إخوتي وأحبتي الكرام ..
أجد نفسي مدفوعاً للكتابة حول هذا الموضوع الذي يعتبره البعض شائكاً حين نناقش قضية علاقة الدين بالحياة ، والتقدم العلمي .. ولا شك أن العلمانية فكرة غامضة حتى في تعريفاتها وتحديد ماهيتها ومفهومها . لذا وجب البحث العقلاني حول هذا المفهوم الفكري الغامض لإثبات تهافته وسقوطه دون الدخول في تحيزات دينية ، والكل يعلم خلفياتي الدينية ولا يستطيع أحد أن يزايد عليها ، لكن بما أن العلمانيين يدعون أنهم يتكلمون بلغة العقل فلنخاطبهم بهذه اللغة عسى أن يقتنعوا أو يتركونا في حالهم ويستمروا في ضلالهم .
أولاً : حول المفهوم والماهية :
أسس علم المنطق تؤكد أن الماهية هي اجتماع المفهوم والماصدق ، والمقصود بالمفهوم هو تعريف الشيء والماصدق هو ما انطبق عليه المفهوم في الواقع الحياتي . بما يعني أن وجود مفهوم دون ماصدق يعني عدم وجوده وأنه فكرة مجردة ، بينما وجود الماصدق دون المفهوم يعني وجود كائن ما لم يتوصل العلم بعد إلى تحديد كنهه ومفهومه ..
العلمانية مفهوم يتنصل العلمانيون دائماً من تحديد الماصدق خاصته .. أو يتسم تحديد الماصدق بالتمييز والانحياز .. أوضح أكثر .. الفكر الشيوعي والنازي والفاشي والرأسمالي كله فكر علماني بلا جدال ، وبالتالي فإن ادعاء أي علماني أن العلمانية تعني الحرية والديمقراطية والتقدم العلمي هو ادعاء كاذب تاريخياً فالفكر العلماني أفرز فكراً شمولياً سلطوياً قذراً مهيمناً ، ولم يكن نتاج الفكر العلماني على مدار التاريخ فكر متقدم يصاحب نهضة علمية وحرية .
كذلك دأب أصحاب الفكر العلماني إلى الادعاء بأن أي نظام علماني ناجح الآن هو النظام الأمثل ، حدث ذلك في الأربعينيات مع الفكر الفاشي الذي أيده فلاسفة من كبار فلاسفة العلمانية كباريتو وموسكيو في إيطاليا على سبيل المثال ، إلا أن أي علماني الآن لا يمكنه أن يقر أن هذا النظام كان علماني فاسد ، والأمر ذاته تم في الستينيات عندما شاع الفكر الاشتراكي في العالم الغربي الراسمالي فيما عرف بما بعد الماركسية Neomarxism ، حيث هلل الجميع للفكر الماركسي القديم والمتطور ، والآن لا نجد علماني واحد يقول إن الشيوعية أو الماركسية هي فكر علماني فاشل وفاسد جلب على أهله الخراب ، والأمر ذاته يتحقق الآن بالنسبة للنظم الرأسمالية الليبرالية فهم يتغنون بها على الرغم من أن هذه النظم ثبت في تاريخها الاستعمار والقهر والاستعباد والنفعية القذرة والاقتصاد المتوحش ، وهذه النظم حين تسقط ستجد العلمانيين ينسحبون منها ليؤكدون أن هذا الفكر ليس علمانياً .

النتيجة : لو أقر العلماني بأن هذه النظم الفاسدة علمانية فهو إقرار بأن العلمانية لا تصلح أساساً للتقدم والنهضة بل هي مثل غيرها من الأفكار الهدامة التي جلبت الخراب للبشرية ، ولو أقر بأنها غير علمانية فليشير لنا إلى النظام العلماني الأمثل الذي أراه حتى الآن غير موجود .

