ربيع الحافظ : بتاريخ 11 - 6 - 2007
بواعث قلق عربي على تركيا

منذ القدم شكل المشرق العربي وسهل بلاد الرافدين على وجه التحديد منخفضاً جوياً سياسياً يتاخمه مرتفع جوي آخر من جهة الشرق تمثله بلاد فارس. كانت النتيجة وقوع العراق تحت الامبراطورية الفارسية، ثم أحدث الفتح الإسلامي تغييراً جذرياً في المنطقة وردم فروقاتها الدينية والسياسية وساد على إثره استقرار هش. لكن ظهور معاقل تشيع في شمال غرب إيران (البويهيين) أربك الاستقرار من جديد وأضاف إليه بعداً طائفياً، واضطر خلفاء بني العباس إلى تقريب السلاجقة الأتراك السنة لإتقاذ الدولة من الهيمنة البويهية ومناخها الطائفي المصاحب.
بعد الانقلاب الصفوي في 900 هـ الذي أخرج إيران من دائرة أهل السنة، عاد تهديد إيران للمنطقة بآيديولوجيتها الجديدة الساسانية - الشيعية، ونزل الفرس من هضبتهم في اتجاه السهل الرسوبي وسقط العراق تحت السيطرة الفارسية من جديد وغرقت بغداد في الدماء على نحو ما يحدث فيها اليوم. كان التمدد العثماني جنوباً في القرن العاشر الهجري وطردهم للفرس من العراق الرقم الكبير والجديد في المعادلة الإقليمية الذي أوجد توازناً إقليمياً ومحوراً عربياً تركياً في مواجهة إيران الصفوية المتناغمة مع أوربا وروسيا القيصرية.
كانت الرصاصات التي أطلقتها "الثورة العربية" على صدور الجنود الأتراك بعد صلاة الفجر خارج أبواب الحرم المكي ضربة مباشرة لتلك المعادلة وبداية سلسلة تداعيات أقصت الرقم التركي وأنهت توازناً إقليمياً دام أربعة قرون. لم يتحرك المرتفع الجوي ليملأ التخلخل الناجم على الفور، فقد أدى قيام دول عربية مدعومة من القوى العظمى حينئذ (بريطانيا وفرنسا) وحضور عسكري غربي مباشر، ووقوع إيران نفسها تحت الاحتلال الإنكليزي، أدى إلى تعويق حدوث الظاهرة الحتمية.
في النصف الثاني من القرن الماضي حدثت جملة تغيرات رئيسية منها: دخول النظام السياسي العربي مرحلة الاحتضار، قيام الثورة الإيرانية وانتعاش الآيديولوجية الصفوية وظهور شعار تصدير الثورة، التحاق نظام الأقلية النصيرية الحاكم في سوريا بالمدار الإيراني، الاحتلال المزدوج الأمريكي/الفارسي للعراق والاتصال الجغرافي بين مناطق النفوذ السياسي الفارسي (إيران – العراق – سوريا – جيب حزب الله في لبنان).

بزوال العوائق عادت التأثيرات الطبيعية والحتمية للمرتفع الجوي الإيراني على المنخفض، وباتت دول المشرق العربي تقع ضمن إحدى ثلاث مناطق: منطقة نفوذ صفوي مباشر: العراق- سوريا – لبنان. منطقة شغب صفوي متقدم: البحرين – اليمن. منطقة أنشطة صفوية أولية: الأردن – فلسطين. أما الحاشية العربية للخليج العربي فتعتبرها إيران في حساب الساقطة أمنياً نظراً لمدى التغلغل الإيراني والخلايا الصفوية النائمة فيها.

رغم الفصام الثقافي مع الجوار، فقد استفادت الدولة التركية على صعيد أمنها القومي من الاستقرار السياسي للدولة العربية الحديثة في منتصف القرن الماضي وحتى ثلثه الأخير، ومن قيام مصالح أمنية مشتركة عوّقت مشاريع انفصالية تطل اليوم برأسها وتهدد تماسكها بشكل حقيقي.

