل كثيرين، فى مهاوى التهليل والغوغائية، فقد رأيتُ لزاماً علىَّ، أن أؤجل اليوم كلامى عن «حياة الناس من واقع البرديات» إلى الأسبوع القادم، كى أرد على ملاحظاته واعتراضاته المهذَّبة، تقديراً لما يجمع بيننا من محبةٍ لا تشوبها الأغراض التى نعرفها عند رواة الخرافات وأساطين الواهين المتوهمين.

    والحقيقة، فإن هناك بالفعل رسائل (أخرى) لقرة بن شريك، قد يصل عددها إلى المئات، لكنها لا تخرج فى مضمونها العام عن الإطار الذى عبَّرتْ عنه الرسائل المنشورة بمقالة الأسبوع الماضى.. مع مراعاة أن قطع البردى (العربية) قد يصل عدد الباقى منها حالياً، إلى أكثر من مائة ألف ورقة، وتعد رسائل ابن شريك، التى احتفظ بها (باسيل) من أكمل المجموعات البردية.

    ■ ■ ■

    فإذا نظرنا فى رسالة (أخرى) لابن شريك، ظهر لنا أمرٌ طالما استتر عنا.. وملخصه كما يلى:

    فى العشرين سنة التى سبقت الفتح (الغزو) الإسلامى لمصر، عاشت البلاد أسوأ فترة فى تاريخها الطويل.. ففى هذه المدة القصيرة نسبياً، جاء هرقل بجيوشه التى يقودها «نيقتاس» ليخلع مصر من قبضة الإمبراطور «فوكاس» وما كاد الأمر يستقر بيد هرقل، حتى جاء الفرس فاحتلوا البلاد لمدة عشر سنوات، ثم غلب الروم الفرس فأخرجوهم من الشام ومصر، ودخلت جيوش هرقل ثانيةً. ثم جاء أبشع حاكم فى تاريخ بلادنا «المقوقس» ففعل فى الناس أسوأ الأفعال.. ومن بعد ذلك جاء المسلمون، أو جاء الإسلام، أو جاء الفتح العربى (بالمناسبة: الغزو مؤقت، والفتح هو ما يستقر) فعاشت البلاد قروناً تالية فى سلام، ولم تعد الحروب تُنهكها كما كان الحال قبل مجىء عمرو بن العاص.

    وكان الحكام والأثرياء قبل مجىء المسلمين، يعاقبون الناس فى مصر بقسوة شديدة، فمن ذلك، أن الروم (المسيحيين) يوم سلموا معسكرهم المسمى حصن بابليون (باب إليون) قطعوا أيدى عشرة آلاف رجل من المصريين اليعاقبة (المونوفيست= أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة= أتباع الكنيسة المرقسية) والذى ذكر ذلك، هم مؤرخو الأقباط لا المسلمين.. ومن مظاهر ذلك، أيضاً، أن أصحاب السلطان كانوا يؤدِّبون الناس (المصريين الفقراء) بلسع العقارب، أو بغمر أطرافهم فى الجير المخلوط بالخل! ولنقرأ الرسالة (البردية) التالية:

    «بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك، إلى باسيل صاحب أشقوه. فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو، وأما بعد، فلا أعرف أسوأ من التعذيب بغبار الجير والخل، فالمعذَّبون به لا يُرجى برؤهم (شفاؤهم) ويجعلهم عاجزين عن العمل، ولذلك، آمرك بكتابى هذا، ألا يعذَّب أحدٌ بغبار الجير والخل بعد اليوم، فإذا جاءك كتابى هذا، فأمُرْ جميع أصحاب القرى، ومَنْ هم فى خدمتك من عمالك، ألا يعذِّبوا أحداً بغبار الجير والخل، وإذا علمت بعد هذا، أن أحداً قد عذَّب بهذا الخليط، فسأعاقبك أشدَّ العقوبة، وأُغرمك أثقل الغرامة».

    ■ ■ ■

    وعلينا أن نلاحظ هنا، أن وصف باسيل بعبارة (صاحب أشقوه) هو الوصف المرادف للحاكم أو صاحب المنصب الأعلى فى المكان، بل كان المسلمون يستعملون وصف (صاحب البلد) للدلالة على الملك والإمبراطور، فيقولون مثلا عن فريدريك الثانى إمبراطور (ملك) صقلية، إنه: صاحب صقلية.. وهكذا.