ثانياً : حول العلمانيين أنفسهم :
مفهوم العلمانية باعتباره مفهوماً غامضاً يجعل كل من ينتسب إليه ذا هوية غامضة ، ولا سيما في العالم العربي الذي تنقصه الشجاعة في الاعتراف وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ( لاحظ أنهم يتهمون الآخرين بالتهمة ذاتها ) .
العلماني يشتمل على ثلاثة أشخاص هم :
* من يؤمن بدينه على المستوى الشخصي ولا يرغب في أن يدخل بالدين في أي أمر . وهو ما أسميه العلماني .
* من يؤمن بوجود إله لكنه لا يؤمن بدين معين ، وهو المسمى لاديني .
* من لا يؤمن بوجود إله أصلاً ، وهو المسمى الملحد .
حاول أن تسأل أي علماني عربي أي واحد هو من الثلاثة ، وسيرفض الإجابة قطعاً .

النتيجة : من لا يرى في نفسه الشجاعة ليؤكد أي فرد هو من الثلاثة فإنه لا يستحق أن يكون علمانياً وفق ما يطرحه من أفكار أصلاً .

ثالثاً : في مغالطات الفكر العلماني :
يتسم الفكر العلماني إضافة لما سبق بمغالطات جسيمة ، ولو اتخذنا عدة أمثلة على هذا لوضح لنا عدم القدرة على الاتساق والتماسك الفكري للمنهج العلماني ، وأنا هنا سوف أسرد ثلاثة أمثلة توضح بجلاء تهافت هذا الفكر وسقوطه .

1) لو اطلع اي منكم على الفكر الإلحادي باعتباره يمثل ذروة الفكر العلماني لوجدنا تناقضاً عجيباً في الطروحات خاصة في نقد الأديان والرسل .. ولتوضيح المثال أكثر اسمحولي أن أعتذر لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدماً على إعادة سرد شبهة قذرة من شبههم عنه .. فمن الشبهات والافتراءات أن يقولوا أنه صلى الله عليهم كان مزواجاً يحب النساء حتى أنه تزوج طفلة هي السيدة عائشة وهي بنت تسع سنين ( مع العلم أن هذا السن تتزوج به الفتيات حتى يومنا هذا في بعض بلدان إفريقيا وآسيا ) .
يبرز التناقض في نقطتين :
* كيف يتسنى أن يدعوا هؤلاء العلمانيين إلى الحرية المطلقة بما فيها حرية الشذوذ والعربدة وأنها لا تناقض الشخصية السوية في الوقت الذي يعيبون فيه هذا السلوك على الرسول صلى الله عليه وسلم ( والعياذ بالله ) ، أم أن المسألة فيها خيار وفاقوس . هذه واحدة .
* من أفاد بوجود إطار أخلاقي إنساني عام منهم ( ولا أجد هذا في أغلبهم ) أريد أن يحدد لي مرجعية هذا الإطار الأخلاقي الإنساني ومن أين جاء بأسلوب علمي قائم على المراجعة التاريخية والاستقراء والاستنباط العلمي الممنهج ، ولن يجد أي أساس لأي إطار أخلاقي سوى في الأديان على طول تاريخ البشرية .

النتيجة : لو ثبت أن الإطار الأخلاقي العام نابع من الدين فإن هذا ينفي الفكرة من الأساس ، ولو ثبت أن المسألة فطرية فهو ينافي رؤيتهم القائمة على أن السلوك مكتسب ( وهو ما أجمع عليه علماء النفس ) ، ولو أقروا بعدم وجود إطار أخلاقي فلا يعيبون على أي رسول أو أي دين أي شبهة أخلاقية .. هل تلاحظون التناقض .

2) المغالطات المتعلقة بتقديس الفكر البشري :
في الوقت الذي نجد فيه حالة من تقديس الفكر البشري ، نجد أن طوائف العلمانيين تقدم مفهوم مثل المواطنة على مفهوم العقيدة ، في الوقت الذي نرى فيه أن المواطنة فكرة قبلية تعني اجتماع عدد من الناس في حيز جغرافي واحد ، في الوقت الذي نجد فيه أن العقيدة هي نتاج فكري عقلي نابع عن قناعات وإيمانات محددة ذات أصول ، وهذا أمر لا يستقيم مع جوهر الفكر العلماني الذي يدعونه ، لذا فإن الاعتقاد بأمر ما أقدس وأكثر تقديراً من القبلية .

