محاولة لرفع الالتباس


جمال سلطان | 19-07-2011 01:48

منذ أطلق اللواء الفنجري بيانه الأخير والذي اتسم بلهجة متشددة انقسم الرأي العام حيالها ، بين مرحب بها بشدة ورافض لها بشدة أيضا ، والجدل يكاد ينحصر في جزئية محددة من هذا البيان ، وهي المتعلقة بإعداد وثيقة يستهدى بها في صياغة الدستور الجديد ، فقد هلل الليبراليون واليساريون لهذه النقطة كثير وبنوا عليها أفكارا وخططا وبرامج ومؤتمرات ينعقد أحدها غدا من خلال المهندس ممدوح حمزة المقاول العام لمشروعات الاحتجاج والتهييج السياسي في مصر حاليا ، وقطاع آخر من الإسلاميين وقوى وطنية ليبرالية أخرى أبدت قلقها الشديد من هذه الخطوة والبعض انتقدها بشكل علني وطلب تفسيرا لها .

عندما استمعت إلى بيان اللواء الفنجري أول مرة لم أتوقف كثيرا عند هذه النقطة حينها ، وعلق في ذهني أن الأمر مجرد طرح رؤية استشارية للجنة التي يتم اختيارها فيما بعد لإعداد الدستور ، ولكن الجدل جعلني أتشكك في ذاكرتي وفي فهمي لخطاب هذا القائد العسكري "المحترم" ابن الأسرة المحترمة التي قدمت أبرز شهداء العسكرية المصرية في حرب أكتوبر ، والحقيقة أني قلقت فعلا ، حتى أتتني رسالة صديق المصريون "وليد الجمل" لكي تبدي استغرابها من الحديث عن صياغة مبادئ دستورية ، وتؤكد لي أن هذا لم يرد أبدا في بيان اللواء الفنجري ، وأن النص الحرفي لما قاله في هذه النقطة هو (تشكيل لجنة لوضع المبادئ الحاكمة لضوابط اختيار اللجنة التأسيسية لوضع الدستور) ، أي أن الكلام لا يتعلق بالأفكار أو المبادئ النظرية والدستورية ، وإنما يتعلق بتقريب الإطار الذي يستهدي به البرلمان المقبل عند اختيار الشخصيات التي يناط بها إعداد الدستور الجديد ، ولكن يبدو أن البعض أراد أن يختطف الكلام بعيدا على هواه ، لكي يوهم الجميع بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة فتح الباب للالتفاف على الاستفتاء الدستوري وما تمخض عنه من خريطة طريق لبناء الديمقراطية المصرية الجديدة ، وأنه يصادر حق البرلمان المقبل في ادارة عملية صياغة دستور جديد .

غير أن ما جعل هناك لبسا متزايدا ، ما صرح به الدكتور أسامة الغزالي حرب من أن القيادات العسكرية طلبت منه أن يضع مبادئ حاكمة للدستور الجديد ، أو مبادئ فوق دستورية كما يقولون ، ثم ما خرج به "حرب" بسرعة البرق من وثيقة مبادئ وضعها اعتبر أنها المبادئ الحاكمة للدستور وكتب عنها بالحرف الواحد يقول (ينص مشروع الوثيقة الذى يضم مقدمة و12 بندا، أن هذه الوثيقة جزء لا يتجزأ من الدستور، والحقوق الواردة فيها غير قابلة للإلغاء أو التنازل أو التعديل أو التقييد) ، أي أن الغزالي حرب أنزل "النص المقدس" له في مقام النصوص المقدسة الأخرى عند أصحاب الأديان ، تماما مثل القرآن الكريم ، لا يجوز للشعب تغييره ولا تبديله ولا الزيادة فيه أو النقص منه ، وهو "استهبال" فكري وقانوني وسياسي كنت أنزه الرجل عن أن يتورط فيه بهذه الجزافية .

ولا أظن أن المجلس العسكري أو غيره إذا أراد أن يبحث عن نصوص دستورية فعلا ، فوق أو تحت أو على يمين الدستور أو على يساره ، طالما نحن في زمن التهريج ، لا أظن أنه كان سيذهب إلى "كاتب سياسي" مثل أسامة الغزالي حرب ، وإنما المنطق أن يذهب إلى فقيه دستوري مثلا ، كما أن صياغة مبادئ حاكمة للدستور يستحيل أن ينفرد بها شخص ، والمنطق أن يتولاها مجموعة من الحكماء وشيوخ القانون ، والحقيقة أن النصوص التي أعدها الغزالي حرب ، والتي جعلها اثني عشر بندا ، تبدو مضحكة جدا إذا تذكرت أنها نصوص دستورية ، مثل البند "الدستوري" الذي يقول فيه (لكل مواطن الحق فى المشاركة فى الحياة الثقافية بتنوعاتها المختلفة) ، والبند الآخر الذي يقول فيه (الحق فى العمل مكفول، وتلتزم الدولة ببذل أقصى جهد ممكن لتوفير العمل لكل مصرى بشروط عادلة دون تمييز، وبأجر يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان، وبالعمل على حمايته من البطالة. ولكل مصرى الحق فى إنشاء والانضمام إلى نقابات حماية لمصالحه وحقوقه) ، فالحقيقة أن هذا كلام مصاطب ، ولا مؤاخذة ، وعندما تنسبه إلى "وثيقة دستورية" ناهيك عن أن تكون فوق الدستور ذاته ، فأنت تحول المسألة بكاملها إلى مسرحية كوميدية بلا أدنى تزيد أو مبالغة في الوصف .

الشيء الوحيد الذي يمكنني أن آخذه على محمل الجد في "الوثيقة" التي كتبها أسامة الغزالي حرب ، ليس ما ذكره من كلام فارغ أو مطالب نقابية أو خطب سياسية على أنه "مبادئ" ثابتة في دستور مصر ، ولكن تعمده طوال البنود الاثني عشر التي اعتبرها ثوابت لا تزول تجاهل أي إشارة إلى هوية مصر العربية الإسلامية ، ودع عنك تجاهله النص المهيب في المادة الثانية للدستور ، وهي رسالة بأنك يمكن أن تلعب في هوية مصر ، في عروبتها ، في إسلامها ، لأن ذلك ليس من الثوابت المصرية ، ولا المبادئ الحاكمة لدستور مصر ، .. مثل هذا التطرف والعناد الأيديولوجي يعني أن قطاعا من النخبة المصرية وصلت عزلته عن المجتمع إلى حد يصعب علاجه أو جبره .