اسمحولي النهاردة اتكلم بصفتي كاستاذ إعلام .. مش كاستاذ في جامعة الأزهر ..
كلنا متفقون في الهدف الواحد وهو بناء دولة حرة يشعر فيها الفرد بقيمته وأهميته .. وتلبى فيها مطالبه ، وتحترم فيها عقيدته ، وتطبق فيها شريعته .. أليس كذلك ؟

وكلنا في المقابل ضد العلمانية والإلحاد بما فيهما من احتقار للدين ، واستهانة بالشريعة .. أليس كذلك ؟

وكل شخص يسعى لإقناع الآخر بأن المصطلحات التي يستخدمها هي المصطلحات الصحيحة وأن ما عداها باطل .. أليس كذلك ؟

هذا الذي نتكلم فيه هو علم من علوم الدعاية والإقناع يسمى علم التسويق السياسي والاجتماعي ..
والحرب بيننا وبين العلمانيين هي حرب تسويق تستخدم فيها المصطلحات كأدوات للترويج للأفكار .

لكني أرى وللأسف أن هذه الحرب يستخدمها الآخر على نحو أفضل منا بكثير ..

ودعونا نفصل المسألة بهدوء ..
لماذا في رايكم لا يروج العلمانيين والملحدين لأفكارهم بالقول إننا ملحدون وعلمانيون ، ونريد هدم أي مرجعية دينية ..
لأن هذا التسويق سيعزل ملايين الناس عن الثقة بهم وبأفكارهم ..

فما هي النتيجة .. هي السطو على الأفكار والمصطلحات حسنة السمعة وتطويقها بطوقهم واستئثارها .. حتى يظن الناس أن المدنية والليبرالية والحرية والتقدمية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير هي اساس فكرهم .. وهذا في الحقيقة كذب وافتراء فالدولة العلمانية ليس لها في ذلك الكثير كما وضحت في مقالات ومداخلات كثيرة سابقة .


ماذا فعلنا نحن بالمقابل ..
اقتنعنا أن هذه المصطلحات ملكهم فعلاً .. وهذه هي الكارثة الكبرى ، وبدأنا بحرب هذه المصطلحات رغم اتفاقها النسبي مع ما ندعو به .. وصرنا نؤكد على استئثارهم بكل هذه الأمور .. وحدهم .. فصرنا كمن يرفض الحرية وحقوق الإنسان ..الخ

وهكذا نجحوا في المرحلة الأولى .. وهي الاستتئثار بالمصطلحات ذات المعاني الجيدة .

ماذا فعلنا بالمقابل ..
قلنا إننا ندعو للدولة الإسلامية (هكذا وفقط ) دون أن نحدد طبيعتها وشروطها للعامة أو لمن يسمعنا .. فصرنا نقابل بأسئلة كثيرة نختلف فيما بيننا في إجاباتها ..
ما هي دولة الإسلام ؟
هل هي الدولة بالنموذج الإيراني أم السعودي ؟
هل هي دولة عصر النبوة والخلفاء ؟
هل هي دولة الدول الإسلامية ؟
هل هي دينية ؟
ما الفرق بين تطبيق الإسلام في السياسة وتطبيقه في الحياة ؟
هل الإسلام السياسي هو تطبيق للإسلام كدين أم كشريعة أم كمبادئ أم كمنهج تفكير ؟
هل فشل الممارسة السياسية للإسلام في الدولة يعني فشل الإسلام كدين أو كشريعة ؟

وهكذا مئات الأسئلة التي نختلف تماماً فيما بيننا في الإجابة عليها .. وبالتالي ننشئ حالة من الغموض الذي يؤدي بالتبعية إلى تشكك أي فرد مخاطب في طروحاتنا ..

وهكذا صارت كلمة إسلامية تحتاج إلى شروح كثيرة .. وتدل على فئات مختلفة في المفهوم وفي المصطلح .. رغم متانة وصلابة جوهر ما ننادي به جميعاً ..

ماذا يحدث في المقابل .. يتم تصويرنا على أننا ننادي بشئ غير مفهوم أو متفق عليه ، والدليل اختلافنا فيما بيننا ..

أما الآخر فقد كان خطابه رمزياً سهلاً واضحاً .. مدنية ليبرالية حقوقية ..الخ

وهكذا بدلاً من أن يصير هدفنا هو التسويق والترويج .. صار هدفنا هو الدفاع والصراع .. وكفى بها أزمة تشغلنا عن تطبيق ما نبغيه ..

