الموضوع: معرفشي يعني إيه ياميش؟

محمد علي إبراهيم - الجمهورية





هبت نسمة صيف باردة علي الجالسين أمام مقهي معروف بحي الحسين الإسلامي صاحب العبق التاريخي الشهير.. مر أمام رواد المقهي صبي في ملابس بالية يسأل الناس الصدقة في هذه الأيام "المفترجة" خاصة ونسائم رمضان تهب علينا.

كان الجميع لديهم نوبة "كرم" حاتمي. وأخرجوا ما جادت به نفوسهم ونفحوها للصبي الذي قبلها شاكرا ومثنيا عليهم.. غير أن شخصا تبدو عليه ملامح الطيبة والثراء في الوقت ذاته. وهو شيء نادر. قال للفتي وهو يعطيه من فضل الله عليه "هات يا حبيبي شوية ياميش"!!.
وكانت إجابة الصبي صاعقة ومزلزلة فقد قال للرجل "شكرا يا حاج.. لكن أنا معرفشي يعني إيه ياميش".

نزلت الكلمة عليّ كما ينزل الماء الساخن علي الجلد فيسلخه سلخا وتهترئ الأنسجة وتظهر العروق والأوردة كأنها أرنب مسلوخ.. كلمات الصغير كانت كمبضع الجراح فتحت بطن المجتمع المصري في لحظة.. وكشفتها للناظرين!.

أربع كلمات قالها الصبي لخصت حال أكثر من 55 مليون مصري.. الفقراء في بلادي عاجزون عن مواجهة متطلبات الحياة واحتياجاتها.. التسول ظاهرة موجودة في العالم كله. لكنها موجودة في مصر لأسباب أهمها ارتفاع الأسعار وانتشار البطالة.

بعد أن انصرف الصبي دار حوار بين الجالسين عن شيئين متناقضين نشعر بهما وهما أن الاقتصاد المصري تحسن. والدليل علي ذلك قوة الجنيه أمام العملات الأجنبية وبالذات الدولار واليورو اللذين يتراجعان أمامه بسرعة وأيضا معدل النمو الاقتصادي الملحوظ.. لكن المحسوس أيضا أن هناك في الشارع المصري شعورا بالغضب والاحتجاج من ارتفاع الأسعار.. الناس تعاني علي اختلاف مستوياتهم.. الذي يشتري من تجار الأرصفة والذي يشتري من السوبر ماركت و"المولات".. الشكوي عامة.

لكن الحكومة من جانبها تزيد من شعور الناس بالضآلة والعجز عن مواجهة الأسعار.. ففي خضم أزمة انفلات الأسعار شعر الناس أن الحكومة غائبة.. وحتي إذا حضرت فإنها فاشلة! لماذا؟ لأن التصريحات الصادرة عن الحكومة لم تستند إلي الواقع.

رئيس الوزراء أعلن أن معدلات التضخم انخفضت والأسعار تحت السيطرة.. وأضاف أن مجلس الوزراء ليس علي أجندته سوي موضوع واحد.. ضبط الأسعار.

والآن الحكومة أمامها مهمة صعبة.. الفقراء في مصر يتزايدون زيادة متصلة.. والفقر - في بعض المناطق - يجرد المواطنين من المستوي الآدمي أحياناً ويسقط عنهم حقوق الإنسان العادية مثل الجوع والعري والتشرد.. من ناحية أخري الاستثمارات تزداد في مصر.. ومعدل الأداء الاقتصادي يرتفع.. التضخم يقولون إنه ينخفض.. ترتيب مصر ضمن الدول النامية يتحسن.. إذن ما هي المشكلة؟!

المشكلة في بلدنا أن الفقير يدفع نصيب الغني.. والحكومة التي تتحدث عن ضبط الأسعار وتوجيه الدعم لمستحقيه عليها أن تكون أكثر إيجابية.. بمعني أن عليها أن تغير خطابها الإعلامي فتقول: حان الوقت لإلغاء كل الرسوم الإضافية التي تفرضها الوزارات والمحليات والجامعات.. ليس هناك معني أن تزيد فاتورة التليفون للجميع.. الفقير يدفع مرة واحدة سنوياً.. والغني يدفعها شهرياً.. لماذا يدفع الطالب "الفقير" 50 جنيهاً رسوم الكشف الطبي في الجامعة؟ لماذا يدفع رسوم وتأمين معامل. بينما الدولة تؤكد علي أن التعليم مجاني.

الحكومة لا تستطيع أن تفرض تسعيرة جبرية علي السلع والبضائع بحجة أنها تطبق الاقتصاد الحر.. لكن الحكومة تستطيع مضاعفة المقررات التموينية للناس.. بطاقة التموين لا تفيد حاملها في شيء فلماذا لا يضاف عليها حلاوة طحينية و3 كيلو مكرونة ومثلها أرز.. الحكومة تستطيع صرف الإعانة للأسر التي لديها 3 أبناء في التعليم وزيادتها إلي 50 جنيهاً لكل ابن.. هذه إجراءات سريعة لمحاصرة انفلات الأسعار الشديد. وفي الوقت ذاته فإنها إجراءات عملية تلغي التصريحات وتتجنب المصطلحات الفنية التي لايفهمها الناس.

الحكومة تستطيع تقليل الفارق الرهيب في الدخول.. أعرف شاباً يعمل بأحد البنوك ويحصل علي راتب 30 ألف جنيه شهرياً.. زميله من نفس دفعته وبنفس التقدير وليس له "واسطة" يحصل علي 300 جنيه.. هذه الفوارق ينبغي أن تتوقف.. تستطيع الحكومة فرض ضريبة إنتاج علي القادرين.. تمول بها كافة قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي وبعد ذلك تعيد ضخها إلي المحتاجين.. تستطيع الحكومة الكثير. لكنها كخطوة أولي تحتاج "مواطنا" فقيراً يعمل مستشاراً لديها ويدلها علي أبواب الخير.