    ولم تكن أشقوه بلدة صغيرة، وإنما تشبه ما نسميه اليوم (مديرية) أو (قطاع)، وهو ما كان يسمى فى المصطلح العربى المبكر (كورة).. وهذا ما تؤكِّده البرديات (الرسائل) التالية، التى بعث بها ابن شريك ليطالب بالمتأخر من الجزية المقررة على القرى، بعد ثلاث سنوات من موعد استحقاقها.. ولنقرأ:

    «بسم الله .. هذا كتاب من قرة بن شريك، لأهل (بلدة) هروس من كورة أشقوه: إنه أصابكم من جزية سنة ٨٨ (هجرية) ثمانية وعشرون ديناراً، وسدس دينار. كتبه راشد، فى صفر سنة ٩١ هجرية».

    «بسم الله.. هذا كتاب من قرة بن شريك، لأهل شبرا بقونس، من كورة أشقوه، إنه أصابكم من جزية سنة ٨٨ أربعمائة دينار وثمانية وتسعون ديناراً. ومن ضريبة الطعام (القمح) مائة وثمانية وعشرون إردب قمح ونصف أردب. وكتب راشد، فى صفر سنة ٩١ هجرية».

    «هذا كتاب من قرة بن شريك، لأهل شبرا بقونس، من كورة أشقوه. إنه أصابكم من جزية سنة ٨٨ مائة دينار وأحد وثلاثون ديناراً، وثلث دينار..».

    «من قرة بن شريك، لأهل شبرا بنان، من كورة أشقوه .. سبعة وأربعون ديناراً، وسُدس دينار، ومن ضريبة الطعام خمسة أرادب قمح.»

    «لأهل منية طورين من كورة أشقوه.. خمسة دنانير».

    «لأهل مُنية كنيسة مارية من كورة أشقوه.. ثمانية وتسعون ديناراً».

    «لأهل مُنية فردة من كورة أشقوه .. خمسة دنانير..».

    .. وهناك كثيرٌ من البرديات، على ذلك المنوال الدال على أن «أشقوه» كانت منطقة واسعة جداً، تضم بلاداً عديدة.. وأن الجزية لم تكن (مهولة) على النحو الذى يصوِّره اليوم المهوِّلون، إذ إن قيمة الدينار آنذاك، هى ما يساوى اليوم أربعة جرامات ونصف جرام من الذهب! وإذا حسبنا ما يعادل ذلك، من عملتنا اليوم، لعرفنا أن الحكومة المصرية الحالية تجبى من الناس، مسلمين ومسيحيين، أضعاف ما كان يدفعه الناس فى ذاك الزمان من جزيةٍ وخراج ومكوس. حسبما أشرنا إلى ذلك فى مقالة سابقة نُشرت هنا تحت عنوان: تحصيل الفلوس بالجزية أو بالمكوس (الضرائب على السلع).

    ■ ■ ■

    وفى رسائل ابن شريك (الأخرى) يظهر لنا أن «باسيل» لم يكن وحده المسؤول الكبير بالبلاد، من غير المسلمين، فهناك أيضاً: مينا (صاحب أهناس) وبطرس (قبَّال الذهب بمدينة أهناس).. وغيرهما كثير. وكان كتاب الديوان الأميرى، بحسب ما يظهر من أسمائهم الواردة فى نهايات الرسائل، هم من المسلمين والمسيحيين، ومن العرب والمصريين: راشد، عيسى، الصلت بن مسعود، جرير، وادع، عبد الله بن نعمان، بسيل، مرثد، مسلم بن لبنان.. وغيرهم، علماً بأن رسائل ابن شريك كانت تُكتب أحياناً بالعربية واليونانية والمصرية (القبطية) ويبدو أن هذه اللغات جميعاً كانت سواسية عند أهل هذا الزمان، وهو ما يدل بطريقة غير مباشرة على أن الصورة لم تكن قاتمة على النحو الذى يروِّج له اليوم بعض المروِّجين المتلاعبين بعقول المعاصرين، بهدف إذكاء الكراهية بدلاً من المحبة.. المحبة! كيف ضاعت معانى هذه الكلمة ، وسقطت من بين أصابعنا؟

