د. نبيل فاروق يكتب.. ماذا بعد الثورة ؟!
سبحان الله الواحد القهَّار ، المعز المذل ..الثورة نجحت.
الثورة، التى تنبئنا بحدوثها، ورفض الطغاة تصديق إمكانية هذا، نجحت، وأزاحت الطغاة، ورسمت ملامح (مصر) جديدة.
الشباب المصرى لقن العالم كله درساً، أشاد به ملوك ورؤساء (ليسوا عرباً بالطبع)، ورفع رأس كل مصرى، فى كل مكان فى الدنيا.
الشباب أطلقوا أول ثورة اليكترونية فى التاريخ .. وأوَّل ثورة سلمية.. وأوَّل ثورة شبابية تماماً.
الثورة حتماً سيسجلها التاريخ ، باعتبارها ثورة شبابية ، رقمية ، سلمية ..
وعندما خرج الشباب ، ينادون بالثورة ، كانت مطالبهم واضحة صريحة ..حرية .. ديمقراطية ..
عدالة إجتماعية ..ثم، وكما تنبأنا من قبل تماماً ، لعب الأمن الدور الوحيد الذى يجيده ، والذى لم يمارس سواه ، منذ ثلاثة عقود ..القمع.
وكان من الممكن أن تظل محدودة ، لو وقف الأمن محايداً ، وترك الشعب يعبر عن إرادته الحرة ، التى كفلها له الدستور ..ولكنه لم يستطع.
فمشكلة الأمن الرئيسية، ليست فى انه قد تبنى سياسة قمعية فحسب ، ولكن ايضاً فى انه استعراضى النزعة .. همه الوحيد ، هو أن يثبت للقيادة السياسية ، أنه حامى الحمى ، وحارس الديار ، والغضنفر الهمام ..لذا ، فقد تدخل الأمن .. وبعنف .
كان التصوَّر التقليدى ، هو أن الناس ستخاف وتهرب وتصرخ وتولول ، عندما يخرج الأمن عصاته ..ولكنها ثورة شباب .. وهذا يختلف .. وهذا أيضاً ما لم يفهمه أمن القمع والاستعراض البالى .
وكما تصدى الأمن للمتظاهرين، تصدى المتظاهرون للأمن .. وأدرك الامن تلك الحقيقة المرة، التى غابت عن ذهنه طويلاً .. أنه .. ومهما كان تعداده وعداده .. أقلية .
وانهزم الأمن أمام الشعب .. ولجأ بعض قادته، من الخونة، الذين يستحقون أشد العقاب، إلى إحداث حالة من الإنفلات الأمنى، حتى تربك الشعب، وتخضعه، وتصيبه بالرعب والفزع.
ولكن رب ضارة نافعة.. شباب (مصر) أيضاً خرجوا، لحماية بيوتهم وأسرهم وأحيائهم وأحبائهم.. وكان الانتصار الثانى.
الشباب الذى احتمل قنابل الغاز، والبلطجة، والرصاص المطاطى والحي، وسالت دماء شهدائه فى ميدان التحرير، تصدى للبلطجة والانفلات الأمنى .. وحمى مصر.
سقط الأمن إذن.. وسقطت البلطجة، ثم سقط بعدهما النظام كله.
عمالقة، كانوا ملء الأسماع والأبصار، انحنت رءوسهم، وجمدت أرصدتهم، ومنعوا من السفر تمهيداً لمحاكمتهم.
الحزب الذى كان دليل قوة، صار اليوم دليل عار وانكسار.. وسبحان المعز المذل.
انتهت الثورة، وحققت أهدافها الرئيسية، وخرج شبابها، ململماً جراحه، متجاوزاً عذاباته، ليقوم بأروع عمل فى التاريخ كله.. تاريخ الثورات.
الشباب أمسك أدوات جديدة، لينظف بها (مصر).. ويالها من روعة!!.
لقد أضافوا إلى ثورتهم صفة جديدة، فصارت أول ثورة شبابية، رقمية، سلمية، نظيفة فى التاريخ.
شعوب العالم وقادته انحنوا احتراماً لذلك الشباب العظيم، وتسابقوا فى الاشادة به، حتى أن الرئيس الامريكى طلب تدريس هذا للشباب الامريكى، ليتعلم كيف تكون عظمة الشباب.
فالشباب عندنا حرروا (مصر)، وحموا (مصر) ونظفوا (مصر).
ثم جاءت اللحظة التالية.. اللحظة، التى كان ينبغى أن نجنى فيها ثمرة ما فعله شباب (مصر) الرائع .. وكانت المشكلة، ان الكبار دخلوا الصورة.. من الباب الخاطئ.
الشباب كانت مطالبهم وطنية حرة عامة.. الشباب أرادوا لمصر والمصريين، شباباً، ورجالاً، ونساءً، وشيوخاً، واطفالاً، مسلمين ومسيحيين.. أرادوا لهم جميعاً الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ثم جاء الكبار، ليفتتوا كل هذا بمطالب فئوية، واحقاد قديمة، وإطلاق للغل والنقمة من النفوس.
الشباب أرادها سلمية، والكبار أفسدوها فئوية.