النتيجة : لو ثبت تقديم المواطنة على الاعتقاد فإن هذا يؤكد تهافت الفكر ، ولو ثبت تقديم الاعتقاد على المواطنة لتهافتت أسس فكرهم أصلاً ، ولو تم الاستهانة بالاعتقاد من جهتهم فحري بنا أن نستهين بعقيدتهم التافهة ولا نعيرها اهتماماً من الأصل فإن كنا متخلفين في رفضنا لعقيدتكم فمن الطبيعي أن تكونوا أيضاً متخلفين في رفضكم لعقيدتنا .

3) المغالطات المتعلقة بتقديس القياس العلمي :
يتأسس الفكر العلماني على أساس مادي محض يعتبر أن ما لا يمكن أن يخضع للقياس العلمي المباشر فهو ليس موجوداً ، وعلى هذا فإنهم ينكرون الغيبيات أو الميتافيزيقا ويعتبرونها من الأساطير .

في البداية ينبغي التأكيد على أن العلم لا يقيس سوى الظواهر القابلة للقياس ، وبالتالي فإن الحقيقة التي يفرزها العلم حقيقة منقوصة غير كاملة ... كيف .

أ. العلم يتوقف دوره حتى الآن على اكتشاف الظواهر والقوانين ، وليس ابتداعها أو خلقها ، وهو ما يعني بالتالي أننا أمام قوة وضعت هذه القوانين والنظم التي نكتشف الجديد منها حتى اليوم ، فما هي هذه القوة . في عرفهم لا أحد يعلم ، إذا كانت النتيجة أنه لا أحد يعلم فهذا دليل واضح على الجهل ، ونحن لن نتلقى العلم من جهلاء . حيث أن مفهوم الاكتشاف نفسه يعني تحول أمر ما من غيبي إلى علمي ، وهو ما يؤكد بالتبعية المنطقية وجود غيبيات .

ب. القياس العلمي يرتبط بشكل مباشر بوجود أدوات القياس ، لذا فقد يكون الشيء موجوداً في الحقيقة وغيبياً من وجهة نظر العلم لعدم توافر أجهزة القياس القادرة على رصده .
فما لم يكتشفه العلم في الماضي كان غير موجود وغيبي ، فحركة الذرات مثلاً كانت غيبية غير مدركة ، وحينما توافرت أجهزة القياس وجدنا أنفسنا على أعتاب عصر جديد من التقدم العلمي لأمر كان يعد غيبياً طيلة تاريخ البشرية .

ج. ما لم يستطع العلم تفسيره بشكل قاطع وعلمي يلجأ فيه إلى تفسيرات غيبية ليؤكد أن هذه الظاهرة ليست غيبية .. فحينما يمر أي إنسان بتجربة غير طبيعية كأن يرى شبحاً أو يرى رؤية أو يسمع أصواتاً لم يسمعها غيره ، يقوم العلم بتفسير غيبي لهذه الظواهر غير القابلة للقياس ليؤكد أن هذه هلاوس سمعية وبصرية وهو لا يستطيع أن يؤكد لنا علمياً ماهية الهلاوس وحقيقتها بأسلوب علمي .

د. عدم القدرة على القياس أو الرصد أو الإدراك لا يعني عدم الوجود ، فلم نجد علماً يستطيع أن يؤكد لنا أن فلان يحب فلان ، مع أن الحب موجود ، ولا أن يقيس مشاعر شخص مع أنها موجودة ، ولا أن يرى أحلام شخص مع أنه يحلمها ويراها ، ولا أن يطلع على خبايا النفس البشرية مع أنها موجودة ، ولم يستطع العلم أن يحدد مفاهيم واضحة وعلمية للحزن والسعادة والألم
وبالتالي تنتفي فكرة تقديس القياس العلمي .

وبناء عليه .. أجد في هذه الطائفة من التوضيحات ما يكفي لتوضيح تهافت الفكر العلماني وفساده دون أن نقحم الدين في الموضوع ، وعلى كل من هو علماني أن يرد على النقاط السابقة دون اتهامات جزافية وأقل ما يقال عنها أنها ترهات لا تقدم ولا تؤخر ..

تقبلوا خالص مودتي وتقديري
هذا الموضوع غير منقول طبعاً ، واحتفظ لنفسي بحق الملكية الفكرية له .. لذا وجب التنبيه . والكل فاهم أنا قصدي إيه .