“بَسْ دقيقة”
كنت أقف في دوري على شباك التذاكر لأشتري بطاقة سفر في الحافلة إلى مدينة تبعد حوالي 350 كم، وكانت أمامي سيدة عجوز في الستين من العمر قد وصلت إلى شباك التذاكر وطال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً.
فابتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري تذكرتي سألت الموظفة عن المشكلة، فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن تذكرة السفر وينقص منها خمسة جنيهات
قلتُ لها: هذه الخمسة جنيهات وأعطها التذكرة. وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُ السيدة مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجدداً.
اشترت السيدة تذكرتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلا أنها لم تفعل، بل انتظرتْ لتطمئن إلى أنني اشتريت تذكرتي وسأتوجه إلى ساحة الانطلاق، فقالت لي بصيغة الأمر:
احمل هذه… وأشارت إلى حقيبتها.!!!
كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لهؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل بدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا سويا إلى الحافلة، ومن الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي تماماً في الدور حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر الاشجار والخضرة انه الربيع
لكن السيدة منعتني و جلستْ هي من جهة النافذة دون أن تنطق بحرف، فرحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها اهتماماً، إلى أن التفتتْ إلي تنظر في وجهي وتحدق فيه، وطالت التفاتتها دون أن تنطق بشئ وأنا أنظر أمامي، حتى إنني بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها لكنني أشعر بها، فالتفتُ إليها.عندها تبسمتْ قائلة:

كنت أختبر مدى صبرك وتحملك.

- صبري على ماذا ؟

- على قلة ذوقي. أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر.

– لا أظنك تعرفين، وليس مهماً أن تعرفي.

– حسناً، سأقول لك لاحقاً، لكن بالي مشغول كيف سأرد لك الدين.

- الأمر لا يستحق، لا تشغلي بالك.

- عندي حاجة سأبيعها الآن وسأرد لك الخمسة جنيهات ، فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك ؟

- هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي ؟

- إنها حكمة. أعطني خمسة جنيهات لأعطيك الحكمة.

- وهل ستعيدين لي خمسة جنيهات إن لم تعجبني الحكمة ؟

– لا، فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن الخمسة جنيهات تلزمني لأنني أريد أن أرد به دَيني.
أخرجتُ الخمسة جنيهات من جيبي ووضعتها في يديها وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها. لا زالت عيناها جميلتين تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبرون عن ذكاء ثعلبي. مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقين أنها ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها.
أغلقت أصابعها على هذه الورقة النقدية التي فرحت بها كما يفرح الأطفال عندما نعطيهم بعض النقود وقالت :

أنا الآن متقاعدة، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأزور إحدى صديقاتي إلتي توفى زوجها و أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلا أن سائق التاكسي أحرجني وأخذ مني الاجرة بزيادة، ولم انتبه لما تبقى معي من نقود انها تنقص خمسة جنيهات
أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك.
ستقول لي بأن المبلغ بسيط سأقول لك أنت سارعت بفعل الخير ودونما تفكير.

قاطعتُ المرأة مبتسماً : أتوقع بأنك ستحكي لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ ؟ أين الحكمة ؟
- “بَسْ دقيقة”.

- سأنتظر دقيقة.

- لا، لا، لا تنتظر. “بَسْ دقيقة”… هذه هي الحكمة.

- لم أفهم شيئاً.

- لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية احتيال ؟

- ربما.
- سأشرح لك: “بس دقيقة”، لا تنسَ هذه الكلمة. في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً، عندما تفكر به وعندما تصل
إلى لحظة اتخاذ القرار أعطِ نفسك دقيقة إضافية، ستين ثانية. هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج
خلال ستين ثانية ؟ في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل إصدار قرارك قد تتغير أمور كثيرة، ولكن بشرط.

– وما هو الشرط ؟

- أن تتجرد عن نفسك، وتُفرغ في دماغك وفي قلبك جميع القيم الإنسانية والمثل الأخلاقية دفعة واحدة، وتعالجها معالجة موضوعية ودون تحيز، فمثلاً: إن كنت قد قررت بأنك صاحب حق وأن الآخر قد ظلمك فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد عن نفسك ربما تكتشف بأن الطرف الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء منه، وعندها قد تغير قرارك تجاهه. إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً.
دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية. دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن هواك. دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة قوم بأكملهم… هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة ؟
– صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ الخمسة جنيهات

-ردت لى الخمسة جنيهات قائله: تفضل، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر. والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي.
أعطتني الخمسة جنيهات. تبسمتُ في وجهها واستغرقت ابتسامتي أكثر من دقيقة، لأنتهبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني بحنان ذكرتني بأمي قائله
: هل تعلم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي، فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب خمسة جنيهات من أحد.

- حسناً، وماذا ستبيعيني لو أعطيتك مئة جنيه ؟

- سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً.

علتْ ضحكتُنا في الحافلة وأنا أُمثـِّلُ بأنني أريد النهوض ومغادرة مقعدي وهي تمسك بيدي قائلة:

اجلس، فزوجي متمسك بي وليس له مزاج أن يموت قريباً!

وأنا أقول لها : “بس دقيقة”، “بس دقيقة”… لم أتوقع بأن الزمن سيمضي بسرعة. كانت هذه الرحلة من أكثر رحلاتي سعادة، حتى إنني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ الحافلة عندما وصلنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريباً قبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتصل من هاتفها المحمول بابنها كي يأتي إلى المحطة ليأخذها، ثم التفتتْ إليّ قائلة:

على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد.

فأعطيتها هاتفي المحمول لتتصل المفاجأة أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً استلمتُ رسالتين على هاتفي المحمول ، الأولى تفيد بأن هناك من دفع لي رصيداً بمبلغ 100 جنيه ، والثانية منها تقول فيها:
كان عندي رصيد في هاتفي لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك.
إن شئت احتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فاعلم بأن لك فيها أمّاً ستستقبلك.
فرددتُ عليها برسالة قلت فيها:
أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية، أشكركِ على الحكمة واعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير.

“بس دقيقة”
… حكمة أعرضها للبيع، فمن يشتريها مني في زمن نهدر فيه الكثير الكثير من الساعات دون فائدة ؟


منقول بعد الضبط !