ما بين المهانة والاستهانة والهوان والامتهان .. وحكاية المصلحة
لا أدري لماذا قفز إلى ذهني التعبير الشهير في فيلم السفارة في العمارة
تبقى دي المهانة والاستهانة بل هو الهوان والامتهان ..
وعلى الرغم من أن صياغة العبارة قصد بها التعبير عن البلاغة الحنجورية لدى العرب في مواجهة مشاكلهم معتبرين أن ترديد بضعة كلمات يجعلهم أمام أنفسهم وقد أدوا ما عليهم لينصرف كل منهم وقد أراح ضميره راحة أبدية ..
إلا أنني لم أجد تعبيراً عن زيارة ليفني المشئومة إلى مصر عشية ضرب غزة إلا استدعاء هذه العبارة فهل ما حدث يعد هواناً أم امتهاناً ، مهانة أم استهانة .
فلو تم إبلاغ مصر بالنية بتصفية حماس فلا شك أن هذا يجعل الأمر مهانة وهوان ، فكيف يمكن أن ترضى مصر بهذا الفعل ..
ولو لم يتم تبليغنا فإن الزيارة تعد في مجملها استهانة وامتهان لمصر بوضعها في محل الشكوك ، وهو أيضاً ما لا يليق بمصر على الإطلاق ..
ورغم هذه المقدمة الطويلة فإن استدعاء ذكريات الحروب الكلامية والتي تتداعى الآن من كل صوب وحدب على مصر يجعل الناظر بتمعن إليها يتأكد أن المسألة في النهاية " مصلحة .. مصلحتك فين " على رأي رياض الخولي في فيلم " طيور الظلام "
فأهل غزة المحاصرين الجائعين الذين يقتلون بالمئات لا يغيثهم أحد ولن يغيثهم أحد ..لقد وقع هؤلاء الصامدين فريسة سهلة لأصحاب المصالح وعلى رأسهم بني جلدتهم ، والمؤلم أن هذه الأرواح الشهيدة تموت الآن بلا ثمن ولا جدوى ، فلا ينتظر أن تسفر المجزرة عن تحرير ، ولا تغيير واقع على الأرض ، ولا مساندة دولية ، ولا تحريك سلام ولا أي شيء .. هؤلاء يموتون الآن بلا معنى ..
* المصلحة المصرية : أنا كمصري قادر على تفهم المصلحة المصرية وبواعثها وأكاد أقول أن هذه المصلحة هي أقرب المصالح لمصلحة القضية ذاتها مع اعتراضي الشخصي على أسلوب إدارة ومعالجة الأزمة ..
فمصلحة مصر تقوم على إبقاء غزة كياناً فلسطينياً دون تصفية القضية فيها ، وذلك لأن تصدير قضية غزة إلى مصر يعني ببساطة تصفية القضية من ناحية وتشكيل قضية لاجئين جديدة تشابه قضية لاجئي الأردن التي انتهت بمذابح أيلول الأسود ، ولاجئي لبنان التي انتهت بمذابح صابرا وشاتيلا ..
ففتح المعابر بشكل دائم وبصورة مباشرة سيعني بالضرورة هجرة الفلسطينيين إلى سيناء لتنتهي القضية بضم غزة إلى مصر ، والضفة إلى الأردن وتدمير القضية وهو سيناريو تسعى له إسرائيل منذ أربعين عاماً .
على أن معالجة مصر للأزمة كان يقتضي قدراً من الحصافة والمسئولية ، وبدلاً من أن تولي مصر الاهتمام بعقد اجتماعات للفصائل وتقريب وجهات النظر كان ينبغي عليها ألا تسمح بوصول قطاع غزة إلى حافة المجاعة ونقص الإمدادات ، وأن تمرر المساعدات عبر المعابر رغماً عن الجميع لأن في هلاك غزة تهديد مباشر لأمنها القومي ..
