حدث في "سمرقند" .. ذكره المؤرخون من غير المسلمين قبل أن يذكره ابن كثير وغيره من مؤرخي المسلمينالعظام ... القصة تشبه الخيال، تماماً كقصص "ألف ليلة وليلة" .. ولكنها الحقيقة.
وقف "قتيبة بن مسلم" القائد المسلم الفذ،الذي فتح الله على يديه بلاد ما وراء النهر في أقصى شرق دولةالإسلام ... وقف هذه المرةحائراً لا يدري ما يفعل .. فهو علىأبواب بلاد "سمرقند"، البلاد العظيمة ذات المراعي الخضر، والجبالالشاهقة، والثروات الوافرة .. نعم هي بلاد تعبد الأوثان ولكن لهاجيشاً قوياً يحميها، وتاريخها مع الغزاة حافل بالانتصارات، وقتيبةيعلم ذلك ... لقد استعصت على الغزاة من قبله، وها هي تقف عقبة فيطريق فتوحاته نحو الصين. غير أن قائداً فذاً كقتيبة ما كانت لتعييه الحيل، درس الموقع من حوله، ثم
أمر جيوشه أن تتفرق وتتجه نحوالجبال الشاهقة المحيطة بالمدينة، وكـَمـِنَ المسلمون في الجبال مختفين عن أعين أعدائهم .. وفي الصباح، فتحت سمرقند أبوابها وبدأالفلاحون والتجار في الخروج لحقولهم وتجارتهم
.. فما راعهم إلاوجيوش المسلمين تنحدر عليهم من الجبال كالسيل الهادر، تجرف في طريقها كل شيء، وتلتقي في وسط المدينة في ساعات، دون أن تـُراقَقطرة دم واحدة.
وما هي إلا أيام حتى أدركوا أن المسلمين لا يريدون بهم الشر، بل هم "غزاة من نوع جديد" .. يرحمون الصغير، ويساعدون الضعيف، ويدعون لعبادة إله واحد ... لا يسرقون،ولا ينهبون، ولا يقتلون، بل يحمون الأمن وينشرون السلام ... عاملوهم في التجارة فوجدوهم أمناء، لا غش ولا كذب، لا ظلم ولا خداع .. ألم أقل لكم "أنهم غزاة من نوع جديد .. ونادر".
وفي السوق قامت مشاجرة عاصفة، بينشاب من أهل سمرقند، وجندي من المسلمين "الغزاة" ... وتجمع الناس في خوف وترقب، فلا شك عندهم أن جنود المسلمين سيتجمعون من كل صوب ليلقنوا الشاب من أهل سمرقند درساً لا ينساه، ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه أن يعتدي على جندي من "الغزاة" .. وتجمع الجند،وأحاطوا بالمشاجرة .. ووسط دهشة الجميع، اقتادوا المتخاصمين والشهود إلى القاضي. لم يتوقع أحد ممن حضر المحاكمة شيئاً مما حدث،أوقف القاضي المسلم الجندي المسلم بجوار الشاب الوثني، وحقق الأمربكل نزاهة ... ثم أصدر حكمه على الجندي المسلم !..
انتشر الخبر في طول المدينة وعرضها .. إن لهؤلاء "الغزاة" قضاءً عادلاً .... وهناك .. في الجبال البعيدة،وقف الشاب السمرقندي أمام كبير الكهان يقص عليه القصة التي أثارت استعجاب الجميع، وحين تأكد الكهان مما حدث قرر الكهان أن يرسلوا بشكواهم ضد "قتيبة بن مسلم" .. إلى أمير المؤمنين.
كانت أحلام النجاح تساور الكاهن الشاب، وأخذ يعد العدة لما قد يلاقيه من مصاعب، إذ كيف له أن يدخل على "أمير المؤمنين" ... ماذا سيقول له وهو يشتكي إليه أعظم قواده؟ .. وأخيراً .. ماذا عساه أن يفعل به وهو من أعدائه وخصوم دولته؟
. انتهت رحلة الكاهن الشاب عند بيت قديم من طين، في حي متواضع من أحياء "دمشق" ... هاهنا قالوا له أنه سيجد "أمير المؤمنين"، .. اقترب الكاهن الشاب من البيت فإذا رجل يصلح جداراً بالطين، وقد غطى الطين ثوبه ويديه، وكلما مر عليه أحد قال: "السلام على أمير المؤمنين" .. صعق الشاب مما رأى، أهذا هو ملك الدنيا الذي خضعت له الرقاب ؟! ..
وبينما هو مندهش يتأمل ... إذ جاءت امرأة مع ابن لها تطلب من أمير المؤمنين أن يزيد عطائها من بيت مال المسلمين ... ومال ابنها على لعبة في يد ابن أمير المؤمنين فخطفهامنه، ولما حاول ابن الخليفة استرداد لعبته، لطمه ابن المرأةالسائلة فسال الدم من وجهه ... وكأي أم هرعت زوجة أمير المؤمنين إلى ابنها فضمته، وضمدته، وانفجرت صارخة في المرأة وطفلها. هل تدرون من هي زوجة الخليفة هذه ؟ ... إنها "فاطمة بنت عبد الملك" ..ربيبة القصور والملك، التي كان أبوها وزوجها وإخوانها جميعاً منأعظم خلفاء المسلمين .. فماذا فعل "أمير المؤمنين"عمر بن عبدالعزيز ؟
نظر عمر إلى وجه المرأة وابنها وقد علاهالرعب، فهدأ من روعها، وأخذ اللعبة من ابنه وأعطاها للصغير الفقير،وأمر لها بزيادة العطاء .. وأخذ ابنه فقبله وهدأه .. ثم التفت لزوجته التقية وقال: "حنانيك .. لقد روعتها وابنها ... وقد قالرسول الله صلى الله عليه وسلم من روع مسلماً روعه الله يومالقيامة" ... ثم أكمل إصلاح الجدار.
