و إنما الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس ، و ليس مكروه النفس يقف على
المرض و الأذى في البدن ، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر .
فمن ذلك أنك إذا رأيت مغمورا بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال ، فهو
يصوغه أواني يستعملها .و معلوم أن البلور و العقيق و الشبة ، قد يكون أحسن منها صورة ،
غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه .
و يلبس الحرير ، و يظلم الناس ، و الدنيا منصبة عليه .
ثم يرى خلقا من أهل الدين ، و طلاب العلم ، مغمورين بالفقر و البلاء ، مقهورين تحت ولاية ذلك
الظالم . فحينئذ يجد الشيطان طريقا للوسواس ، و يبتدئ بالقدح في حكمة القدر .
فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا ، و على جدال إبليس في ذلك .
و كذلك في تسليط الكفار على المسلمين ، و الفساق على أهل الدين .
ففي مثل هذه المواطن يتمحض الإيمان
و مما يقوي الصبر على الحالتين [mark=#c20202]النقل و العقل [/mark].
أما النقل فالقرآن و السنة
أما القرآن فمنقسم إلى قسمين :
أحدهما : بيان سبب إعطاء الكافر و العاصي ، فمن ذلك قوله تعالى :
(( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ))
و القسم الثاني : ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى :
(( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ))
(( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم
البأساء و الضراء و زلزلوا ))
و أما السنة فمنقسمة إلى قول و حال ..
أما الحال :
فإنه صلى الله عليه و سلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه ،
فبكى عمر رضي الله عنه ، و قال :
كسرى و قيصر في الحرير و الديباج
فقال له صلى الله عليه و سلم :
( أفي شك أنت يا عمر ؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة و لهم الدنيا )
وأما القول
فقوله عليه الصلاة و السلام :
( لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء )
و أما العقل : فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود ، و منها أن يقول :
قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير ، و أن زمن التكليف كبياض نهار ،
و لا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب ، بل ينبغي أن يصابر
ساعات العمل .. فإذا فرغ تنظف و لبس أجود ثيابه
فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة ، و عوقب على التواني
فيما كلف .
[mark=#ad0202]وصل اللهم وسلم على الحبيب محمد [/mark]
من روائع صيد الخاطر لابن الجوزي رحمه الله