هموم مغترب ـ شريف رفعت

اليوم الأربعاء ميعاد لقائي الأسبوعي مع أفراد الشلة في وسط البلد، معيشتنا في المَهْجَر تجعل هذا اللقاء مهما و ضروريا و ممتعا ، مجموعة الأصدقاء أعمارهم فوق الخمسين مما يجعلني أصغرهم سنا ، نأتي من خلفيات متباينة ما يجمعنا هو مِصْريَـتنا وحبنا لبعض و رغبتنا في قضاء وقت ممتع معا ، أغلب كلامنا يتسم بالهيافة وقد يكون ذلك هو السبب في استمتاعنا باللقاء، بالنسبة لي أنا بالذات اللقاء الأسبوعي فرصة لمغادرتي الضواحي حيث أعمل و أسكن كي أتوجه لوَسَط البلد الأكثر إثارة وحركة، هو أيضا فرصة لنسيان مشاكل الوظيفة و الاستمتاع بالاسترخاء الذهني والنفسي.

كالمعتاد تركت السيارة بالمنزل و أخـــﺫت الأوتوبيس المتجه لبداية خط المترو المتجه لوسط البلد. أخـــﺫت معي صحيفة اليوم لقراءتها ، كان الأوتوبيس نصف ممتلئ ، مشوار الأوتوبيس حوالي نصف ساعة ، لم أجد في نفسي الرغبة في القراءة ، استغرقت في تفكير عميق ، لا أدرى لماﺫا تعاودني نوبات التفكير بكثرة هـــﺫه الأيام و أيضا بعمق و تركيز أكثر من المعتاد ، فكرت في مشاكل العمل التي لا تنتهي ، هناك شائعات أن الشركة التي اعمل بها ستستغني عن كثير من العاملين نتيجة لمشاكل مالية تمر بها، هل هناك نصيب من الصحة لهـــﺫه الشائعات و هل أنا واحد من الـــﺫين سيتم الاستغناء عنهم و ماﺫا سيكون مصيري عندئـــﺫ؟ هل سيمكنني العثور على عمل آخر رغم سني المتقدمة نسبيا ؟ قادني تفكيري بعد ﺫلك إلى أبنائي و بالـــﺫات ابني الكبير الـــﺫي بدأ أخيرا يتصرف بطريقة وقحة ، ورغم أنه عموما ولد معقول و أخلاقه مِؤدبة بالـــﺫات بالمقارنة بمن هم في مثل عمره من أبناء هـــﺫه البلد إلا أنه بدأ ينتقد تصرفاتي و أقوالي بطريقة تخلُ من اللياقة و يفعل نفس الشيء مع والدته ، و رغم أنه يعتـــﺫر عندما أؤنبه ويحول الموضوع لمزاح إلا أنه يكرر نفس السلوك، هل هـــﺫا علامة على إن الولد يبحث عن استقلاله و يريد أن يثبت لنفسه و لمن حوله أنه كبر ؟ أم أن هـــﺫا السلوك يرجع لتأثير أصدقاءه و المجتمع الغربي الذي يعيش فيه؟ انتقل تفكيري بعد ﺫلك لحالتي الصحية ، في آخر زيارة للطبيب أخبرني أن ضغط الدم و مستوى الكلسترول أعلى من المفروض و طلب منى أن أغير أسلوب حياتي وأن أتبنى عادات صحية كى أتجنب الإصابة بامراض القلب و الشرايين ، لم اعتقد قبلا أن هناك خطأ في أسلوب حياتي بما يؤدى لهـــﺫه الأعراض فأنا لا أُدخن و لا أشرب الخمور ، نعم أُحب الأكل الدسم و لا أمارس أي رياضة و إلى حد ما أحمل الهم وهو ما ينصح الأطباء بتجنبه و لكن لم أشعر أبدا أن الموضوع سيصل لحد التأثير على صحتي.

…………….