ولما لم يحدث هذا فإن مصلحة مصر الآن لم تعد متحققة ، ولم يصير أمامها سوى أمرين أحلاهما مر :
الأول : فتح المعابر في ظل حالة الحرب ، وهو ما يعني أضعاف أضعاف ما كان يمكن توقعه من هجرات اللاجئين الفلسطينيين إبان الحصار ، والعودة إلى نقطة الصفر .
الثاني : استمرار غلق المعابر وهو ما يعني عملياً الإسهام في القضاء على غزة والخضوع لاتهامات العمالة والخيانة .
* مصلحة حماس :
حركة حماس حركة مقاومة شريفة لا جدال في هذا ، ولكن حركات المقاومة لا تستطيع الحياة دون قضية أو هدف ، دون صراع ودماء ، فهذا يجعلها تنزل من برجها العالي الشريف إلى أزمات الحياة اليومية ، وتخضع للتقييم والانتقاد وفق قدرتها على إدارة شئون الحياة اليومية كسلطة سياسية ..
حماس ببساطة فشلت ككيان سياسي قادر على إدارة الأزمة في ظل صراع مستعصي وحصار خانق ولا نلومها على ذلك فهي في ظروف استثنائية ..
فلم تجد أمامها إلا التصعيد العسكري لتعيد مكانتها ، وتثبت أقدامها كقوة مقاومة ، وتستعيد أجواء الحرب والدماء والدفاع عن الحق المقدس ، فلم يكن أمامها سوى عدم تجديد التهدئة ، أو إعلان حالة الحرب من جديد .
لكن كان ينبغي عليها قبل هذا أن تتأكد من قدراتها على إدارة المواجهة في ظل قوة غاشمة سوف تستبيحها .
حماس ببساطة فقدت قدرتها على الاتصال بكوادرها ، فلم تتحرك كوادر حماس في الضفة ، ولم تستطع تجهيز العدة لمواجهة العدوان حتى على الصعيد الإغاثي والطبي ، ولم تستطع تطوير ترسانتها الصاروخية منذ عدة سنوات بل الملاحظ أن هذه القدرات الضعيفة جداً على المستوى العسكري تتدنى منذ فترة ، فلا هذه القذائف مؤثرة ولا دقيقة ، ولم تستطع حشد تأييد دولي أو تعبئة دبلوماسية للدفاع عنها وإظهار إسرائيل بمظهر المعتدي القاتل ، وهكذا فإن حماس تخسر ، ولو لم تكن تعد مفاجأة مذهلة (أشك في وجودها ) فهي ستخسر لا محالة .
* مصلحة فتح :
فتح هي الكيان الأكبر في المنظمات الفلسطينية ارتقت سدة رئاسته مجموعة أوسلو المؤمنة بالسلام والتطبيع والحل السلمي ، ومنذ وفاة الزعيم التاريخي ياسر عرفات ، وفتح في أعين المقاومين فصيل من الخونة والعملاء ..
فتح تظن أن الطريق ممهد لعقد تسوية نهائية مع إسرائيل بدعم أمريكي وغطاء عربي تسانده مصر ، وترى في حماس العنصر الأكثر تهديداً لهذا السيناريو ..
وبعيداً عن كون ظنونها صحيحة من عدمه فإن غياب حماس سيمهد الطريق أمامها لتسوية حقيقية ، وعلى الرغم من أن البداهة التاريخية تؤكد أن استراتيجية تخلص من فلان أولاً حتى نتفق ثم اقتل أخاك حتى نتفق ..الخ لا تسفر في النهاية سوى عن كيان ضعيف هش فقد مصداقيته أمام شعبه ليبدأ هذاالشعب المنكسر دورة الصراع من أجل الحق المغتصب مرة أخرى لعشرات قادمة من السنين .
مصلحة فتح في غياب حماس ، ولن يضير أن يقع عشرات أو مئات الضحايا في سبيل حلم الدولة الفلسطينية والسلام مع الكيان الصهيوني ..
