تقول العرب في مأثوراتها: ما استب اثنان إلا وكانت الغلبة لآلمهما.. يعني إيه؟.. يعني.. إذا تبادل اثنان الشتائم بأي وسيلة.. باللسان.. بالقلم.. في الصحف.. في الفضائيات.. في الشارع فلابد أن يكون الفوز في السب "للأوسخ".. تكون الغلبة "للأوطي والأحط".. يكون النصر للأسفل والأقذر والأكثر انحطاطاً..
هذه قاعدة لا استثناء لها.. وفي السب لا ينتصر الأعلي والأنظف والأعظم أبداً.. والفائز في هذه المعركة هو الأحط.. "طب ليه؟".. لأن الأسفل ليس عنده عرض ولا شرف يخاف جرحهما أو هتكهما.. وليس عنده بيت يخاف هدمه.. وهو في القاع فلا يخاف السقوط.. وهو في الحضيض ولا يخاف الانحدار والانهيار.. ولا يوجد أسفل من الدرك الذي هو فيه ليهوي إليه.. وأخشي أن أقول إننا جميعا خصوصاً في مجال الإعلام والصحافة وعلي مستوي ما نزعم أنها النخبة المثقفة أصبحنا في الدرك الأسفل الذي ليس تحته درك آخر.. "طب ليه؟".. لأننا جميعاً فائزون في مباراة السب والردح.. ولأن القراء والسامعين "بعيد عن السامعين" والمشاهدين يسعدون جداً بمباراة السب والردح.. ويتابعونها بشغف ويشاركون فيها.. ويشجعون أطرافها ويمنحونهم النجومية.. فالبقاء والذيوع والشهرة والجماهيرية "للأوسخ" والأحقر والأطول لساناً وقلما والأقدر "علي فرش الملاية".. "والجمهور عايز كده".. الجمهور الذي أصبح بلا ذوق ولا أخلاق ولا صلاح ولا استقامة يرفع قدر كل بذيء وشتام ومنحط..
الجمهور "عايز جنس وقلة أدب وانفلات ووقاحة".. الجمهور يريد تطاولاً وسفالة.. الجمهور هو الذي جعل هاموش الأرض والفضاء والصحافة والفن أسوداً ونموراً حين هتف للانحطاط والوضاعة وبارك الابتذال والإسفاف وشارك فيهما بكل إخلاص.
ولم يحدث وأتمني ألا يحدث أن خضت معركة سب وردح مع أحد لأنني أعلم أنني مهزوم سلفاً وقبل أن تبدأ المباراة.. رغم أن مباريات الردح والسب هي التي تعطي الشهرة والنجومية.. ولو قدر لي أن أدخل معركة ردح مع أحد وأفوز فيها فإنني سوف أحتقر نفسي لأنني أصبحت الأسفل والأحط.. ويسعدني دوماً أن أكون الخاسر في مسابقة ومهرجان الردح لأن خسارتي تعني أنني الأعلي والأشرف والأعظم.. "وطظ في الجمهور" الذي سيصفق لمن صرعني في الردح وسيحمله علي الأعناق "اللي عايزه قطعها بالسيف"..
فالجمهور العربي أمره محسوم عندي ولم يعد يساوي جناح بعوضة.. فهو يرفع الوضيع ويضع الرفيع.. ويحكم بهزيمة المنتصر وبانتصار المهزوم.. "ويحبل النملة" ويجمع علي باطل ويجعجع بلا طحن.. وهو مع الراكب.. ومع الغالب "وقيل للناس هل أنتم مجتمعون.. لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين".. "إحنا مع الغالب.. مع السائق.. مع الراكب" ويسهل جداً استخفافنا كما استخف فرعون قومه فأطاعوه لأنهم كانوا قوماً فاسقين.. والفراعين الذين يستخفون الناس بكل سهولة وبلا عناء "وزي السكين في التورتة" انتشروا في كل مجال.. هناك فراعين الصحافة الذين امتلكوا الأقلام والأوراق والمساحات وراحوا يتقيأون ويبولون علي الأوراق والناس يشربون بولهم ويطلبون المزيد.. وهناك فراعين الأرض والفضاء الذين "يطرشون" علي الهواء وعلي الإنترنت والناس يتلذذون ويستمتعون "بطراشهم".. هناك فراعين المال الذين أصبحوا مفكرين وفلاسفة وحكماء وساسة ونواب برلمان بفلوسهم والناس يبيعون لهم إراداتهم وأصواتهم.. حتي صار الناس أنفسهم سلعاً رخيصة علي عربات يد يقلبها "ويفعص فيها" من يشاء ثم يشتري منها العشرة بقرش.. وهناك فراعين السلطة والمواقع الذين يقولون فنسمع لقولهم ونصفق له.. ويلقون النكات السخيفة فنضحك حتي نستلقي "بالجزمة والكرباج" وبالخوف الذي أصبح جزءاً من تركيبتنا ويجري في عروقنا مجري الدم.