الجديد في الموازنة الاستراتيجية الإقليمية هو المحور الأمريكي – الإيراني (أو الرومي – الفارسي) ومفاوضات المحور على معادلة سياسية جديدة بطموح إيراني أعلى لإحلال النفوذ القومي الفارسي/الشيعي محل النفوذ القومي العربي/السني الذي لا تجد فيه أمريكا شريكاً استراتيجياً جاداً أو ناجحاً في حسم المواجهة مع المد الإسلامي السني الذي تعتبره آخر حروبها الآيديولوجية. سوريا هي الأنموذج العملي المقدم من إيران للدولة العربية ذات الأغلبية السنية الساحقة التي تحكمها أقلية من الشجرة الشيعية وتدور في المدار الفارسي السياسي والاقتصادي والأمني.
تركيا غير غافلة عن المفارقات الفاقعة بين أفعال "الحليفة" الأطلسية (أمريكا) وبين أقوالها بما يخص الأمن القومي التركي والمشاريع الانفصالية التي تتهدده، وقد كسر ساسة أتراك كثر جدار الصمت وتحدثوا بملء الفم عن مصلحة أمريكية لإضعاف تركيا حليفة الحرب الباردة، وطعنوا بصدقية تأييدها لعضوية تركيا في الاتحاد الأوربي، لكن شيئاً ما لايزال محتبساً في الصدور، وليس من الصعب فهم قلق الساسة الأتراك على وحدة بلادهم من مشاريع انشطارية باتت تحيط بها من كل جانب ومن غياب الحليف الصادق.

سيتذكر العرب وهم يشاهدون الأمريكان والإيرانيين يتفاوضون على مستقبل منطقتهم في قلب عاصمة الرشيد المحتلة، سيتذكرون رصاصات الفجر، وتوجيهات لورانس العرب، وأعمدة الحكمة السبعة، التي كانت في واقع الأمر أسقفاً سبعة من دون أعمدة انهارت فوق رؤوسهم، سيدرك العرب أنهم أنشأوا كياناتهم على السهول التي يغمرها الفيضان السياسي الطائفي الإقليمي الموسمي والتي يستحيل الدفاع عنها بعد إزالة السواتر الحامية لها.

إلقاء نظرة سريعة إلى خريطة حديثة تظهر بأن تركيا باتت دولة القانون والدستور المدني الوحيدة في المنطقة، وتلتف حول بطنها الجنوبي الرخو الكيانات والأنظمة والمليشيات الطائفية والانفصالية. زوال تركيا كدولة إقليمية قوية يعني زوال النواة التي كانت محور تكتل شعوب المنطقة إثر كل كبوة والنهوض ككتلة إقليمية، ويعني الفصل الختامي لاستراتيجية "المسألة الشرقية" التي ابتدأتها أوربا وأطلقت عليها هذا الإسم لتفكيك الشرق الإسلامي السني بقيادة الأتراك العثمانيين.
لقد تأخر إنجاز مشروع "المسألة الشرقية" على الوجه الأكمل كثيراً، وتسرع الإنكليز في اعتبار انتهاء الأعمال العسكرية في الحرب العالمية الأولى تاريخاً لإتمام المشروع مثلما تسرع بوش في إعلان نصره في العراق. كان من أسباب التأخر انتقال مراكز الثقل الامبراطوري بعد الحرب العالمية الثانية من أوربا إلى أمريكا والاتحاد السوفييتي، ودخول العالم حقبة الحرب الباردة وتضارب المصالح الدولية، وتعتبر ظروف القرن الواحد والعشرين الأمريكي مثالية لإتمام مهمة بدأت خارج أبواب الحرم المكي.
92 عاماً (منذ انطلاق الثورة العربية) من مسيرة عربية في الاتجاه الخاطئ، و 92 عاماً من الأمل الفارسي بالعودة إلى دور قيادي في المنطقة يستدعي قلقاً عربياً يتبعه عمل!
alhafidh@hotmail.com
معهد المشرق العربي

جريدة المصريين 12/6/07