    وفى رسائل ابن شريك (الأخرى) ترد إشارة إلى أمر مهم، طالما كان يحيرنى وهو: كيف استطاع المسلمون بعد سنوات قليلة من فتح مصر، بناء أسطول بحرى استطاع عبور المتوسط والالتحام بالأسطول البيزنطى، وهزيمته فى معركة (ذات الصوارى) التى سميت بذلك من كثرة «صوارى» السفن، التى التحمت هناك.. والمعروف أن العرب، سكان الجزيرة، لا خبرة لهم فى ركوب البحر.

    وكان بعض المؤرخين الكبار (فى السنِّ) يؤكدون أن اليعاقبة فى مصر، هم الذين ساعدوا المسلمين فى بناء هذا الأسطول، أو هم الذين بنوه لهم! هذا قولهم الذى ظل دوماً يفتقر عندى إلى الدليل.. لأن الحكام المسيحيين (الملكانيين) الذين حكموا مصر قبل مجىء العرب المسلمين، لم يكونوا يسمحون للمسيحيين (اليعاقبة) بالاشتراك فى الصناعات العسكرية وأمور القتال، لأنهم يرونهم خونة للبلاد ومخالفين للعقيدة القديمة التى يؤمن بها الروم الأرثوذكس.. بعبارة أخرى: كان الحكام يرون الأقباط كفرة!! فكيف استطاع الأسطول المصرى، بقيادة عبد الله بن أبى سرح، هزيمة الأسطول البيزنطى بعد حوالى عشر سنوات من فتح مصر.

    وأعتقد، وقد أكون مخطئاً، أن (العرب) هم الذين صنعوا هذا الأسطول. أعنى العرب الذين صاروا من بعد ذلك مسلمين، لكنهم كانوا قبل ذلك يعيشون بمصر والشام فى جماعات تصل أعدادها إلى مئات الآلاف. فهؤلاء هم الذين صنعوا بالشام السفن التى جاء بها جناح الأسطول الذى قاده معاوية بن أبى سفيان.. وهم الذين صنعوا بمصر، الأسطول الذى حارب به، وانتصر، عبد الله بن سعد بن أبى سرح.

    وكان البحارة يُعرفون فى ذلك الزمان، باسم (النواتية) والمفرد نوتى (وهى كلمة يونانية الأصل تعنى البحار).. ولنقرأ هذه الرسائل، مع مراعاة أن (الأنباط) هم جماعة كبيرة من العرب، سكنت مصر قبل مجىء الإسلام بقرون:

    «أما بعد، فإنى قد أمرت بقسمة نواتية سفن مصر وسفن أهل الشام وبأرزاق من يركب فيها من المقاتلة».

    «من قرة بن شريك إلى أهل مدينة أشقوه، فأعطوا لصنعة العين والقوادس والسفن فى جزيرة باب إليون قِبَل عبد الأعلى بن أبى حكيم سنة تسعين لجيش سنة إحدى وتسعين نبطياً نوبجين ونجاراً وجلفاطاً ومعيشتهم لثلاثة أشهر، فإن أعطيتم الأجر فأعطوا فى أجر كل نوبج دينارين، وفى أجر كل رجل جلفاط ديناراً ونصفاً، وفى أجر نبطى نجار ديناراً وثلثاً فى كل شهر».

    من قرة بن شريك إلى أهل بندة من مدينة أنصنى، فأعطوا لبعث نواتية سفن أمير المؤمنين إلى إفريقية قِبَل عبد الله بن موسى بن نصير سنة أربع وتسعين لجيش سنة خمس وتسعين نوتيين ونصف نوتى. فإن أعطيتم الأجر فأعطوا فى أجر كل نوتى ديناراً وسدس دينار تدفع لهم من بيت المال، وكتب الأثير عن عمبس بن كومناس من سنة أربع وتسعين.