........
أنت عايز الصراحة ياصديقي عادل الورداني وياصديقي أيمن القفاص وياصديقي صلاح شرابي؟ الجمهور العربي مات لكنه لم يدفن بعد.. لم تستخرج له شهادة وفاة "مات زي موتة شارون".. مات مثل من يدخل النار.. "الذي يصلي النار الكبري ثم لا يموت فيها ولا يحيي".. "يعني زي ما تقول كده بين البينين".. "يأتيه الموت من كل جانب ومن كل اتجاه وما هو بميت".. لا تلوموا السبابين والرداحين والسفلة وهاموش الصحافة والفضاء والثقافة والنخبة.. وقد صدق الشيطان في قوله يوم القيامة.. فلا أحد يستطيع الكذب يوم القيامة.. الكل سيكون صادقاً حتي الشيطان الذي يقول لأتباعه: "فلا تلوموني ولوموا أنفسكم".. لا تلوموا نجوم شباك الردح والجنس والسفالة وصحافة "هبة المهببة".. ولوموا الجمهور الذي صنعهم
ور فعهم ودفع لهم وجعلهم ملوكاً وأرباباً وسادة ونواب برلمان وفنانين وكباتن ومفكرين ودعاة وعلماء..
لا يمكن أن تروج بضاعة إلا إذا كان هناك مستهلكون يقبلون عليها أفواجاً.. لا يمكن أن يستمر وضع سييء إلا إذا كان هناك مستفيدون أقوياء وكثيرون من استمراره.. إلا إذا كان هذا الوضع السييء "سبوبة" لملايين من هواة جمع القمامة وفرزها والعيش عليها.. والجمهور العربي "ورزقي علي الله" يعيش الآن علي القمامة والنفايات التي يقول عنها معارك فكرية وصحفية وحواراً وحرية رأي.. إنها حرية الرغي.. حرية الردح.. والمسموح به في أمة العرب من أقصاها إلي أقصاها هو الرغي وحرية الثرثرة.. وحرية الردح.. لكن ليس مسموحاً أبداً بحرية الفكر والرأي أو بحرية الفعل.. وحرية الرغي والردح والثرثرة "وفرش الملاية" تحظي بالتشجيع والمساندة علي المستويين الرسمي والشعبي في هذه الأمة.. "طب ليه؟"..
الرسميون العرب يشجعون مهرجانات الرغي والردح والسب والقذف ويقيمونها تحت رعايتهم لأنها رسالة إلي الغرب أو إلي الرب الغربي بأن الأمة تعيش مناخ الحرية والديمقراطية.. ولأنها مثل مهرجانات "الزار" يقبل عليها الناس من كل حدب وصوب باعتبارها علاجاً وهي مجرد تنفيس وتفريغ لشحنة الغضب حتي لا ينفجر الناس.. وهي في الحقيقة تؤتي أكلها فقد كف العرب تماماً عن الغضب والحمية والغيرة وتابوا عن التفكير وتبني المواقف والمبادئ والقيم والقضايا وانشغلوا بمهرجانات الردح والرغي والزار الإعلامي والصحفي والثقافي.. وراحوا يخرجون من زار شوبير ومرتضي وهبة.. إلي زار مدحت شلبي وعلاء صادق وخالد الغندور.. من دقة دعبس إلي دقة بهجت.. ومن زار الصحف القومية وصحف المعارضة والخاصة إلي زار مباراة مصر والجزائر إلي زار فتح وحماس.. وزار السودان.. ودقة الصومال.. وزار السنة والشيعة وزار المسلمين والنصاري وزار النقاب والدهاة والداهيات الجدد البيض والغرابيب السود.. ودقة أنفلونزا الخنازير.
