القصة واقعية تمامًا، لكن لو كانت قصة بوليسية ولو كان كاتبها أحد أساطين القصص البوليسية من وزن «أجاثا كريستي» أو «إيلري كوين»، لكان اسمها «قضية سرقة الحقنة الشرجية»، ولبدأت كما يلي:
أشعل المفتش «أرشيبالد مكالستر» من سكوتلانديارد غليونه وجلس في مقعده الذي كان مقعد طبيب القسم منذ دقائق، وقال للطبيب مفكرًا:
ـ«ما زلت لا أفهم القيمة المادية لهذه الحقنة الشرجية حتي يقوم أحد بسرقتها».
قال الطبيب: «لا قيمة لها علي الإطلاق.. عامة هي مجرد كوز صديء من الصفيح يتصل بخرطوم، ولدينا واحدة فقط في قسم الرجال وواحدة في قسم الحريم. نحن لا نستطيع الاستغناء عنها لأننا ننظف قولون مرضي الغيبوبة الكبدية بانتظام، وعامل القسم هو الذي يجري هذه العملية. منذ أسبوعين تبرع أحد فاعلي الخير للقسم بحقنة شرجية أنيقة «زي العروسة» لونها أزرق جميل.. هكذا صار لدينا ثلاث حقن شرجية، لكن مشكلة الروتين والبيروقراطية بالنسبة لهذه الهبات هي أنها لا تدخل دفاتر العهدة إلا بعد إجراءات معقدة .. وهذا يعني أنه لا صاحب لها .. كلما ابتعنا شيئًا بالجهود الذاتية وقعنا في ذات المشكلة، وسرعان ما يُتلف أو يسرق»
ـ«من الممكن أن يحتفظ بها الطبيب في خزانته».
ـ«هذا يعقد الأمور أكثر .. لأنها مطلوبة طيلة الوقت تقريبًا»
فكر المفتش قليلاً ثم طلب استدعاء عامل القسم ..
دخل العامل متوترًا وقبل أن يوجه له أحد أي اتهام راح يقسم أغلظ الإيمان أنه لا يعرف أي شيء عن مصير الحقنة . فقط هو كان يضعها في الحمام.. يعلقها فوق ماسورة الماء الصدئة وقد استعملها عشر مرات في يوم الجريمة.
ـ«في العاشرة مساء أمس دخلت الحمام مع عم «شحاتة» لأجري له الحقنة لأن ابنه غير موجود، هنا فوجئت بأن الحقنة ليست في مكانها .. لقد جن جنوني وفتشت كل مكان في القسم .. هكذا اضطررت أن أستعمل الحقنة القديمة»
سأله المفتش «مكالستر» وهو يعيد إشعال غليونه: «هل لاحظت أن هناك من يهتم بها بين مرضي القسم ؟»
قال العامل: «كلهم .. منذ ظهرت بلونها الأزرق الجميل والكل ينظر لها بإعجاب واشتهاء.. حتي إنني أنذرت حكيمة العهدة من أنني أخشي أن تُسرق .. قالت لي إن هذه ليست مسئوليتها».
بالنسبة للمفتش كان العامل بعيدًا عن دائرة الاشتباه لأنه يتعرض لإغراءات كثيرة مع أجهزة أغلي ثمنًا ومنذ أعوام طويلة. يجب أن تنحصر دائرة الشك في الوجوه الغريبة عن القسم ..
راح يفكر بحيرة وهو يتأمل سحب الدخان:
ـ«هذه سرقة محيرة .. ما الذي يمكن أن يفعله المرء بحقنة شرجية قذرة استعملها العشرات قبله ؟.. إن بيعها صعب جدًا علي ما أظن».
يمكن أن يسرقها المرء لو أراد أن يفتتح مستشفي خاصًا لكن هذا يعقد الأمور لأنه قد يؤدي لاتهام الأطباء كذلك. وفجأة بدا أنه وجد طرف الخيط .. طلب من الطبيب قائمة بأسماء المرضي الذين تقرر خروجهم اليوم. .. كان هناك ثلاثة مرضي. .. مريض منهم اسمه «بيومي أبو سمك» يتلقي حقنًا شرجية بانتظام.
طلب المفتش أن يري عم «بيومي» هذا، وكان المريض العجوز يجلس فوق فراشه الذي فرش عليه جريدة، وفوق الجريدة انتثر خليط من الأرز والفول والخضار وبقايا الدجاج والجبن القديم .. طعام المستشفي مع الطعام الذي يرسله أهله.. إنه يجلس القرفصاء حتي أنك لتحسب قدمه الغليظة الحافية صنفًا من أصناف الطعام الذي يأكله. . جوار الرجل كانت حاجياته التي حزمها بانتظار قدوم أسرته ليعيدوه لقريته...