    ■ ■ ■

    وفى رسائل ابن شريك (الأخرى) مسألة مهمة ومنسية فى الآن ذاته، تتعلق بالجوالى (جمع: جالية) وهم جماعات كبيرة من اليهود والمسيحيين الشوام كان العرب قد دفعوا بهم إلى مصر قبيل الفتح، وبعده تنفيذاً للقاعدة التى استند فيها الفِكر السياسى الإسلامى المبكر إلى حديث نبوى يقول: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب! .. وهو ما تعرضت له فى روايتى الأخيرة (النبطي) بحسب ما يسمح به السياق الروائى وتصاعد الأحداث، والمسألة التى تظهر فى البرديات تتعلق بمراوغة هذه الجاليات (الجوالي) وتهربهم من دفع الضرائب العامة، أو الجزية المفروض عليهم دفعها بدلاً من اشتراكهم فى الأعمال العسكرية.. يقول ابن شريك لواحد من حكام الكور (بداية سنة ٩٠ هجرية):

    «فإذا جاءك كتابى هذا.. ويعامل الذين جلوا من الكور بمقتضى الأوامر المدرجة فى حاشية الكتاب. ويُرسل لهم رجال ذوو كفاية وأمانة، ممن يحسنون الكتابة، ومعهم أوامر لرسل بمتابعة الجوالي. وعليهم أن يكتبوا بحضورهم كتاباً فيه اسم كل جالٍ ونسبه، وعن أى القرى جلا، وإلى أى القرى لجأ.. ومُرهم أن يباشروا عملهم بهمة ونشاط، وألا يأخذوا من أحد رِشوة. وإذا علمت أن أحد الرجال الذين ترسلهم قد ارتشى، فسيصيبك منى ما تكره وتُعاقب أنت والمذنب سواء. وعجل بإرسال الرجال إلى أصحاب الكور لأجل الجوالي، ولا أعرفنّ أنك قصرت أو أخرت إرسال الرجال الذين كتبت إليك فيهم، لئلا يحيق بك خطر».

    وهناك رسائل أخرى تتعلق بهذه (الجاليات) لكن المجال لا يسمح بإيرادها كاملةً.. مع أنها رسائل بديعة، تدعو إلى العجب من الانضباط الإدارى فى مصر آنذاك.

    ===============


    د. يوسف زيدان يكتب: تاريخنا المطوىّ (٦-٧) .. مصر والنوبة



    البردية النادرة (الخطيرة) التى نتوقف عندها اليوم، تتعلق بناحية النوبة، جنوبى مصر، وتكشف أموراً مهمة لا بد لنا قبل الخوض فيها، أن نُلقى بعض الضوء على المسألة النوبية:

    لم يفتح المسلمون النوبة، ولا استطاعوا غزوها، فظلت زمناً طويلاً بعيدةً عن إطار دولة الإسلام. وقُدامى المؤرخين، المسلمين، يعلِّلون هذا التأخير فى دخول النوبة، بأن النوبَ (النوبيين) كانوا مهرةً فى التصويب بالسهام من فوق النخل، حتى إنهم كانوا يصيبون بالنشاب (السهام) العيونَ والأحداق! ولذلك أطلق المسلمون الأوائل على النوب، اسم: رُماة الحدق.

    ويحكى لنا «ابن عبدالحكم» فى كتابه (فتوح مصر وأخبارها) وهو الكتاب الذى يعد من أوائل المصادر التاريخية التى أرَّخت لدخول المسلمين هذه البلاد.. يحكى أن الخليفة عثمان بن عفان، جعل أخاه فى الرضاعة «عبد الله بن سعد بن أبى سرح» والياً على مصر، وخلع عنها «عمرو بن العاص» الذى فتحها. وقد استكمل الوالى الجديد الفتوحات التى بدأها عمرو، وانتصر على أسطول الروم فى الموقعة المسماة «ذات الصوارى» لكثرة صوارى السفن التى اشتركت فيها. ثم أراد التوسُّع بدولة الإسلام، جنوباً، وهو ما يرويه ابن عبدالحكم، على النحو التالى:

    ثم غزا عبدالله بن سعد الأساود، وهم النوبة، سنة إحدى وثلاثين هجرية (٦٥٢ ميلادية) قال يزيد بن حبيب: كان عبدالله عامل (والى) عثمان على مصر، فقاتلته النوبة، قال ابن لهيعة: اقتتلوا قتالاً شديداً، وأصيبت يومئذٍ عينُ معاوية بن حُديج، وأبى شمر بن أبرهة، وحَيْويل بن ناشرة. فيومئذ سُمُّوا رماة الحدق، فهادنهم عبدالله بن سعد، إذ لم يطقهم.