وإلا أين هي كتائب الأقصى ، وأين هي مقاومة الفلسطينيين ذواتهم من أهل الضفة تضامناً مع إخوانهم من أهل غزة ؟؟؟
* مصلحة لبنان :
لبنان بلد يحوي عشرات الالاف من اللاجئين الفلسطينيين والذي يعيش أغلبهم في الجنوب تحت سيطرة فعلية لحزب الله ..
حزب الله مؤسسة مقاومة مثالية طردت الاحتلال الإسرائيلي ، وخاضت حرباً شرسة مع إسرائيل ، ولكن يبقى السؤال : هذه الدولة وهذا الحزب هو الوحيد الذي في حالة حرب معلنة مع إسرائيل دون اتفاقات سلام أو هدنة وه أقربهم زمناً للصراع العسكري المباشر مع إسرائيل فما الذي يمنعه من نجدة إخوانه في غزة عبر ضرب شمال إسرائيل ..
إن هذا الحزب الذي استطاع إدارة صراعه الداخلي ، وتأكيد وجوده في المعادلة السياسية اللبنانية بعد أن صارت البلاد على شفا حرب أهلية بعد حرب تموز لا يستطيع المغامرة بمكانته السياسية في لبنان لدعم قضية فلسطين .. إنه يسعى لتمكين أقدامه أكثر في ظل التهديدات التي يتعرض لها وجوده داخل لبنان ، ويكفي الكلام وحسب في هذه المرحلة لنصرة فلسطين ، وعلى مصر وغيرها أن تتحرك ولكن ليس نحن .
* مصلحة الأردن :
الأردن دولة ضعيفة صغيرة بلا موارد ، ساقها قدرها لتكون صاحبة أطول حدود مع إسرائيل .. وطيلة وجودها سعت لعلاقات ما مع إسرائيل حتى في ظل أحلك لحظات التاريخ العربي ..
الأردن ومنذ توقيع اتفاقية واي ريفر وهي لا تسمح أي نشاط فلسطيني عسكري على أراضيها ، وموقف الأردن في انتفاضة الأقصى وفي مجزرة جنين وما تلاها واضح ، لا للمعاونة ولا للتضامن ، ولن نسمح للفلسطينيين أن يدمروا علاقتنا بإسرائيل ، فتهديد إسرائيل لنا يهدد وجودنا أما تهديد الفلسطينيين فقد تعاملنا معه من قبل عسكرياً في مذابح أيلول ..
مصلحة الأردن فوق الجميع .
* مصلحة سوريا :
سوريا تقدم نفسها دائماً على أنها ضمير العرب ، على الرغم من أنها الدولة العربية الوحيدة التي لم تقاوم الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها في الجولان ..
تقوم باتصالات سرية مع إسرائيل في الوقت الراهن لتوقيع اتفاق سلام بوساطة تركية ، وهي لم ولن تقدم على أي عمل فقد اعتادت على الكلام وحسب ، ولن تكون فلسطين وغزة أعز عليها من أرضها ، ولا من لبنان التي اجتاحتا إسرائيل عام 1982 واحتلت أراضيها حتى عام 2000 ولم تنطلق رصاصة سورية واحدة نحو إسرائيل .
يكفيها أنها تؤوي خالد مشعل وكفى بذلك نصرة للقضية .
* مصلحة إسرائيل :
وهي أكثر المصالح وضوحاً :
القضاء على حماس ..
ومن ثم القضاء على أيديولوجية المقاومة ..
ومن ثم فرض الحل على فتح
وتصفية القضية .
مع مصالح جانبية أخرى ..
تدعيم فرص باراك للوصول للحكم مع شبه اتفاق مع ليفني التي فشلت في مشاورات لتشكيل حكومة خلفاً لأولمرت ليشكل العمل وكاديما الحكومة القادمة .
وليضيع أهل غزة ، ويراق دمائهم من أجل المصالح
ولا عزاء للقضية ولا للتحرير .
تقبلوا جميعاً خالص أسفي وألمي