أنا كما تعرفوني يعني، ملعب السياسة ده مش ملعبي، وبحس فيه بغُربة الحقيقة لإنّه عالم بيفكّر بطريقة مُختلفة عنّي وبيَرى الأمور عادةً من منظور مختلف جدًّا.. بس يعني زي ما تقولوا كده الظرف بيُحتّم علينا كلّنا الإشتراك بكُل ما نقدر عليه.

أنا حيرتي بقت ملازمة ليّ من أول أيّام الثورة لحد النهارده لإنّ كمّية الألغاز اللي بيُطلَب من الواحد انّه يحاول يحلّها كل يوم مرعبة الحقيقة زي ما كلّكو عارفين؛ ناس كتير وطنيين بيكتبوا بحماس عن الموضوع ده أو ذاك ولانّهم مُختلفين بيطلّعوا آراء مُختلفة، لما تكون كلّها بتبدو منطقية بيصعب على البني آدم انّه يختار انّه يتبنّى أي واحدة من وجهات النظر دي من غير على الأقل ما يحس بالشك إذا ماكنتش الشكوك، في نفسُه وفيما يقرّر.. وفي المقالة دي أتمنى انّي أنقلّكوا بأمانة وحياد، الطريقة اللي شايف بيها الأمور في لحظة الكتابة هذه، مما تعلّمت من بتوع السياسة.. عسى إن دَه يُزيل بعض الغموض.

المسألة اللي بتشغل تفكير أغلب الناس دلوقتي هي مسألة التعديلات الدستورية اللي حتُطرَح للاستفتاء بعد أيّام، وخصوصا لكونها الخطوة الأولى اللي حنمشيها في طريق المستقبل الطويل.. بيقولوا كلام كتير الناس عن الموضوع وكُلُّه من النوع ده اللي يبدو منطقي، وعشان انا شخصيًّا أحل أزمتي دي، قرّرت أتعامل معاها زي ما بتعامل مع كُل حاجة تانية، سوف أُعمل العقل والفطرة والحجّة المنطقية على الموضوع ده لحد ما أنجح أو لا أنجَح في إزالة غموضه.

الغموض مبدئيًّا مصدره بالنسبالي أنا انّي مش فاهم بالظبط إيه اللي بيمنعنا من إننا نبدأ نؤسس للدستور الجديد دلوقتي حالًا وقبل الانتخابات سواء الرئاسية أو البرلمانية بما إن كلّنا متّفقين إن الدستور الحالي بتاعنا دستور مريض ومعيب وفيه ما فيه! يبدو كده إن أهم سبب بيتكلّم عنُّه الموافقون على التعديلات الدستورية انّهم عايزين البرلمان هو اللي يكتب الدستور من خلال لجنة المائة اللي اتكلّمت عنها التعديلات، على أساس يعني إن اللجنة دي حتبقى مُنتخبة من مجلس الشعب المُنتخب أصلًا، وبالتالي حيبقى عندنا ثقة كبيرة فيها. بس انا بصراحة برضه مش فاهم الثقة العمياء اللي في الانتخابات دي ونتيجتها مصدرها إيه، جايّة منين.

عايزين أعضاء مجلس الشعب اللي يعملوا الدستور بمناسبة إنّهم عارفينهُم منين؟ المجلس ده ونوع النائب اللي حيبقى قاعد فيه هي مسألة الحقيقة لا يعلمها إلا الله، دي المفروض إنّها حتبقى أوّل إنتخابات نزيهة فعلًا في تاريخ المصريين الحديث، ظروفها لسة مش عارفينها، عدد نوّاب الوطني اللي حيلبسوا حُلَل جديدة مكتوب عليها 25 يناير مش عارفينُه، زائد إنّنا عارفين إن لسّة قدرة عامّة المصريين على إختيار عضو برلمان أهل للثقة لسة في المهد، يبقى مطلوب منّنا نثق في المجهول كده ازاي.

أنا عارف إن أي برلمان حيبقى أداؤه أحسن من برلماناتنا السابقة، لكن ده فيما يتعلّق بالرقابة على الحكومة، لكن بوضعنا السياسي الحالي وبكون دي أول انتخابات نزيهة حيُجريها المصريين، ماينفعش نوكِل لناس مانعرفهُمش كده، بل كمان عندنا أسباب واقعية للشك في كتير منهم، ونقول هُمّ دول اللي حيعملوا الدستور اللي حتتبني عليه مصر.

يقولوا أصل الدستور لازم يكتبه مجلس تأسيسي منتخب، طب ما نعمل مجلس تأسيسي، هو احنا قلنا لأ.. أصل الناس حتختلف على أعضاءه، ما الناس بشكل عام ماختلفوش على أعضاء اللجنة اللي بتعمل التعديلات المُستفتى عليها، وبعدين لو كانوا حيختلفوا على تلك المسألة دلوقتي، فتفتكروا يعني انّهُم مش حيختلفوا وهم بيعملوا انتخابات مجلس الشعب.