الكبار، لضعف ثقافتهم عن الشباب، تصوروا أنها فرصة للفوز بما عجزوا عن الفوز به فيما سبق، فانطلق كل منهم يمارس لعبة الإضرابات والتظاهرات، من أجل مطالب، ربما كان الكثير منها عادلاً، ولكن يستحيل تحقيقها بهذه السرعة.
الشباب بنو (مصر) جديدة.. والكبار يهدمونها.
الكل يريد زيادة فى راتبه، وكأن ميزانية الدولة ستزداد فى يوم وليلة، وستصبح فجأة، قادرة على تلبية كل هذه المطالب، فى أيام قليلة، وتوقفت فيها عجلة الانتاج، وانخفض خلالها العائد القومى، وفرًَّت أثناءها استثمارات عديدة.
وأحداً لم يشرح لهم كم أن هذا يدمرهم، حتى ولو تحققت مطالبهم.
فتوقف الانتاج، يعنى تدهوراً فى الاقتصاد، وانخفاضاً فى العائد القومى، وبالتالى انخفاض فى قيمة الجنيه المصرى ذاته، أى أنهم، حتى ولو حصلوا على زيادة بهذا الأسلوب،
سيفاجئون بان دخولهم، مع زيادتها، لم تعد قادرة على تلبية المطالب نفسها، التى كانت تلبيها قبل الزيادة.
حسبة اقتصادية بسيطة، لم يشرحها لهم أحد.. ولم يدركوها هم.. للأسف.
الشباب، أثبتوا فى ثورتهم، انهم يعرفون معنى المسئولية، والكبار أثبتوا، بعد ثورة الشباب، انهم يجهلون تماماً ما تعنيه كلمة مسئولية.
حتى القطاع المصرفى، الذى كنت اتصوَّر أنه أكثر من يدرك خطورة العبث باقتصاد دولة كاملة، توقف عن العمل، حتى تنفيذ مطالبه، ليشل عجلة الانتاج بأكملها، ويرتكب فى حق دولة، ما يمكن أن اسميه – وبلا تحفظ – خيانة.
الخيانة ليست فقط فى أن تعمل – على نحو مباشر – مع العدو .. الخيانة أيضاً فى أن تعمل، عن جهل، لإضعاف دولتك فى مواجهة اعدائها.
وهذه الخيانة أشد ضرراً وتأثيرها ؛ لأنها تهدم الكيان من الداخل، فيصبح هشاً، ويسهل على العدو – أى عدو - هدمه من الخارج.
الشباب، ويا للعظمة، حرروا (مصر)..والكبار، ويا للعار، يهدمون (مصر).
الشباب، الذى ظلوا يتهمونه لعقود، بانه شباب تافه ومستهتر وغائب عن الوعى، ومنعدم الثقافة، أثبت، عندما جد الجد، أنه أسود (مصر) ونمورها، وحماتها ومفجرى ثورتها.
والكبار،الذين طالما اتهموهم، أثبتوهم أنهم هم المستهترين، الغائبين عن الوعى، غير المدركين لمسئوليات اللحظة.
فماذا أقول؟!..بل وما الذى يمكن أن يقال، وسط فوضى فئوية غير مسئولة، تعقب ثورة عظيمة غير مسبوقة؟!.
الواقع هو أن كل ما يمكننى قوله، هو أن أطلب من الشباب أن يقوموا بدور جديد، ما داموا هم الوحيدون، الذين يمكن الاعتماد عليهم، فى هذا البلد.
أطلب من الشباب أن يعلموا الكبار.. علموهم ان الوطن اوَّلاً .. أن (مصر) فوق كل شئ.
علموهم ان التغيير قد حدث، والقفز من الصفر إلى المائة، لا يتم فى يوم وليلة، ولا حتى فى أسبوع او اثنين.
علموا الكبار يا شباب أن يصبروا، ويتعقلوا، ويدركون أنهم – مثلكم – مصريون، ينبغى ان يحموا البلد الذى ينتمون إليه.. تحدثَّوا فى كل مكان يا شباب.
علموا الكبار.. ثقفوهم.. بصَّروهم.. افتحوا عقولهم .. وقلوبهم.. تسللوا إلى سمعهم وأبصارهم.
العبوا الدور، الذى كان ينبغى أن يلعبه الكبار، الين أفسدتهم سنوات من القهر والاستعباد، وقمع الرأى والفكر.
الامر أيها السادة، فى هذه الثورة، يختلف بحق.. وتمام الاختلاف.. فعندما يقوم الجيش بحركة ما، فإنه يسود، أما عندما ينهض شعب، للمطالبة بكل حقوقه، فالشعب هو الذى يسود.
وعندما تنهض الشعوب، فهى لا تنحنى ثانية أبداً.. علموا الكبار يا شباب، أن (مصر) قد نهضت، فلا ينبغى أن يعوق أحد نهوضها، ولا أن يجثم على صدرها بمطالب فئوية، هناك، فى (مصر) ما بعد الخامس والعشرين من يناير، سبل شتى لتقديمها وطرحها.
علموا الكبار يا شباب، ألا يفسدوا ثورة، أنتم بها .. لا تسمحوا لهم بإضاعة دماء شهدائكم ..لا تمنحوهم فرصة إفساد أهدافكم.. علموهم يا شباب، فهذا دوركم.. بعد الثورة.