    ■ ■ ■

    وعندى هنا رأى آخر، وقد أكون مخطئاً، يفسِّر عدم دخول المسلمين النوبة، حتى القرن (الرابع) الهجرى.. إذ إن قصة «رماة الحدق» هذه، حتى إن صحَّت، فهى لا تفسِّر التأخر الطويل فى فتح هذه الناحية. فالمسلمون الأوائل واجهوا فى فتوحاتهم الأولى ما هو أشد أثراً من السهام المصوَّبة على الأعين! فقد واجهوا «فيلة» الفرس فى العراق، و«جحافل» الروم فى الشام، والأساطيل البحرية التى لم يكن عندهم خبرة بقتالها.. وغير ذلك من المعضلات التى ابتكروا لها حلولاً، يضيق المقام هنا عن عرضها، لكنهم فى نهاية الأمر تغلَّبوا عليها وغلبوا أولئك وهؤلاء، ونزعوا سلطانهم عن البلاد. فلم يكن عصياً عليهم، أن يجدوا حلاً للسهام، وهم الذين طالما استعملوا القوس والنشاب، وتفنَّنوا فى مواجهة رماة الروم عند حصار دمشق.. فالمسألة ليست مهارة (رماة الحدق) فى التصويب من فوق النخل!

    والرأى عندى، أن نواحى النوبة لم تكن مطروقةً من العرب، قبل الإسلام، بشكل جيد. مثلما كان الحال فى العراق والشام ومصر، ففى هذه البلاد، كان مئات الآلاف من العرب يستقرون، أو يأتون بقوافل التجارة، أو يندمجون مع الطبقة الحاكمة حتى صار البعض منهم، وهم العرب، حكاماً.. ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك، أن الحاكم الرومى لبادية الشام عند ظهور الإسلام، كان «فروة بن عمرو الجذامى» وحاكم الروم على دمشق، وهو الذى سلَّمها للفاتح «خالد بن الوليد» كان اسمه: منصور.

    لكن النوبة لم تكن مقراً للعرب، ولا مستقراً مؤقتاً لقوافلهم، لأنها بلادٌ قاحلة (رغم مرور النيل بها) لا تزرع القمح ولا تنتج ما يمكن أن يجذب العرب للتجارة أو للإقامة.. ولأننى أعتقد أن مئات الآلاف الذين استقروا بمصر من قبل «الفتح» بزمان طويل، وكانوا من العرب «الأنباط» وغير الأنباط، كان لهم دورٌ رئيسى فى فتح البلاد، وقد أبالغ وأقول إنه دورٌ أهمُّ من ذلك الذى قام به جيش عمرو بن العاص! فإننى أعتقد أن خلوَّ النوبة من العرب هو السبب الأول فى عجز المسلمين عن فتحها.. ولتكن بعد ذلك أسبابٌ أخرى، مثل قصة «رماة الحدق» أو ما قيل عن أن «ملك» النوبة كان رجلاً قوياً.. فمهما تكن قوته أو قوة خلفائه، فإنها لا تدوم مئات السنين فى ناحية قاحلة، يقوم اقتصادها على تجارة العبيد المجلوبين من جوف أفريقيا، أو الهاربين من ظروفها الصعبة المهدِّدة فى ذاك الزمان لحياة الأفراد، مثلما هو الحال اليوم.. (مثال: حرب الإبادة ببين قبيلتىْ الهوتو والتوتسى فى رواندا).

    ■ ■ ■

    ولا يفوتنا، قبل الدخول إلى نص البردية، تلك العبارة القصيرة التى وردت فى النص السابق من كتاب (فتوح مصر) حيث ورد قوله «قاتلته النوبة..» مما يعنى أن الذى ابتدأ الأمر لم يكن جيشاً إسلامياً بادر الزحف إلى هناك، مثلما هو الحال فى بقية الفتوح الكبرى، وإنما كان الأمر مجرد رَدٍّ على تهديد للصعيد، الذى استقر فيه الفتح العربى من غير أن تدخله الجيوش الإسلامية الكبيرة.. وما كان هناك داعٍ لدخولها إلى هناك! لأن بلاد الصعيد كان فيها من العرب، المسيحيين وغير المسيحيين، أعدادٌ كبيرة. وقد ذكر المؤرخون اليونانيون القدماء، أن «قفط» وهى من كبريات المدن بالصعيد، كان ستون بالمائة من أهلها فى القرن الخامس الميلادى، من العرب.