كنت مستغرقا تماما في تفكيري و عندما نظرت إلى الراكبة الجالسة أمامي وجدتها تنظر لي بتمعن وعلى وجهها ابتسامة تحاول أن تخفيها حَـوَلـَت نظرتها إلى النافدة كي تتجنب لقاء أعيننا ، شقراء جميلة في أوائل العشرينات تكاد أن تكون في عــُـمر ابنى، ترى ما معنى نظراتها و ابتسامتها الخفية ، بعض الفتيات في هـــﺫا المجتمع لا يتورعن عن إقامة علاقة عاطفية مع رجال في سن آبائهن ، ولكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا حينما التقت عينانا حولت نظراتها إلى النافذة وأشاحت بوجهها في تجاهل ؟.
وصل الأوتوبيس لمحطة المترو ، استقللت عربة المترو و جلست في مقعدي و قد نسيت فتاة الأوتوبيس ، عاودتني أفكاري مرة أُخرى ، الوظيفة وعدم استقرارها ، سلوك ابني الخالي من اللياقة ثم حالتي الصحية وتحـــﺫير الطبيب ، استغرقت في أفكاري تماما حتى أفقت على جلوس سيدة في المقعد المجاور لي و مبادرتها إياي بقولها:
- كيف حالك ؟
كان صوتها قويا وواضحا مرتفع بعض الشيء و لكنه ودود، نظرت إليها بتمعن لأرى إن كنت أعرفها ، كانت في منتصف الأربعينات جمالها هادئ و تبتسم ابتسامة رقيقة ، تعمدت ألا أُبدى استغرابا من مبادرتها بالكلام معي واقتحامها لخلوتي مع أفكاري ، أجبتها بصوت هادئ وواضح كأني لم أفاجأ بحديثها معي :
- أنا تمام و كيف حالُك أنت ؟
- تمام، كيف كان يومك؟
- يومي كان عاديا لا شئ مـُـميز وهـــﺫا في حد ﺫاته حـسـن.
- حسنا حسنا .
فكرت فيما يحدث ، لماﺬا بادرت بمخاطبتي ؟ الناس هنا عموما ودودون وليس عندهم مشكلة في كلام المرأة مع رجل غريب. و لكن هـــﺫه المبادرة لا أرى سببا لها ، المرأة أيضا مظهرها محترم فلا أستطيع أن أُجزم بأنها تبحث عن مغامرة ، بعد بـٌـرهة قصيرة من الصمت استأنفت الكلام كما لو كانت تـُـصر على أخـــﺫ مبادرة الحديث.
- بدأ فصل الشتاء الـــﺫي لا مهرب منه ، صباح اليوم كنت في مدينة "أوتاوا" لقد سقط عندهم بوصتين من الجليد ، في أي لحظة سيصلنا نحن أيضا بعض من هـــﺫا الشيء الأبيض (تقصد الجليد) ، عموما الوقت قد حان فنحن في أواخر نوفمبر.
وصل المترو للمحطة التي أقصدها ولكني لم أنزل ، ، قررت البقاء رغبة في معرفة سبب حديث المرأة معي كما لو كنا أصدقاء قدماء، في واقع الأمر كان حديثها معي أظرف من انغماسي في التفكير في مشاكل الحياة.
عاودت المرأة الكلام ، هـــﺫه المرة بصوت منخفض بعض الشيء و بطريقة فلسفية:
- الحياة مليئة بالمشاكل ويجب علينا أخـــﺫ الأمور ببساطة وإلا تأثرت صحتنا الجسدية و العقلية.
فكرت فى عبارتها الأخيرة و لماﺫا قالتها ، فجأة أتضح لي الأمر ، سألتها:
- هل كنتُ أتحدث مع نفسي ؟ ألهـــﺫا السبب بادرتي بمحادثتي ؟
- كنت تتحدث مع نفسك و بانفعال.
شعرت بالخجل الشديد و بالحزن ، كنت أشك أحيانا أنى أتحدث مع نفسي عندما أفكر تفكيرا عميقا و أنا بمفردي، ولكن لم أتخيل أبدا أن يحدث ﺫلك في أماكن عامة ووسط غرباء مما يدفع امرأة غريبة بوازع من عطفها على أن تبادر بمحادثتي كي تنتزعني من أفكاري.
أخفيت مشاعري بمهارة وهى موهبة علمتني إياها الأيام ، وقلت للمرأة و أنا أبتسم ابتسامة ظريفة مؤدبة
- شكرا ، منتهى الكرم منك أن تبادري بمحادثتي كي تنتشليني من أفكاري.
ابتسمت المرأة ولم تجب، ظللنا صامتين حتى جاءت المحطة التالية ، قمت من مقعدي كي أغادر المترو ، قلت لها:
سأنزل هنا مســاءك سعيد. -
أجابت:
- مساءك سعيد ، اعتنى بنفسك.
.........................

أخــﺫت المترو المتجه في الاتجاه المضاد كي أقابل شلة الأصدقاء ، قررت أن أراقب تصرفاتي و أن أتحكم في مشاعري كي لا يتكرر ما حدث، كل ما أحتاجه شيئا من قوة الإرادة والتحكم في النفس ، شعرت بالخجل لأنه دار بخيالي أنهما معجبتان بي فيما كانا ينظران لي كمخبول ! .
قابلت الأصدقاء ، نفس الكلام الهايف الـــﺫي نتبادله كل مرة ، توجهنا بعد ﺫلك في عربة واحد من الأصدقاء إلى أحد المطاعم لتناول العشاء، مزيد من الكلام ، أغلب النكات قديم وإن كنا مازلنا نضحك عليها ، تطرق الحديث لحالتنا الصحية وما يشكى منه البعض من أمراض ثم تقييم لجودة الطعام و مستوى الخدمة بالمطعم ، و بعد فاصل من القافية المتبادلة بين أفراد الشلة غادرنا المكان.
تطوع صديقي بتوصيلي لموقف الأوتوبيس المتجه لضاحية سكنى ، ركبت الأوتوبيس و جلست بجوار النافـــﺫة أتطلع لظلام الطريق، فكرت في أفراد الشلة وعلاقتي بهم و ما يجرى فى لقاءاتنا الأسبوعية ، كلنا متعلمون ، أغلبنا مهنيون وعلى درجة عالية من الخبرة و الكفاءة ، بعضنا طلع معاش ويعيش في راحة واسترخاء. كلنا نحب مصر ونقوم بزيارتها كلما أُتيحت الفرصة، ورغم ﺫلك لا نقدم لها شيئا يذكر ، نتحدث عن همومها ومشاكلها ثم لا شيء ، مجموعة من الأنانيين والكسالى نحن ، نقنع أنفسنا أننا نستمتع بلقاءاتنا الأسبوعية وأن الراحة والتهريج حقنا المقدس مقابل المجهود الـــﺫي بـــﺫلناه أو مازلنا نبـــﺫله في عملنا ، هل من طريق لتغيير هـــﺫا الواقع؟
حولت نظري عن النافـــﺫة، كان هناك شاب صغير يجلس قبالتي ينظر لي بإمعان وقد بدت على وجهه نظرة رثاء.