أحس الكاهن الشاب أنه فيحلم ... ولكنه تجرأ واقترب من أمير المؤمنين ... ولما سأله عن شأنهقال: " سيدي .. إني صاحب مظلمة لأهل سمرقند .. جئت أشكي إليك قتيبةبن مسلم ... وقد علمنا عدلكم فطمعنا أن تنصفنا .. إن قتيبة أخذناعلى غـِرَّة، وقد علمنا أنه من عاداتكم أن تنذروا القوم ثلاثة أيامتخيرونهم فيها بين الإسلام أو الجزية أو القتال" ... قال عمر: "إنها ليست عاداتنا .. إنه أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليهوسلم" ..
قال الشاب: "فإن قتيبة لم يفعل ذلك" .. فأطرق عمر قليلاً ثم أمر الكاتب فكتب رسالة وختمها بختمه ودفعهاللشاب .. وقال: "أعط هذه لوالي سمرقند يرفع عنكم الظلم بإذن الله" ..
فض والي سمرقند رسالة أمير المؤمنين .. وقرأها .. ثم قال للكاهن الشاب: "سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين .. لقد أمرني أن أعين قاضياً يقضي في مظلمتكم .. وسأفعل من فوري .. وموعدنا بعد يومين .. فاذهب يا بني فات بالكهنة والقادة من قومك،ولهم منا الأمان" .. ثم أرسل في طلب "قتيبة بن مسلم". اجتمع الناس في المسجد حيث تعقد المحاكمة، وجاء القاضي المسلم .. ونادى الحاجب على كبير الكهان فتقدم، ثم نادى على قتيبة بن مسلم فأوقفه القاضيبجوار خصمه .. ثم أمر القاضي الكاهن أن يعرض مظلمته فقال: "هذاقائدكم قتيبة بن مسلم دخل بلادنا بدون إنذار .. كل البلاد أعطاهاخيارات ثلاث الإسلام أو الجزية أوالحرب ... أما نحن فأخذنابالخديعة". التفت القاضي إلى قتيبة وقال: "ما تقول في هذه الشكوى؟" ... قال قتيبة:
"أصلح الله القاضي .. الحرب خدعة …وهذا بلدشديد البأس، قد كان عقبة أمام الفتح .. وقد علمتُ أننا إن اقتتلناسالت دماء الفريقين كالأنهر ... فهداني الله إلى هذه الخطة ... وبهذه المفاجأة حمينا المسلمين من أذى عظيم وحقنا دماء أعدائنا ... نعم لقد فاجأناهم .. ولكن أنقذناهم وعرفناهمالإسلام".
قال القاضي: "يا قتيبة! هل دعوتهمللإسلام أو الجزية أو الحرب؟؟" .. قال قتيبة: "لا لم نفعل ... فاجأناهم لما حدثتك به من خطرهم" ... فقال القاضي: "يا قتيبة لقدأقررت .. وإذا أقر المدعي عليه انتهت المحاكمة ...
يا قتيبة مانصر الله هذه الأمة إلا بالدين ...ومن أعظم الدين اجتناب الغدروإقامة العدل .. والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهاداً في سبيل الله ... ما خرجنا لنملك الأرض ونحتل البلاد ونعلو فيها بغير حق". ثمأصدر القاضي أعجب حكم صدر في تاريخ البشرية ... قال: "حكمت أن تخرججيوش المسلمين جميعاً من سمرقند - خفافاً كما دخلوها - خلال ثلاثةأيام .. ويردوا البلد إلى أهله .. ويعطونهم الفرصة ليستعدوا للقتال .. ثم ينذرونهم ويخيرونهم بين الإسلام أو الجزية أو الحرب .. فإناختاروا الحرب كان القتال .. وذلك تطبيقا لشرع الله عز وجل وسنةنبيه صلى الله عليه وسلم".
تملكت الدهشة أهل سمرقند وهميسمعون ذلك الحكم التاريخي الخالد .. جيش غاز ملك البلاد واستتب لهالأمر، ثم يأمرهم قاضيهم أن يرحلوا عنها لأنهم لم يطبقوا شرع الله !! ثم أخذت الدهشة بمجامع أهل سمرقند جميعاً وهم يرون المسلمين يرحلون خفافاً مسرعين، فما انقضت الأيام الثلاثة إلاوالمدينة خالية من أي مسلم ... اجتمع أهل سمرقند وقادتهم وكهانهمفي وسط المدينة وهم لا يصدقون ما حدث .. ثم تداولوا بينهم .. إنقوماً هذا خلقهم لهم خير بني البشر، وإن قضاءً هذا فعله لهو العدل المطلق، وإن ديناً يأمر أتباعه بمثل هذا لهو الدين الحق .. ولم يطل الأمر حتى أسلمت "سمرقند" عن بكرة أبيها. إنه الإسلام .. دين الله الخالد .. وهذا تاريخنا الذي سطرناه بالنور ..يوم كنا خيرأمة.