    ومن هنا، نفهم السبب فى أن الوالى «عبدالله بن سعد» هادن النوبة ولم يُطقهم، وصالحهم على هدنة أورد المؤرخون (ابن عبدالحكم، وغيره) بنودَها، كالتالى: لا يغزو «النوبيون» المسلمين، ولا يغزوهم المسلمون. ويؤدون فى كل سنة عدداً من العبيد (ما بين ثلاثمائة وأربعمائة) الذين كانوا يُسمّون آنذاك «البَقَط» وفى المقابل، يؤدى لهم المسلمون كلَّ سنة القمح والعدس .. وقد ذكر ابن عبدالحكم، أن (برديةً) كانت محفوظة فى الفسطاط، قرأها البعض قبل أن تنخرق- بحسب تعبيره- وحفظ منها التالى:

    «إنا عاهدناكم وعاقدناكم، على أن تُوَفُّونا فى كل سنة، ثلاثمائة رأس وستين رأساً (من العبيد) وتدخلون بلادنا (مصر) مجتازين غير مُقيمين، وكذلك ندخل بلادكم. على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلاً، فقد برئتْ منكم الهُدنةُ. وإذا آويتم للمسلمين عبداً (هارباً) فقد برئتْ منكم الهُدنة. وعليكم ردُّ أُبَّاق المسلمين (الهاربين) ومن لجأ إليكم من أهل الذمة.

    ■ ■ ■

    والبردية التى سنقرأ نصَّها بعد قليل، تتعلق بالمسألة النوبية. وهى ترجع إلى منتصف القرن الثانى الهجرى، لأن كاتبها (أو بالأحرى: مُرسلها إلى النوبة) هو الوالى «العباسى» على «مصر» موسى بن كعب.. الذى تولَّى منصبه فى الفترة من سنة ١٤١ إلى سنة ١٤٣ هجرية (٧٥٨- ٧٦٠ ميلادية) وكانت النوبة آنذاك مستقلة عن دولة الإسلام، وكان أهلها قد صاروا مسيحيين. ويظهر لنا من النص التالى، الذى نشره د. سعيد مغاورى فى كتابه (البرديات العربية فى مصر الإسلامية) أن النوبة كانت لا تزال على حالها الأول، من (مناكفة) المسلمين.. نقرأ:

    «بسم الله .. من موسى بن كعب، إلى صاحب نوبة: سلام على أولياء الله وأهل طاعته، وأحمد الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فقد عَرَفتَ الذى صولحتم عليه، والذى جعلتم على أنفسكم من الوفاء به، فأحرزتم بذلك دماءكم وأموالكم إن أنتم وفيتم به، والله تعالى يقول فى كتابه (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم..).

    وقد وفينا لكم بالذى جعلنا لكم من الكفِّ عن دمائكم وأموالكم، وعَرَفْتَ أمْنكم فى بلادنا، وسكونكم حيث أحببتم منها، وباختلاف (انتقال) تُجَّاركم إلينا، لا يصل إليهم منا ظلمٌ، ولا غُشم .. وأنتم فيما بيننا وبينكم على غير ذلك، لا تؤدون إلينا ما عليكم من البقط الذى صولحتم عليه، ولا تردون من أَبَق (هرب) إليكم من أرقَّائنا، ولا يأمن فيكم تُجَّارنا، ولا تعجِّلون تسريح (عودة) رسلنا.

