القاهرة خريف 2006

بعد يوم عمل مرهق للغاية واثناء مروري المعتاد على السوبرماركت لتلبية طلبات البيت الشهرية المعتادة من اكل و شرب و مستلزمات و خلافه.... و عند سؤالي عن نوع الجبن الريكفور المفضلة لدي اشار البائع في السوبر ماركت المتواضع ال ورقة معلقة و واضح عليها انها حديثة الطباعة نوعا ما , و مكتوب عليها بخط اسود عريض للغاية عبارة "نحن نقاطع المنتجات الدنماركية" !!

و كم نعلم كم كانت الثورة تلك الايام على مقاطعة البضائع الدنماركية بسبب المشكلة اياها و تمسك كل طرف برأيه آنذاك...و كم تفاقمت الازمة في بعض الاحيان ,,و احيانا اخرى كأنك يا ابو زيد ما غزيت و الوضوع يتنسي تماما

الغريب في الموضوع ان الحاج المحلاوي رجل هادىء الطباع لا ليه في الطور ولا في الطحين زي ما بيقولوا...و اولاده على نفس الشاكلة, فهم عائلة من متوسطي التعليم الحكومي -حسب ما اعلم- و تتلخص خبرتهم في تسعير و تقطيع الجبنة الرومي و البسطرما البلدي بنوعيها بثوم او بدون.
و بالتالي فإن وعيهم بمشكلة في ذلك الوقت مثل مشكلة الدنمارك و الصور يتلخص في عبارة : مش الناس دول اللي سبوا الرسول؟ يبقى هوا ده النظام....
و بصراحة لا الومهم على مشاعرهم الجياشة هذه..فمن حق اي انسان على الارض اي يوجه مشاعره و يتصرف كما يحلوا له مادام محافظا على مشاعر و حريات الآخرين...

و اذكر في تلك الايام ان الناس انقسموا لفريقين و طبعا الغالبية العظمى لعامة الشعب و هم المطالبين بمقاطعة المنتجات الدنماركية و كل ما له علاقة بالدنمارك و علىالجانب الآخر بعض المثقفين الليبرالين المطالبين بحرية التعبير عن الرأي ايا كان

بصراحة انا وقفت مذهولا من كم الفراغ العاطفي لدى المصريين و سهولة استثارة مشاعرهم تجاه اي قضية ايا كانت....و كم نحن فاقدي البصر و البصيرة تجاه القضايا الحقيقية التي تشكل ازمة مستمرة منذ عقود

و خطرت عبارة اخرى ببالي الا و هي "قاطعوا المنتجات السعودية" و لم لا؟

فقد تركنا شبه الجزيرة العربية بأكملها تستعبد ابنائنا لعقود و عقود بأسم الكفيل و هو الاسم الحركي لل"السيد" و اسم المكفول و هو الأسم المعاصر المرادف لل"العبد"
و رضينا الذل و المهانة ثمنا للريالات و الدراهم و الدنانير و كل هذا ولا ناصر لأحد اذا قام السيد بالجور على مستحقات احد او ظلم احد من عبيده
و كم عاصرت من القضايا و المشاكل قد مرت بأبناء مصر طوال فترة اقامتي بأحد دول الخليج مما جعلني اسأل ابي : بابا...هوة مين الكفيل ده اللي بيبهدل الناس كده؟ فابتسم والدي بسخرية قائلا : يا ابني الكفيل ده عامل زي هارون الرشيد السلطان بتاع زمان , و احنا الجواري بتوعه...يقول يمين يمين....يقول شمال شمال...و ممكن يطللق اي واحدة فينا بكل بساطة و يرجعها بلدها في اي وقت..

و قد لا تكفي مدونات و مدونات لحكايات "ابناؤنا في الخارج" و وقوعهم تحت ظلم و قهر ال"السيد" فتاريخ مليء بالاحداث و انا في غنى عن الكلام حتى لا اصاب بالاكتئاب و استطيع اكمال ما بدأته هنا...

لكن كل هذا ليس هو مربط الفرس كما يقولون...لأنه بمنتهى البساطة قد يقال لك : مدام مش عاجبك ورينا عرض كتافك...و اهو بكرة اجيب عشرة مكانك!! ومدام مش عاجباك مملكة العرعر...ارجع يا مصري على بلدك و قضيها فول و طعمية....ده انت لا سفارة هنا ليك ولا قنصلية ولا سفير يعمللك حاجة...انت هنا مالكش تمن....اذا كنا بنيجي بلدك و نديك بالجزمة و نمشي؟ امال هنا هتعملنا ايه؟؟

و احنا طبعا لينا ردود قوية جدا و لم نسكت...

قد ترى في عودة العبيد من جزيرة العراعير بعض-و اقول بعض و ليس كل- العبيد من اتقنوا دور العبد المخلص لسيده في السر و العلن و في البعد و في القرب
فتراهم و قد شوهوا سياراتهم متواضعة كانت او فارهة بعلم مملكة العرعر و قد اتخذوا هم و اهلهم الصورة الخارجية للأسياد من اطالة للذقون الشعثاء المنفوشة مثل نبات الرمرام الصحراوي الذي لاشكل له و تقصير للملابس و نقاب و خمار و اسدال لزوجاتهم و قد يصل الامر الى رسم النظرة الغاضبة المقززة لأفراد هيئة الامر بالفاستكوليا و النهي عن الزلابيا على وجوههم بدعوى التدين و الوقار.....و قد يتناسى هذا العبد انه في يوم من الايام قد كان ضحية لضربة على مؤخرته من احد افراد الهيئة لتخلفه عن الصلاة !!

حقا نحن نستحق هذا الازدراء.....و لم لا؟

نحن نقاطع المنتجات الدنماركية لتمسك الدنمارك بموقفها لحماية حرية التعبير لدى احد ابنائها....و سواء اكان رأيه مخطئا او جارحا للبعض فله حرية تعبير كاملة و مكفولة تماما على ارض وطنه

لكن لا نقاطع منتجات من استغلوا فقرنا و جوعنا و ضيق بلدنا علينا...و جعلوا من ابنائنا عبيدا
و ينادونك ب : "يا مصري!!" كأنها سبة او وسيلة للتقليل من شأنك و تذكيرك بأنك حشرة ولا وزن لك غير انك عبد عند كفيلك (سيدك)

و.......

ايه يا بيه؟ انت سرحت ولا ايه؟ .....ايقظني عليها الحاج المحلاوي بصوته الاجش و هو يطالبني بباقي الطلبات لأن الازدحام بدأ ان يشتد و انا سارح بأفكاري في العبارة المأفونة "نحن نقاطع المنتجات الدنماركية"

من الايميل