وصرنا بهذا الأسلوب لا ننجح إلا في ضم فصيل من المسلمين الذين من المفترض أن يكونوا جميعهم معنا ..
فبدلاً من أن نكسب الأنصار صرنا نصدر الأنصار للآخرين ..
إذ مع كل مصطلح أتخلى عنه أفقد أنصاره ، ومع كل صفة أضيقها أخسر أنصاراً ..
فلو قلت إن دولة الإسلام هي ديمقراطية حرة مدنية ليبرالية .. فقد كسبت المسلم والديمقراطي والحر والليبرالي والمدني ..
وإن قلت إن دولة الآخر هي علمانية إلحادية فاسدة .. فقد سحبت منه كل متدين مؤمن شريف ..

ولنا في السيرة النبوية خير دليل .. فحين عبر جعفر بن أبي طالب عن دينه أمام النجاشي لم يتكلم عن الإسلام كمصطلح .. فلم يقل إنه يعني إسلام الوجه والقلب والبدن لله تعالى .. ولم يقل إنه إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولم يقل هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..

بل قام بمقارنة رائعة بين جوهر ما كانوا يفعلونه في عهد الشرك والجاهلية .. فقال :
أيها الملك، إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى عبادة الله وحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، فصدقناه وآمنا به، فظلمنا قومنا وعذبونا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما ظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك

فتكلم عن الممارسة والجوهر لا المصطلح ..

أما نحن فلا يزال خطابنا خطاب إقصاء وإفهام ..
أساس الإقناع هو الرمز .. والرمز ينبغي أن يكون مختصراً مختزلاً ملهماً ..
وأساس التسويق له هو الإلحاح والتركيز على التوافقات مع من يدورون حولنا وحول مبادئنا .

ولا زلت أعجب من تاريخ سوء استخدامنا للمصطلحات ..
فلا زلنا ندافع عن (الحجاب) رغم أنها كلمة نحلت على ثقافتنا .. فالإسلام لا حجاب فيه ولم يسم ستر العورة حجاباً .. وهذا المصطلح ذو المعنى السيء لستر العورة صار أيقونة نستميت في الدفاع عنها رغم أن جذرها اللفظي حين ذكر في القرآن ذكر بمعنى سلبي (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) وتركنا لفظاً إيجابيا في المفهوم والمعنى كالخمار رغم ذكره في القرآن " وليضربن بخمرهن على جيوبهن "
وهكذا أسأنا للجوهر باستخدام مصطلح سيء للغاية ..
والأمر ذاته حين أسمينا الاحتلال بالاستعمار .. وصرنا كمن يرفض العمران والعمارة والإعمار ..

والمسألة لا تتوقف عند هذا الحد بل إننا بممارساتنا كذلك أسأنا لمعان حميدة كالجهاد والشورى وغيرها .

المسألة إذن في انعدام فقهنا بأسس التسويق السياسي ..
فحين أنادي إسلامية للعامة في مصر والعالم .. لابد أن أعي أنني أفقد من هو غير مسلم ، وأفقد من بين المسلمين من هو ضد الدولة الدينية (إذ أحتاج إلى إفهامه أن دولة الإسلام غير دينية ) وأفقد الليبرالي (إذ أحتاج إلى إفهامه أن دولة الإسلام حرة لا إقصاء فيها ) وأفقد الحقوقي (إذا أحتاج إلى إفهامه أن دولة الإسلام تراعي حقوق الإنسان وحقوق الأقليات ) وأفقد الديمقراطي (إذ أحتاج إلى إفهامه أن دولة الإسلام دولة شورى وتشارك )

وهكذا أفقد وأفقد وأفقد ..
ولو أنني أضفت الرمز في قيود ملازمة .. وحاربت من أجل الحفاظ على جوهر المصطلحات التي يستقطبها ويستخدمها الآخر .. فقلت ببساطة

إسلامية مدنية ديمقراطية ليبرالية ..
فقد كسبت كل الناس ..
دون كتابة عشرات الصفحات ، ودون إفهام كل مختلف ، ودون جهد جهيد ..

وفي الوقت ذاته أستطيع أن أقول أن الآخر هو علماني إلحادي لا ديني
حتى ينصرف الناس عنه ..

القيم التي يدعيها الآخر وهو منها براء هي قيمي أنا وقيم ديني ومنهجي في جوهرها
لكنني ببساطة أتخلى عنها له لأني لا أحب لفظها أو مصطلحاتها ..


تقبلوا جميعاً خالص مودتي