قد تتشابه الظروف

و من الممكن ان تتماثل المواقف

بل من الوارد ان تتكرر الانتهاكات و الجرائم

لكن الواقع مختلف

فالتعامل مع ثقافة تعبر عن قناعات معلنة حتى لو كانت عنصرية بغيضة، مغاير تماما للتعامل مع عصابة بكل معنى للكلمة.

مقال اكثر من رائع للاستاذ احمد الصاوى يرصد تجربة جنوب افريقيا فى ضوء الواقع المصرى

عن محاكمة فعقاب فتسامح بلا نسيان نتحدث

اترككم مع المقال


جزء أصيل من نجاح أى ثورة هى قدرتها على التطهر من كل خطايا الماضى التى ثارت عليه وتكونت لتغييره والإطاحة به.. تسمع كثيرا هذه الأيام أحاديث عن التسامح والنسيان آخرها رسالة الزعيم الأفريقى صاحب التجربة الخالدة والنادرة نيلسون مانديلا التى دعا فيها لاستلهام تجربة بلاده فى المصالحة، وقبل مانديلا كان البعض يحدثك عن النظر للأمام، والالتفات للبناء، دون الاستغراق فى فتح ملفات الماضى، وهو حديث يحمل من الوجاهة الكثير لا شك، لكنه ربما يصدر عن من يحاول إغلاق الماضى على جروحه ربما ليفلت من المحاسبة، أو ليفلت من يحبه، وهذا ممن يقولون لك كلمة الحق التى يراد بها باطل، وهناك من يطلب منك ذلك بحسن نية وهو متطلع بالفعل للبناء ويرى أن الأهم هو التفكير فى صياغة المستقبل، بدلا من الاستغراق فى مستنقعات الماضى، وهى نوايا طيبة قطعا وأهداف نبيلة لا يمكن أن تستهجنها.

لكن الفارق كبير كما تعرف بين تجربة جنوب أفريقيا والتجربة المصرية، قطعا الأولى كانت أقسى وأعمق نفسيا، لكنها حسب وصف مانديلا تطلبت لإنجازها مصالحة قائمة على اعتراف الجانى أمام المجنى عليه واعتذاره، وحتى هذه اللحظة ومع كل التسريبات التى تخرج من التحقيقات مع رموز النظام السابق ورأسه، لا أحد يتحدث عن خطأ أو يعترف بذنب، ناهيك عن أن التعامل مع ثقافة تعبر عن قناعات معلنة حتى لو كانت عنصرية بغيضة، مغاير تماما للتعامل مع عصابة بكل معنى للكلمة.

الحديث جميل عن التسامح والنسيان، وإن كنت أميل إلى اعتبار التسامح فضيلة، أما النسيان فجريمة، خاصة إذا ما تعلقت بإضرار عمدى بك وبمستقبلك ومقدراتك.. يمكن أن تتسامح، لكن إياك أن تنسى، لأنك إذا فقدت ذاكرتك، وخرج من وعيك ما تسامحت عنه، فإن هذا التسامح سيتحول إلى لا شىء بمجرد نسيان أسبابه، التى سيتناساها الجانى نفسه. المجتمعات تحيا بالذاكرة، وتأخذ العبر والدروس من السوابق، وما تأخرنا وتراجعنا ودخلنا فى عقود انحطاط إنسانى وحضارى، إلا لأننا نسينا، ولأن ذاكرتنا طوال الوقت كانت ضعيفة، و«النفس الجمعى» كان قصيرا جدا فيما يخص القضايا الحيوية، وعندما تتحدث عن التسامح، لابد أن تفهم أنه قبل حدوثه يلزم حدوث شىء من اثنين هما الاعتذار أو العقاب، وقطعا أنت تعرف أن هناك أمورا يكفى فيها الاعتذار، وأمورا لا يجوز فيها إلا العقاب، وبدون إحدى هاتين القيمتين الكبيرتين لا يجب أن تتحدث عن التسامح أو تحاول الترويج له.

لكن وأنت تنشد العقاب لابد أن تعرف أن ترك هذه الرغبة فى العقاب رهن مشاعر الناس، وعدم ضبط فوران الاتهامات التى تذهب مرسلة، قد تؤدى إلى أن تفقد الثورة كل زخمها القيمى، بمجرد أن يتحول قطاع كبير من المتهمين إلى مظلومين حقيقيين يضحى بهم من أجل تهدئة رأى عام ثائر ومنفعل. حتى تنجز الثورة مهمتها، لابد أن تضمن أولا محاكمات عادلة للجميع بمن فيهم خصومها المباشرون، وأن تصر على العقاب، قبل أن تتحدث عن التسامح، وتدعو للتسامح بعد العقاب ولا تدعو أبدا للنسيان..!