    وأنت تعرف أن أهل الأديان كلها، والملل الذين لا يعرفون رباً ولا يؤمنون ببعثٍ ولا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، لا يهجمون تاجراً، ولا يحبسون رسولاً. وأنت تُظهر لأهل مِلَّتك الإيمان بالذى خلق السماوات والأرض، وما بينهما، وتؤمن بعيسى بن مريم وبكتابه (الإنجيل).. وعملكم فيما بيننا، مخالفٌ لما تُظهر، فقد أتاكم تاجر من تجار بلدنا (مصر) يقال له سعد، فحبستموه.. وبعث إليكم رجلٌ من أهل أسوان، يقال له محمد بن زيد، تاجراً له فى تجارة، فاحتبستموه وما كان معه من المال.. وبعث إليكم سالم بن سليمان، عاملى على أسوان، رسولاً له منذ تسعة أشهر، ورسولاً منذ أربعة أشهر، فحبستموهما معاً عندكم.

    وقد ذُكر لى أن عليكم بَقَطَ سنين، لم تؤدوه. وما بعثتم به من البَقَط، لا خير فيه. بين أعور أو أعرج أو كبير ضعيف أو صبى صغير.. فانظرْ فيما كتبتُ إليك به، وعجِّلْ البعثة (الإرسال) إلينا بما بقى عليكم من البَقَط، للسنين التى قبلكم. ولا تبعث بما لا خير فيه، وابعثْ إلينا بالتاجر محمد بن زيد، وبما كان معه من المال، إلا أن يكون قد قُتل، فتبعث بألف دينار، ديَّته، وبما كان معه من مال. وابعثْ إلينا سعد التاجر الذى قِبلكم (عندكم) ولا تؤخِّر من ذلك شيئاً، إن كنتم تحبون أن نَفى لكم بعهودنا، ونكون على ما كنا عليه من الاستقامة لكم، وعجِّل ذلك ولا تؤخِّره.. كتب (الرسالة) ميمون (كاتب الديوان) يوم الأحد، لاثنتىْ عشرة ليلة بقيتْ من شهر رجب، سنة إحدى وأربعين ومائة».

    ■ ■ ■

    ويلفت النظر فى الرسالة السابقة، ما ورد فيها من إشارة إلى (سالم بن سليمان، العامل على أسوان) وهو ما يؤكد أن المسلمين كانت لهم سلطة سياسية على ما يقع جنوب النوبة.. وهو ما يقودنا إلى النظر فى الحدود الجغرافية، والتاريخية، لما أسماه العرب والمسلمون: بلاد النوبة.

    وفى زمن الحكم الشيعى (الفاطمى) لمصر، دخلت النوبةُ فى الإسلام رويداً، فعاشت الألف سنة الماضية ضمن النسيج المصرى (العربى/ الإسلامى) مع احتفاظها بكثير من السمات الثقافية الفرعية التى طالما ميَّزت أهل النوبة.. وقبل (الهوجة) التى نشهدها مؤخراً، قامت فى السبعينيات (هوجة) مماثلة تتعلق بالمسألة النوبية! فقد حاول البعض، من خارج مصر وداخلها، استثمار الحنين النوبى إلى الأرض التى تم تهجير النوبيين منها بسبب بناء السد العالى.. وظهرت دعوات مفاجئة تنادى بالاستقلال الثقافى للنوبة، وضرورة الاهتمام باللغات النوبية (وليس اللغة النوبية الواحدة!) وأهمية الأدب النوبى.. إلخ .. إلخ. لكن عقلاء المثقفين المصريين المعاصرين، من ذوى الأصول النوبية، انتبهوا إلى (الشرِّ) الكامن خلف هذه الدعوات (الدعاوى) فصرفوا جهدهم لمقاومتها، حتى انصرفت بسلام.. وأرجو الله أن تنصرف بقية (الهوجات) بسلام مماثل.



 

المواضيع المتشابهه

  1. ___""""""""الاسطورة لكزس gs الكوبيه تنتظركم في عام 2013 """"""""___
    بواسطة S O P H O S في المنتدى تـويوتـــا
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 20-06-2012, 07:11 PM
  2. مختصر قصة الفتنة " نتعلم من تاريخنا لحاضرنا "
    بواسطة م.احمد زكريا في المنتدى المنتــــــدى الاجتمــاعى
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 20-02-2012, 09:31 PM
  3. يا جماعه محتاج مساعده سريعه لضيق الوقت """"""""""""""
    بواسطة ama79 في المنتدى المنتــــــدى العـــــــــــام للسيــارات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 29-09-2008, 04:45 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 PL2