نحن نخرج من زار إلي زار.. "جدنا زار وهزارنا زار".. نرقص "ونفقر" طوال اليوم والليل حتي نسقط مغشياً علينا.. والغيبوبة عندنا تعني الشفاء.. وكل "كوديات الزار" الإعلامي والصحفي والرياضي والديني يقبضون الثمن منا ومن الرسميين العرب.. يقبضون من القاع ومن القمة.. نحن ندفع لمن ينجح في ادخالنا الغيبوبة الطويلة.. لأن الغيبوبة عندنا هي الشفاء والعلاج.. وفي دقات الزار تحدث مهازل "ودقات نقص" كثيرة.. وفي الغيبوبة تتم سرقة أمخاخنا وعقولنا وقلوبنا ويتم اغتصابنا ونحمل سفاحاً بقضايا تافهة وسفاسف.. وكل ما نحمله في رءوسنا بعد الزار قضايا وأفكار "بنت حرام".
........
والإقبال الشعبي العربي علي زار الردح والسب والسفالة وتنجيم "الكوديات" اللاتي يتسترن تحت الزار لممارسة القوادة يؤكد أن الجمهور مات مثل "موتة شارون".. مثل الذي لا يموت ولا يحيا في جهنم.. والناس في أمتي سكنهم الجبن.. وانتشرت في أجسادهم وكرات دمهم مستوطنات الخوف والنفاق لذلك يقبلون أفواجاً علي مهرجانات الردح والسب والزار "وفرش الملايات".. لأن الجبان يحب من يشتم ويردح بالنيابة عنه.. الناس في أمتي مهزومون ومأزومون لكنهم جبناء ومنافقون لا يحبون أن يردحوا بأنفسهم ويخافون أن يشتموا بألسنتهم لذلك يحبون خطباء المنابر الشتامين ويعشقون الصحفيين والإعلاميين والمثقفين الشتامين.. ويكرهون أي أمرئ هادئ وموضوعي.. ويموتون في الفضائح والجنس وحديث المخادع.. والإنسان يحب ما يفقد.. لذلك يحب العرب حديث الجنس.. ويحبون الشتيمة لأنهم يفقدون الجرأة.. وقد حصر الناس الشجاعة والجرأة في السب والقذف وقلة الأدب.. فالمعارضة تعني السب ولعن "أبو الحكومة" وتعني "الشردحة".. لذلك يصف الناس المعارض الشتام بأنه شجاع ويصفون المؤيد والموافق بأنه منافق.. فهم يكرهون الحكومة "أي حكومة" ولو كانت حكومة من الملائكة لكنهم لا يتجاسرون علي شتمها لذلك أعطوا توكيلات الشتم والسب ووصف الشجاعة والجرأة لكل سباب.