والمائة عضو من أعضاء البرلمان وهُمّ بيحطّوا الدستور مش حيختلفوا؟ ماهُم كده كده حيختلفوا، ليه ده شيئ مُخيف يعني، وخصوصًا واحنا عارفين انُّه حيحصل!، أنا بشكل شخصي يفي بالسبالي بالغرض ويزيد عليه إن أي لجنة يختارها المجلس العسكري الحاكم من الشخصيّات العامة المرموقة والقانونيين تحدد شروط لاختيار أعضاء اللجنة واضعة الدستور ويحطوا الأسامي وتطرح للنقاش ولو حد من المعنيين عندُه إعتراض على حد في اللجنة يتفضل بيه، ولو ماحدّش مُعترض عليها يبقى تشتغل اللجنة فورًا في صياغة الدستور الجديد.. ولو الإستفتاء الشعبي على الدستور كُلُّه مسألة صعبة، مايحصلش إستفتاء شعبي على الدستور كُلُّه!.. لو لجنة وضع الدستور دي عبارة مثلًا عن 30 عضو، ممكن يبقى فيه لجنة موسّعة من 100 عضو يتم اختيارهُم بنفس الطريقة وهي دي اللي يستفتوها على الصيغة النهائية مثلًا.. الديمقراطية مش بالعدد، وأسهل للمواطن بكتير إنّه يضع ثقته في لجنة معيّنة لصياغة الدستور من أسماء لا تشوبها شائبة عن إنّه يقول رأيه في مواد الدستور اللي حتمثّله تحدّي كبير في فهمها أصلًا.. والوقت والمجهود المطلوبين لتحديد لجنة وضع الدستور ولجنة الإستفتاء عليه، ماحدّش أرجوكو يقولّي إنّها أطول وأصعب من انتخاب نوّاب البرلمان.

بل بالعكس إختيار نوّاب لبرلمان يقود التحوّل الديمقراطي الإصلاحي المنشود في اللحظة دي تحديدًا يبدو إنّه أصعب المهام على الإطلاق
وبرجاء أيضًا ملاحظة إن فيه فرق مهم بين أعضاء لجنة وضع الدستور عن أعضاء مجلس الشعب اللي حيحطوا الدستور، إن أعضاء اللجنة الأولى مش مُستفيدين حاجة من وجودهم في اللجنة دي لكن أعضاء مجلس الشعب بيستفيدوا من وجودهم في مجلس الشعب، وانا أحسنلي بكتير كمواطن إن مَن يصوغلي الدستور وبيصوّت عليه، يبقى مش مستفيد أي حاجة وهو بيعمل كده.

أصل وضع الدستور حياخد وقت؛ هو ربّنا اللي قال انّه لازم ياخد وقت؟ ما احنا عندنا أساتذة دستور بيقولوا إنّه ممكن ماياخدش لو الرغبة فعلًا متوفّرة، ما احنا عندنا دستور 54 اللي أغلب الآراء المتخصّصة اللي سمعتها عنّه بتقول إنّه نقطة بداية عبقرية، وبشغل مش كتير أبدًا ممكن يصلُح جدًّا لمتطلّباتنا.. وتاني، مين قال إن أعضاء مجلس الشعب المائة مش حيمرّوا بنفس ظرف الإختلاف بينهم وبين بعض؟ ولّا مش حيختلفوا وحيخلّصوا الدستور بسلاسة ومن غير خناقات؟ يبقوا حيعملوا دستور سيء.

يقول البعض إن العيب الواضح الجلي لانتخاب رئيس الجمهورية قبل البرلمان في السيناريو موضوع النقاش هو إن ده بيدّيلُه صلاحيات الفرعون اللي عنده في الدستور القديم.. ماهو ده واحد من أسباب ان الدستور القديم لازم يسقط! ماننتخب رئيس للجمهورية على قاعدة دستورية سليمة أصلًا فيبقى عندنا بدل الضمانة ألف إنّه مش حيقدر يبقى فرعون جديد ولا حاجة.. ولو لأي سبب الدستور حيتأخّر فعلًا، ما نعمل نواة لدستور فيها ما يكفي من مواد للرئيس الجديد انّه يمارس مهامُّه مع الحد من صلاحياتُه وسد الطريق أمام فرعنتُه، لحد ما ننتهي من وضع الدستور و بعدين ننتخب البرلمان، إيه المشكلة برضه.

هل المُشكلة ان حيبقى عندنا رئيس لفترة ما غير مُراقَب من البرلمان؟ صحيح ده اللي حيحصل في السيناريو ده، لكن ما الدستور واقف حكم، سواء كان خلص بالكامل أو لأ بلاش كده، مانعيّن حَكَم من الدستورية العُليا أو نادي القُضاة أو أي حكم يرتضونه الناس.