ـ«بسم الله».
قالها عم «بيومي» لمفتش سكوتلانديارد لكن هذا لم يرد المجاملة، ومد يده يعبث في حاجيات الرجل ثم بحركة درامية مد يده إلي لفافة صغيرة وفتحها، وأمام عيون الجميع ظهرت الحقنة الشرجية الزرقاء. صاح الجميع في ذهول غير مصدقين أن هذا العجوز الطيب يمكن أن يسرق شيئًا ثمينًا كهذا، ودمعت عينا عامل القسم وهو يدرك أن العجوز خدعه. لو كان الأمر بيده لشنقه هنا والآن .
قال المفتش وهو يشعل غليونه في رضا: «الأمر منطقي وبديهي يا عزيزي «واطسون».. الحقنة الشرجية لن تُباع .. هناك في الغرب نوع من الجنس الشاذ اسمه Enema sex لكنه غير معروف في بلدكم لحسن الحظ. .. إذن من سرق الحقنة سرقها لاستعماله الشخصي فقط .. كي ينظف قولونه في بيته. هكذا ضيقت دائرة الاشتباه.. شخص يوشك علي مغادرة المستشفي ويشعر بالذعر لأنه لا يملك ثمن حقنة شرجية يعالج بها نفسه في بيته. هكذا اختمرت فكرة الجريمة في ذهنه وأحسن التنفيذ وكاد يفلت بفعلته لولا أن المفتش مكالستر هنا».
كان العجوز يبكي بحرقة، عندما تدخل الطبيب المقيم ملاحظًا: «أنا كتبت لك الخروج صباح اليوم فمن أين جئت بهذه الوجبة ؟»
بصوت خفيض اعترف العجوز بأنه سرق صينية من الفتاة التي توزع الوجبات لأنه كان جائعًا ، وقد أضاف للصينية بقايا طعام أمس .. عمت السعادة الجميع بينما قال المفتش في رضا وهو يلبس معطفه:
ـ «كانت من أعقد القضايا التي قابلتها في حياتي المهنية، لكن خلايا عقلي الرمادية لم يعجزها أن تحل قضية الحقنة الشرجية»
كما قلت لك : القصة واقعية تمامًا لو أنك حذفت المفتش لأن التحقيق قام به الطبيب المقيم نفسه، وهي تثير أسئلة كثيرة عن مريض فقير وعامل فقير وممرضة فقيرة وطبيب شاب فقير في واقع يزداد قسوة كل يوم. عم «بيومي» الذي سرق حقنة شرجية باعتبارها نوعًا من الرفاهية يستحق مكانه بلا شك ضمن المخلوقات التي كانت رجالاً.
من ضمن هذه المخلوقات - وما دمنا في عالم المستشفيات - ذلك الفتي الذي كان مصابًا منذ أعوام بمرض مزمن نادر يجعله يبقي في المستشفي فترات طويلة جدًا، وقد لوحظ أنه يختفي من فراشه والمستشفي كثيرًا، ويعود محملاً بأعذار لا تنتهي تدفع الطبيب المقيم إلي شطب عبارة «خروج هروب» التي كان قد كتبها في كراسة العلاج. لكن أشياء كهذه لا تظل سرًا .. وقد انكشف الأمر.عندما لاحظ أحد الأطباء شابًا يتسول بقرب مسجد «السيد البدوي» علي كرسي متحرك، ولاحظ أن الكرسي المتحرك قد كتب علي ظهره بحروف واضحة «باطنة رجال». الفتي لم يكن يفر من المستشفي فقط بل كان يفر بالمقعد المتحرك كذلك ليستخدمه أداة للتسول !. بالطبع سببت هذه القصة مشاكل لا حصر لها لعمال القسم ورجال الأمن الذين لم يستطيعوا فهم الطريقة التي كان الفتي يخرج بها كل مرة. حدث هذا منذ أعوام طويلة فلا أعرف إن كان الفتي ما زال حيًا أم توفي لكني أعرف أنه كان مدمنًا للبرشام كذلك. عندما تكون فقيرًا ومدمنًا فلا مفر من أن تتحول إلي لص أو متسول أو تاجر مخدرات.. هكذا تصير الأمور ....
ولنا لقاء آخر مع مزيد من المخلوقات التي كانت رجالاً في الأسبوع القادم
د. أحمد خالد توفيق
المفضلات