والعرب مضبوطون علي السب والشتم.. فجدنا سب ومزاحنا سب.. وأنا أسب أباك وأمك "واللي خلفوك" بأقذع الشتائم وأكثر الألفاظ فحشا لأثبت للآخرين ولك أنك صديقي "ومافيش بينا تكليف".. وأنا أسب أباك وأمك "واللي خلفوك" بكل قواميس الفحش لأثبت للآخرين ولك أنك عدوي وخصمي.. فنحن نسب في الصداقة ونسب في الخصومة.. نسب في الجد ونسب في المزاح.. نسب في الرضا ونسب في الغضب.. فالعربي إذا رضي سب وإذا غضب سب.. وإذا فرح سب وإذا حزن سب وشتم.. بل زاد علي ذلك أنه إذا أحب سب الفتاة التي يحبها.. وكم من مرة ألقيت أذني علي شاب وفتاة عاشقين يسيران في الشارع ويتبادلان السب بمنتهي الحب.. كم من مرة سمعت الشاب يقول "للحتة اللي ماشي معاها".. ياحمارة يامجنونة ياهبلة.. وهي ترد عليه بمنتهي الغرام والحب: "أنت أهبل يا ابني؟.. أنت عبيط ياله؟ جاتك نيلة في خيبتك".. وسمعت أسوأ من ذلك بين العشاق والأصدقاء.. سمعت أسوأ من "سي.. دي شوبير وهبة المهببة".. كدليل علي الحب والغرام ورفع التكليف.. وكما أن هناك نواب سميحة في البرلمان.. لدينا الآن صحفيو وإعلاميو هبة "وكله جنس" تتعدد الأسماء والجنس واحد.. فلم يعد هناك حياء ليخدش ولا عرض ليهتك ولا شرف لينتهك ولا بيت ليهدم.. كلنا في القرية الغارقة وبعد انهيار الجسر العملاق الذي كان يعصمنا من الماء أولاد شوارع.
........
لا تسألني عن الجمهور فقد مات.. ومازلت أردد مقولة الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب عندما سأله المطرب الراحل محمد قنديل عن سبب انتشار أغاني "اللاسه النايلو.. والسح والدح" فقال له عبدالوهاب "أصل الجمهور مات يامحمد".. فالمشكلة ليست في انتشار الهلس والهلاسين ولكن المأساة فيمن نشرهم ورفعهم ودفع ثمن الهلس الفني والصحفي والرياضي والثقافي والسياسي.. المشكلة في الجمهور الذي صنع الهلاسين وجعلهم نجوماً.. وجربوا أن تكونوا موضوعيين وهادئين.. جربوا أن تكونوا مهذبين في أمة الهلس.. سيجرفكم التيار وسيطويكم النسيان وستصبحون نكرات وأصفاراً ولن يلتفت إليكم أحد.. فنحن نعيش ثقافة وسياسة وصحافة الشوارع.. ورجال أعمال الشوارع.. وعشاق الشوارع.. ولابد أن يكون اللسان مراً والقلم مراً والفضاء قذراً والصحافة تقودها "هبة المهببة" لتصبح صاحبة الضلالة لا الجلالة.. ونمسح بالأعراض والشرف والأخلاق والقيم بلاطها القذر.. نحن نسب لنثبت أننا نكره ونسب لنثبت أننا نحب.. "شفتوا الحلاوة؟".. أنا أسبك لأنني أحبك!!!
نظرة
في الطريق إلي الصعيد يموت الناس جماعة لأن موت الجماعة أفضل من موت الفرد.. يموتون جماعة في القطارات أو السيارات أو حتي "لو خدوها مشي".. يموتون فداء لجاموسة أو بقرة أو كلب أو ناقة.. والميتون الصعايدة هم دائماً المذنبون.. لأنهم "ما بيعرفوش يركبوا".. وكل الحوادث عندنا تنتهي بلا جناة ولا مجرمين لأننا نلقي مسئوليتها علي الميتين.. كل الحوادث والجرائم تقيد ضد ميت وهذه عبقرية نتفرد بها عن العالم كله.. والميتون عندنا هم بيت الداء.. وهم المسئولون عن فوز نواب "أي كلام" في البرلمان.. وهم المتسببون في حوادث وكوارث الطرق.. وهم الذين يوقعون الفتنة بين الورثة.. وهم المسئولون عن انتشار الأرامل واليتامي وأطفال الشوارع.. والصعيدي يموت لأنه لا يجيد السير علي القضيب أو علي الأسفلت.. والقطارات سينصلح حالها وتصبح الخدمة فيها فندقية عندما يموت كل الصعايدة.. وعندما يصعد نادي السكة الحديد إلي الأضواء ويفوز ببطولة الدوري وبطولة إفريقيا وكأس العالم للأندية.. والسكة دائماً منصور.
المفضلات