فيه نقطة واحدة الحقيقة أراها بتمثّل مخوف حقيقي عند كثير ممّن يريدون تأجيل صياغة الدستور، إنّهم قلقانين إن الدستور المصري الجَديد يُولد في ظل الظروف الصعبة اللي احنا فيها دي من عدم استقرار والأهم عدم "جهوزية" الشعب للدخول في حوار مُطَوّل حول دستور كامل، بس أوّلًا أكرّر النقطة اللي اقترحتها تاني، في إن مش مكتوب في القرآن إن لازم الشعب يُستَفتى على الدستور إذا أناب عنُّه من يقدرون على هذه المهمّة ويكونوا أهلٌ لها.. وثانيًا حتّى لو وضعنا دستور جديد دلوقتي في ظرف متوتّر ونتج عن ده عيوب في الدستور، ما نصلّحها، كتبنا دستور وحش؟ ما نغيّرُه تاني.. أنا شايف إن لازم موقفنا تتحلّى بالشجاعة المدروس عواقبها أحسن ما نؤثر السلامة ونمشي بخطوات أبطأ.

فكرة الرهان على الأشخاص إحنا إتعلّمنا خلاص إنّها لا تَفي بالغرض، ففي رأيي ولا نراهن على الرئيس القادم ولا نراهن على البرلمان القادم الذات البرلمان القادم، أمّال نراهن على مين؟ نراهن على الدستور؛ يبقى عندنا دستور يضمن إننا مش حنتخطف تاني، يبقى عندنا دستور يفصل بين السلطات ويحد من صلاحيّات الرئيس وبيضمن الحريّات ويصونها ويحمي نزاهة الإنتخابات. وبعدين ننطلق بقه "في حماية الدستور" نعمل كل حاجة تانية.

المقصود يعني هُو ان لو عندنا مشكلة نحلّها، ولو المشكلة سببها دستوري، نُسقط الدستور كما تفعل الثورات.. ولو الحلول القريّبة الجاهزة المتجرّبة قبل كده عندها عيوب، يبقى ندوّر على حلول جديدة، يتعلّمها منّنا الناس اللي سوف يحذو حذونا في المستقبل، ليه الإنغلاق دَه وليه التقيُّد بقواعد قد تضرّنا في حين إن، لو انا بعرف ألاقي حَل للمشاكل اللي بتواجهها الخطة يبقى أكيد فيه عشرات الحلول غير اللي انا بقوله ده ممكن ندوّر عليها ونحل بيها مشكلاتنا.. بس أصلًا ليه أي سبب من دول كافي لأن نعود أدراجنا ونبدأ ندوّر في الحلول الوسطى كُلّها كده ليه نضطر إننا نبيع لنفسنا حاجات مش منطقية على إنّها منطقية، ليه نَرضى بإنّنا نقيّد أنفسنا بأيدينا بعد ما أخيرًا فتحنا باب السجن اللي كُنّا عايشين فيه.

ممكن يكون السبب هو إن السادة أعضاء لجنة عمل تعديلات الدستور والسادة المجلس العسكري اللي عيّنهُم، كُلّهم بينتموا لجيل اتعوّد على إتّباع الخُطى والسير على طريق واضح مُسبَقًا، بس ما الواحد كمان بيشوف كتير من أهل هذا الجيل أذرعتهم مفتوحة لكُل الأفكار وأرواحهُم قادرة جدا على استيعاب التغيير اللي بتفرضه مرحلة المخاض الحرجة اللي بيعدّي فيها الوطن الجديد دلوقتي
وخلّوا بالكو من حاجة مهمة من فضلكو؛ مش معنى انّي مش شايف سبب وجيه لعدم البدء فورًا في العمل على الدستور الجديد.

هو انّي مُعتبرها خُسارة فادحة ولا تعوّض لو ده ماحصلش، في النهاية أنا مصدّق إن الأمور حتتجه نحو الصواب في كُل الأحوال، كُل المسألة إن فيه ناس أصبر من غيرهُم وفيه ناس أكتر زهقوا من عقود الظلام وعايزين يكتبوا دستور يضمن دخول النور دائمًا ومن أوّل اللحظة اللي احنا فيها دي.

وأخيرًا، بالرّغم من إن الدعوة للصبر على كتابة الدستور الجَديد حتّى يُهيّألُه ظرف مناسب أكتر يتخلق فيها، هي طريقة أخرى لرؤية الأمور، وطريقة عندها مخاوفها الوطنية الخاصّة، بل وإنّها قد تكون فعلًا بتقترب أكتر من الصواب؛ إلّا إنّي بشكل شخصي إذا لم يجد جديد، سوف أصوّت بـ "لا" على التعديلات الدستورية لإنّني ممّن يريدون دستورًا جديدًا ولو انّي طبعًا ماعنديش أي ضمانة إن الـ "لا" بتاعتي وبتاعة غيري حتترجم لكده فعلًا، بل في الحقيقة لازم نبقى عارفين إن لو الأغلبية قالت: لا، مش حنبقى عارفين إيه اللي حيحصل بعد كده، لإنّنا حنرجّع ساعتها الكورة في ملعب المجلس العسكري الحاكم

ولو حصل إن التعديلات قُبِلَت يبقى حضطر أرضخ لحُكم الأغلبية الديمُقراطي أيًّا كان المكان اللي حتودّينا فيه، شأني شأن من يحترمون الديمُقراطية حتّى لو كانوا لا يحبّون عيوبها
عاشت مصر حُرّة بأيدي أبنائها الأحرارأحمد العسيلي